تحكي ليلى الطرابلسي، زوجة الرئيس التونسي السابق، زين العابدين بنعلي، لأول مرة، روايتها لما يعرف ب«ثورة الياسمين». في هذه الحلقة، تروي الطرابلسي تفاصيل يومها الأخير في تونس. تعود إلى الأحداث التي ميزت 14 يناير 2011. ترفض أن يقال إن زوجها هرب من مواجهة شعبه.كما تنفي الإشاعات التي تحدثت عن تهريبها أطنانا من الذهب من البنك المركزي التونسي وملايين الدولارات، وتكشف الذهول الذي أصاب بنعلي بعد تأكد إبعاده من تونس وتفاديها بمعية أسرتها متابعة القنوات التلفزيونية هربا من سيول الاتهامات والشهادات المزورة والحكايات المغلوطة والتصريحات المشينة التي انهمرت عليهم من كل حدب وصوب. ماذا حدث يوم 14 يناير 2011؟ إشاعات مغرضة وولاءات كاذبة وقرائن مفبركة من كل الأنواع تم ترويجها في ذلك اليوم المشهود. يلزم أن أبدأ، قبل كل شيء، بإعادة الأمور إلى نصابها وروايتها تماما، كما عاينت وعشت أحداثا ميزت مغادرتنا القسرية للبلاد وفتح صفحة جديدة في تاريخ تونس. استيقظت يومها قرابة الثامنة صباحا بمنزلنا الكائن بسيدي بوسعيد. كان الجو جميلا وكان منظر البحر رائعا. غير أنني لم أكن في حالة تسمح لي بالاستمتاع بمثل هذا المنظر، لأن الأنباء التي تردني منذ أيام لم تكن مطمئنة على الإطلاق. موجة احتجاج عارم تجتاح البلاد بدأت من الجنوب والوسط قبل أن تمتد إلى العاصمة. لقد بدأ القلق يدب إلى عائلاتنا. عاينت الزوجة السابقة لأخي ناصر النيران تلتهم منزلها عشية ذلك اليوم. أختي جليلة لاذت بمنزلي منذ الأربعاء، أي قبل يومين، عندما بلغ إلى علمها تربص عصابة تعتزم الاستيلاء على ممتلكات آل الطرابلسي وتستهدف حياتهم. الشيء نفسه ينطبق على أخي بلحسن، الذي رأى أنه من الحكمة أن يلوذ بمنزل زوج أمه ليقضي هناك بضع ليال برفقة زوجته وأبنائه. كنا نعلم بكل تأكيد بأننا نعيش لحظة عصيبة، غير أنني لم أتصور بأننا سنضطر إلى المغادرة في غضون ساعات. كانت دهشتي كبيرة يوم الجمعة 14 يناير برؤية أفراد من عائلتي يتقاطرون على منزلي. إخوتي وأخواتي وأبناؤهم وأخواتي غير الشقيقات، وبعض من أفراد عائلة بنعلي. كانت الفوضى سيدة الموقف مع تحذيرات من خطر محدق. كان علي السرياتي، رئيس الحرس الرئاسي، أرسل إليهم، دون علمي، سيارات رباعية الدفع لجمعهم في منزلي بسيدي بوسعيد. سئلت عن هذا الأمر فأجبت بأنني لم أكن بأي شكل من الأشكال لأقدم على طلب استدعائهم وما كنت أيضا لأبعث مع السرياتي رسائل إلى أفراد عائلتي. نادى عليهم السرياتي بعد ذلك من أجل تحفيزهم على مغادرة البلاد. قال لهم بكل ثقة: «إنها تشتعل»، ثم تكفل بحجز مقاعد لهم في رحلات جوية، إحداها متوجهة إلى ليون وأخرى إلى طرابلس. طلب منهم أن يطمئنوا، مؤكدا أنه سيكون بإمكانهم العودة إلى البلاد بمجرد عودة الهدوء. بات الجميع على استعداد للتوجه إلى مطار تونسقرطاج، وتكلفت بالذين كانوا سيسافرون في وقت لاحق إلى طرابلس. كانت ضمنهم الزوجة السابقة لأخي ناصر وأبناؤها الثلاثة. لم يكونوا يتوقعون أن يسافروا على عجل. قدمت النساء بنعال منزلية، ولم يكن الأطفال يرتدون معاطفهم، ولذلك بادرت إلى إعارتهم الحد الأدنى من الملابس الضرورية للسفر. تلقيت قرابة الثالثة والنصف مكالمة هاتفية من قصر قرطاج. مخاطبي كان زوجي. اقترح علي الذهاب برفقة ابني محمد وابنتي حليمة إلى مكة لأداء مناسك العمرة. ومن وقع المفاجأة، سألت: «ولماذا نتوجه مباشرة إلى العربية السعودية؟» فرد «ستذهبون إلى هناك إلى حين عودة الأمور إلى وضعها الطبيعي. ستعودون بعد ثلاثة أو أربعة أيام». كنت متيقنة بأن علي السرياتي هو صاحب الاقتراح، ولم أكن مقتنعة بجدواه ولا باستعجاليته. كيف يمكن أن أصدق بأن بضعة آلاف من المحتجين يشكلون خطرا يوجب علينا الرحيل؟ كنت أثق بزوجي، وبأن الذي يكنى «جنرال الأزمات» سيجد وسيلة لإعادة الهدوء إلى البلاد وإخراج بلده من منطقة الاضطرابات. ومع ذلك، امتثلت لطلبه عن غير قناعة. وصلت ابنتي حليمة عائدة من قصر قرطاج، الذي توجهت إليه برفقة خطيبها من أجل الاستعلام عن الوضعية. قدمت حليمة محملة برسالة من أبيها: يجب أن نعرج عليه في مكتبه لنقول له وداعا قبل السفر. غادرنا منزلنا قرابة الرابعة بعد الزوال. غادرته أنا وابني محمد (6 سنوات)، وابنتي حليمة وخطيبها الشاب دون أن نتمكن من جمع حقائبنا وأغراضنا. اكتفيت بتحضير حقيبة خاصة بالصغير محمد، وزوج أحذية، والعبايات الضرورية لأداء مناسك العمرة. كانت حليمة ترتدي سروال جينز، ولم يكن لها من الأمتعة عدا معطفها. انشغلت حليمة كذلك بالبحث عن خاتم خطوبتها لكي لا تسافر دون وضعه. أغوص في هذه التفاصيل لكي أؤكد عدم صحة الأنباء التي راجت عن سفري بعشرات الحقائب. إنها أنباء من صنع الخيال. لم آخذ مجوهراتي وحليي، ولم آخذ فساتيني ولا حتى الملابس العادية، التي يلبسها الناس في كل الأيام، لم آخذ معي نقودا، ولم يكن لدي وقت كاف لأخذ جواز سفري. قيل إنني توجهت إلى البنك المركزي وحصلت فيه على أطنان من الذهب وأخذتها معي. إدارة هذا البنك نفت هذا الافتراء الكبير، الذي تلته افتراءات أخرى. وأخيرا أشيع خبر العثور على كميات مهمة من الذهب في قصر سيدي بوسعيد بعد رحيلنا. أكيد أننا كنا نتوفر على سيولة مالية، المألوف ضخها في الصناديق الخاصة برئيس الدولة، غير أنها كانت بعيدة كل البعد عن بلوغ مبلغ 41 مليون دينار تونسي، الذي قيل إننا هربناه. لقد تركنا قصر سيدي بوسعيد تحت نباح الكلاب، التي يبدو أنها اشتمت يومها رائحة المأساة. كان الشارع مهجورا. خلا تماما من العربات عدا سيارة شركة ركنت أمام المبنى ومدرعتين للجيش اصطفتا غير بعيد عنها. حينها شعرت لأول مرة بأن ثمة شيا ما غير عادي يحدث. سلكنا طريق قصر قرطاج. إليه اتجهنا من أجل السلام على زوجي قبل المغادرة، كما كان مخططا. غير أننا لم نجد حارسا واحدا أمام المبنى باعتباره الإقامة الرسمية للرئيس. كانت الأبواب مشرعة. لا سيارات موكب، ولا سيارات خدمة، فقط دبابتان راسيتان على الرصيف. تملكني إحساس بالغربة واستشعرت مأساة على وشك الحدوث. داخل القصر لمحت سيارتين رباعيتي الدفع مركونتين أمام المكتب الرئاسي، وإلى جانبهما سيارة علي السرياتي. وجدت في عين المكان أيضا حراسا شخصيين وسائقين. اقترب مني أحدهم قائلا: «أرجوك سيدتي. أخرجيه من هنا. يجب على الرئيس أن يرحل». لم أفهم معنى توسلاته، وأكملت طريقي نحو المكتب. وجدت زوجي محاطا بمحسن رحيم، مدير التشريفات الرئاسية، وإياد أودرني، مدير ديوانه، وصهره مروان مبروك، زوج إحدى بناته من زواجه الأول. هذا الأخير غادر المكان بعيد وصولنا بلحظات. أخذ علي السرياتي، رئيس الحرس الرئاسي، يتكلم مثيرا أخطارا محدقة في محاولة لإقناعنا بضرورة أن أرحل برفقة الأبناء. باختصار، اقترح السرياتي على الرئيس أن يصطحبنا إلى المطار، كما جرت عادته. ظللنا في القصر الرئاسي خمس دقائق فقط. وطلب الرئيس أن يتوجه أحدهم إلى منزلنا لجلب جوازات سفرنا. صرخ السرياتي: «أي منزل؟ وأية جوزات سفر؟ ما عاد أمامنا وقت، يجب أن نرحل فورا». لم يكن ثمة متسع من الوقت للتفكير. ومع ذلك، رفض زوجي مرافقتنا إلى المطار، فخاطب السرياتي قائلا: «رافقهم إلى المطار، وأنا سأبقى هنا». غير أن السرياتي لم ينصت إليه وحذره من إمكانية تعرض القصر للتفجير. تحدث عن طائرات عمودية تحلق فوق القصر وعن خفر سواحل يوشكون أن ينقضوا عليه عبر البحر. شخصيا، لم أعاين طائرات عمودية ولم أفهم أقوال السرياتي، واعتبرت كلام رئيس حرسنا الرئاسي مجرد هذيان. لم أنبس ببنت شفة. لكن حليمة أصرت على أن يرافقنا أبوها إلى المطار. هددته قائلة: «لن أذهب إذا لم ترافقنا». حينذاك فقط قرر بنعلي مغادرة القصر. جلست خلف مقود السيارة وإلى جانبي زوجي، بينما ركب ابني محمد وابنتي حليمة وخطيبها في المقاعد الخلفية. تألف الموكب من سياراتي، وعربة تقل حراسنا الشخصيين. كما تضمن أيضا، وهذا ما أثار شكوكي، سيارتين إلى ثلاث سيارات كانت تتجاوزنا بانتظام، كان على متنها حراس لا نعرفهم. كانت تسبقنا سيارة علي السرياتي. كان يقود بسرعة فائقة حتى أنه صدم سيارة مدنية عند ملتقى طرق في قرطاج. لكنه لم يتوقف. ربما قدر أن الاصطدام لم يكن خطيرا. كانت دهشتي كبيرة عندما انعطف صوب مطار العوينة، المخصص للطيران العسكري بدل أن يتوجه إلى المطار الدولي قرطاج، الذي اعتدنا الانطلاق منه في سفرياتنا الدولية. ومع ذلك، لم أكثر من طرح الأسئلة، فالرجل كان يعرف ما يتوجب القيام به، وجاهدت نفسي للسير على خطاه بالسرعة ذاتها التي كانت تسير بها سيارته. أسدل الرئيس واقي الشمس لكي لا يتعرف عليه أحد وطلب مني أن أتمهل. لم يكن يفهم الأسباب التي جعلت السرياتي يقود بتلك الطريقة. لا يهم، فقد وصلنا إلى العوينة بعيد ست دقائق. في مطار العوينة رفض الحراس العسكريون فتح باب القاعدة العسكرية. وكان لزاما أن يترجل السرياتي من سيارته ويوجه إليه أمرا مباشرا لكي يفتحوها. وقع أيضا حدث آخر فريد من نوعه، فلم نتوجه إلى القاعة الشرفية كما كان ينبغي، بل إلى قاعة كبرى كانت ترسو فيها الطائرة الرئاسية، التي كانت مزودة بالتموين الضروري لرحلتها. جلت ببصري في المكان. عجت القاعدة بعشرات العسكريين ببزات مختلفة الألوان. تكلف حراسنا الشخصيون بتشكيل جدار بيننا وبين القوات الموجودة في المكان. رأيت أيضا بضع مدرعات مسلحة، أعتقد بأنها كانت هناك منذ بدء الاحتجاجات بسبب حالة الاستنفار التي أعلنت في البلاد. مفاجأة أخرى. كان بعض أقربائنا الذين كان يفترض أن يكونوا توجهوا إلى طرابلس عبر مطار تونسقرطاج في انتظارنا هناك. بلغ إلى علمهم بأنني سأتوجه إلى العربية السعودية فكانوا يأملون في إيجاد مقاعد لهم على متن طائرتي. غير أن السرياتي ردعهم وأمرهم بالانصراف للحاق بطائرتهم المتوقع أن تقلع في حدود السابعة من مساء ذلك اليوم صوب طرابلس. استطعت أن أبقي معي أختي غير الشقيقة سعاد. دخل زوجي في سجال حاد مع السرياتي. كانا يسيران معا جنب الطائرة. كنت أتبعهما مثل آلة. لم ألحظ لحظتها أدنى عداء تجاهنا. ومع ذلك، قلت في قرارة نفسي: «إذا كان ثمة مخطط لاغتيال زوجي رميا بالرصاص، فالأفضل أن أتصدى لتلك الرصاصة». وبشكل غريب، تذكرت على نحو مفاجئ حلما سابقا يظهر فيه السرياتي. سأروي تفاصليه لاحقا. مشاورات بلغ التوتر أوجه عندما أعلن السرياتي سيطرة وحدة مكافحة الإرهاب على برج المراقبة في المطار. حينها تدخلت لأول مرة. خاطبت قائد الطائرة، الشيخ روحو، طالبة منه إطلاعي عما يحدث. سألته: هل صار مستحيلا أن نغادر البلاد؟. أجرى القائد مكالمة هاتفية، ثم أجابني: «لا تقلقي، سيدتي، لم يسيطر أحد على برج المراقبة، سنرحل». هل كان علي السرياتي بصدد اختلاق الأكاذيب أم أنه كان ضحية معلومات مغلوطة؟ انتقل السرياتي بعد ذلك إلى لعب الكل للكل، إذ اقترح على زوجي قائلا: «سيدي الرئيس، لا ندري ما سيحدث. يستحسن أن ترافق شخصيا أسرتك إلى العربية السعودية. لن تخسر شيئا إن فعلت. غدا، ستهدأ الأوضاع وتعودون إلى البلاد». لمحت علامات الدهشة والذهول على قسمات وجه زوجي. لماذا سيرحل هو أيضا؟ لماذا يرحل إذا كانت الأوضاع تحت السيطرة كما يقال؟ هنا عمد السرياتي مجددا إلى تعديل السيناريو الذي يصور فيه نهاية العالم: قنبلة القصر، بحر من الدماء، ولا سيما خطر تعرض الرئيس للاغتيال من قبل أحد حراسه الشخصيين في حالة ما أصر على البقاء. استسلم بنعلي لتوسلات السرياتي، وليس أمام دموع ابني محمد، كما أشيع. الصغير محمد، الذي لم يكن يعلم ما يحدث، كان صعد به إلى الطائرة بمجرد وصولنا إلى العوينة. وقد استدعى الرئيس، بحضور محسن رحيم، مدير التشريفات الرئاسية، وقال له: «سأرافقكم. سنوصل الأسرة إلى هناك ونعود أدراجنا». بعد ذلك استدار نحو رحيم، آمرا إياه بالاتصال بالوزير الأول لإخباره بهذا المستجد. دفع السرياتي بنعلي نحو سلم الطائرة مخافة أن يغير الرئيس رأيه. انحنى ليقبل يديه، وقال له: «من فضلكم ارحلوا، ارحلوا». وفي محاولة لإقناعهم بضرورة الرحيل استرسل: «أنا أيضا سأرحل معكم. لقد وضعت أمتعتي داخل المقصورة». انتفض بنعلي في وجهه قائلا: «ماذا؟ ستسافر معنا؟ إما أن أرافق الأسرة وإما رافقها أنت. يجب أن يظل أحد هنا، على الأقل، للسهر على أمن قصر قرطاج». طلب السرياتي من المضيفة تسليمه أمتعته وترجل من الطائرة. في وقت لاحق، ادعى السرياتي في أولى جلسات استنطاقه بعد اعتقاله بأن تلك الرحلة كان مخططا لها بتنسيق مع الرئيس، الذي طلب منه الرحيل برفقته. سئل رئيس الحرس الرئاسي أثناء التحقيق معه عما إذا كان الرئيس بنعلي نوى الفرار، فأجاب «نعم، أعتقد ذلك». وهذا كذب وافتراء. لم يكن بنعلي ليصعد إلى الطائرة لولا إصرار وإلحاح السرياتي على ذلك. فهو لم يكن يرغب حتى في مرافقتنا إلى المطار. وحتى عندما كانت الطائرة تطير بنا صوب السعودية كان زوجي مقتنعا بأن بإمكانه العودة إلى البلاد في صباح اليوم الموالي. كانت حليمة آخر من صعد إلى الطائرة. قبل صعودها التمست من أحد الحراس السماح لها بعناق أبيها، لأنه لم يكن مستبعدا ألا تراه بعد ذلك. طأطأ الرجل رأسه وتلعثم: «لست متأكدا». علمت في وقت لاحق بوجود أبيها على متن الطائرة. كانت علامات المفاجأة بادية على محيى رفيقتنا، إيمان، حين توجهت المضيفة صوبها طالبة منها مدها بأدوية الرئيس. شخصت عيناها وهي تسأل المضيفة: «لماذا؟ هل الرئيس مسافر بدوره؟». حين كانت الطائرة تسير نحو مدرج الإقلاع، كان بإمكاننا أن نرى من نافذة الطائرة أربع مدرعات تحيط بالطائرة من اليمين والشمال. هل كانت تلك التهديدات حقيقية؟ هل كان ممكنا بالفعل أن يتعرض الرئيس لهجوم أم أنهم كانوا يريدونه أن يرحل أيا كان الثمن دون أن تكون هناك حالات إيقاف أو محاكمات؟ هل كانوا يريدون إضفاء مصداقية على أطروحة هروب الرئيس دون أن يستطيع أحد نقض أطروحتهم؟ الرحلة أقلعت الطائرة في تمام الخامسة والنصف بعد الزوال. كان على متنها زوجي وابني محمد وابنتي حليمة وخطيبها وخادمتي حنينة ورفيقتنا إيمان، إضافة إلى أختي غير الشقيقة سعاد، الوحيدة من بين كل أفراد عائلتي التي رخص لها بالصعود إلى الطائرة. لم يلحق أي حرس بطائرتنا ولم يتجاوز رئيس التشريفات الرئاسية سلم الطائرة. لكنه أمضى وقته، حسب رواية ابنتي، في البحث عن تغطية هاتفية لإجراء مكالمة هاتفية. أما طاقم الطائرة، فتكون من القائد وربان ومضيف وميكانيكي ومضيفة أخبرتنا بأنها استدعيت على عجل. لم يترك لها وقت كاف للاستعداد. بالكاد تمكنت من الادعاء بأنها لدى والدتها، ثم التحقت بالطاقم دون أن تعلم وجهة الرحلة. غادرت حليمة قمرة القيادة بعد أن تابعت أطوار إقلاع الطائرة لتلتحق بخطيبها وأخيها محمد وسعاد، بالإضافة إلى المستخدمين الموجودين في الخلف. بقيت مع زوجي في المكتب، الموجود على متن الطائرة، ولم أتحرك من مكاني قيد أنملة طيلة مدة الرحلة. حاول الرئيس ربط الاتصال الهاتفي بدون دون جدوى، وكان عليه التوجه إلى قمرة القيادة من أجل إجراء مكالمة هاتفية. لم يتلق طاقم الطائرة أي تهديدات باستثناء التدخل المفاجئ للقائد حينما أعلم بنعلي بأن الرئيس المدير العام لشركة «تونس للطيران»، نبيل الشتاوي، أمره بالعودة من العربية السعودية بمجرد نزول الجميع من الطائرة. اعتقد زوجي بأن في الأمر خطأ ما أو أنه عبارة عن نكتة، فتوجه نحو المقصورة التي يوجد فيها الربان والميكانيكي. قال لهما: «أبنائي، إذا كنتم تحتاجون لتوقف أو وقت إضافي للتزود بالكيروزين، فليس في الأمر مشكلة. سننطلق في وقت لاحق من صبيحة يوم غد». غادرت الطائرة مبكرا. فمن أعطى تعليمات بذلك؟ اتصل زوجي هاتفيا بالوزير الأول، محمد الغنوشي، ليخبره بأنه توجه إلى السعودية، وأنه سيعود غدا وأمره بتولي تسيير شؤون البلاد بالنيابة. بعد ذلك عاود الاتصال بالوزير الأول الذي أجاب «نوجد حاليا في قصر قرطاج، سيدي الرئيس». فرد الرئيس بسؤال: «ماذا تفعلون في القصر في هذه الساعة؟. فأجاب الغنوشي «لا أدري. اقتادنا حرس ملثمون من منازلنا وساقونا بالقوة إلى القصر». كان يصلنا صوت الوزير الأول وهو يأمر أحدهم بالابتعاد: «اخرج من هنا. ألا ترى بأنني أتحدث مع السيد الرئيس». فسأله بنعلي مع من يتحدث فأجاب: «أتحدث مع حارس. لا يريد الخروج. إنهم يوصدون الأبواب علينا هنا. لا ندري لماذا يفعلون هذا؟». أعتقد أن زوجي استوعب حقيقة ما يحدث في هذه اللحظة. حاول الاتصال بعلي السرياتي دون جدوى. وعلى الفور، طلب ربط الاتصال بفؤاد المبزع، رئيس مجلس النواب يومها، فسرد رواية مماثلة لراوية الغنوشي. اتصل بنعلي بوزير الدفاع، رضا اكريرة، فقال له: «إنها كارثة. حدثت مذبحة هذا المساء، الحصيلة ثقيلة للغاية. ابقوا في العربية السعودية يومين أو ثلاثة ولا تعودوا قبل أن نتصل بكم». بعد مكالمة هاتفية مع صديقه القديم، كامل لطايف، أعاد بنعلي الاتصال مرة ثانية بوزير الدفاع ليستعلم أسباب عدم تمكنه من ربط الاتصال بالسرياتي. فأخبره اكريرة بأن رئيس الحرس الرئاسي اعتقل على خلفية تورطه في الأحداث الحالية، وتحولت الطائرة إلى خلية أزمة.
بنعلي حظي باستقبال رؤساء الدول في السعودية حطت الطائرة في العربية السعودية بعد خمس ساعات من الطيران دون توقف. كانت الرحلة مباشرة. كانت الساعة تشير إلى منتصف الليل بالتوقيت المحلي، أي العاشرة ليلا بتوقيت تونس. حظينا باستقبال يليق برئيس دولة. قاعة شرفية وموكب وسيارات رسمية. عادت الطائرة بعد ساعة ونصف من وصولها إلى السعودية دون انتظار زوجي. طبقت التعليمات حرفيا. لقد أبعد الرئيس بنعلي عن تونس. كنا نرفض تصديق السنياريو الذي يرسم للأحداث.ظللنا نعتقد أياما عديدة بأن الأمر لا يعدو أن يكون مناورة قام بها أفراد معزولون ستنتهي، ولحظات عصيبة ستمر. كنا واثقين من عودتنا إلى بلادنا. اتصل الرئيس بوزرائه، وكان واضحا أن الأحداث تجاوزتهم، وأقسموا جميعهم بأنه لا يد لهم فيما وقع، بمن فيهم الوزير الأول محمد الغنوشي، الذي ظل على اتصال ببنعلي طيلة أسبوع. كان الغنوشي يردد دائما الجملة التالية: «لا نعلم من أصدر الأوامر لترحيلكم من تونس. لا نعلم كذلك هوية الذين اقتادونا بالقوة نحو القصر. لا نتوفر على أدنى فكرة عما ستؤول إليه البلاد». بعد مرحلة الذهول، آن أوان اجترار مرارة الاعتراف بالأمر الواقع. ساد جو من الأسى والحزن. ظللنا مشدوهين ومصدومين طيلة أيام عديدة، وكنا نحرص على الابتعاد عن قنوات الإعلام لكي لا نضع أنفسنا في مواجهة سيول الاتهامات والشهادات المزورة والحكايات المغلوطة والتصريحات المشينة التي انهمرت علينا من كل حدب وصوب. حاولت أن أعود إلى الأحداث التي ميزت الأيام القليلة السابقة لرحيلنا لمحاولة معرفة حقيقة ما حدث، وتوصلت بمعية زوجي إلى قناعة مفادها أن الانقلاب تم التخطيط له بإحكام قبل تاريخ 14 يناير.