تتحدث «المساء» في ركن «مهن وحرف في طريقها إلى الانقراض» عن مهن وحرف لم تعد تؤمن رزق أصحابها، بفعل التطور التكنولوجي والتغيرات السلوكية والحضارية للإنسان. كانت بالأمس الأسلوب الوحيد لتغطية مصاريف الحياة لدى العديد من الأسر المغربية بالمدن والقرى، علمها الأجداد للآباء والأمهات، وتوارثها الأبناء والأحفاد، الذين تشبعوا قرونا مضت بالمثل المغربي «تبع حرفة بوك يلا يعلبوك». مهن وحرف رأسمالها مواهب وذكاء وعتاد بسيط، كلفت الإنسان المغربي شيئا من الصبر والعزيمة، وربما بعضا من النصب والاحتيال، ومنحته بديلا غير مكلف، للحصول على المال والاحترام. وأغنت البعض عن التجارة والفلاحة والأعمال الوظيفية. لكن تلك المهن والحرف لم تعد لها زبائن الأمس. جولة قصيرة بالوسط المغربي، وخصوصا القروي منه، تجعلنا نلمس عن قرب واقع تلك المهن وحياة ممتهنيها، ونعيش معهم مرارة الاحتضار الذي تعيشه وسط مجتمع منشغل بالبحث عن الجديد والمستجد. لم تترك «الشيشا» العصرية والأنواع المختلفة للسجائر العصرية والمخدرات مجالا لاستمرار هيمنة «السبسي» المغربي وسط المدخنين، رغم بساطته ويسر صناعته، وثمنه الذي يتماشى مع كل فئات المجتمع، إذ يتراوح ما بين 20 درهما و350 درهم. كما أن «السبايسية» صانعي وبائعي «السباسة» بشتى أنواعها وأحجامها بدؤوا يبحثون عن موارد رزق أخرى، تضمن لهم تدبير مصاريف أسرهم الفقيرة. وإذا كان أغلب الصناع التقليديين يعتبرون صناعة «السبسي» واحدة من مواهبهم الإبداعية الكثيرة، ويحاولون جاهدين تنويع ابتكاراتهم سنويا، سواء من أجل الزبون المغربي أو السياح الأجانب، فإن بعضهم ممن كان يحترف هذه الصناعة وحدها، بلغ به حد الأزمة وكبر السن إلى التسول من أجل كسب النقود. كما أن باعة «السباسة»، الذين ظلوا عدة عقود ينشطون في هذا المجال، سواء كباعة متجولين داخل «الجوطيات» الحضرية، أو الأسواق الأسبوعية القروية، أفلست بضاعتهم، وقل عددهم، ولازال بعضهم يقاوم موجة المنافسة، خصوصا بالعالم القروي والمناطق التي لازال أهلها لم يدمنوا تدخين الشيشة. يقول الرويضي وهو بائع «السباسة» بالأسواق في دردشة مع «المساء»، إنه لا يدري ماذا تجارة بديلة يمكنه مزاولتها، مضيفا أنه يكتفي بما لديه من زبائن مخلصين له ول»السبسي» المغربي، الذين لا يمكنهم الاستغناء عنه. وأكد أن «السبسي المغربي» في طريقه إلى الانقراض من المنازل والمقاهي، بحكم أن معظم المراهقين والشباب حاليا لا يقربونه، ويعتبرونه أداة تدخين «عروبية» وقديمة. وتجنب الريوضي الحديث عما تجلبه تجارته من ويلات على الأسر، بحكم أن كل زبائنه من مدمني المخدرات. وعن سبب السماح له ولزملائه في المهنة ببيع تلك البضاعة المضرة منذ عقود، واكتفى الريوضي بالقول إن «السبسي» كالسكين يمكن استعماله في الحلال والحرام، وأنه ليس مسؤولا عن كيفية استعماله من طرف الزبائن. «السبسي» هو تلك الأداة التي استعملها المغاربة لتدخين كل ما تسير من مساحيق «تدريحة، طابا، تبغ، كيف، مخدرات...» وهو مشكل من أنبوب خشبي يعرف عموما ب»السبسي»، ويختلف نوع خشبه ولونه حسب طلب الزبائن. قد يصنع من خشب أشجار الزيتون أو الجوز أو الليمون أو عود الجوهر أو عود الماء...، ويحمل في مؤخرته «الشقاف»، وهو جزء مصنوع من الطين الأحمر، تختلف سعته وألوانه حسب الطلب وحسب مستوى عيش الشخص (غني، فقير، متوسط الحال). يتراوح ثمنه ما بين درهم و5 دراهم، يوضع فيه المسحوق المراد تدخينه، قبل أن يعمد المدخن إلى إشعال النار فيه. يفضله البعض ممن يدخنون داخل منازلهم بأنبوب طويل. فيما يقتني المدخنون في الخلاء والمقاهي أنواعا قصيرة من «السباسة»، ليتمكنوا من إخفائها بعد استعمالها في أحد جيوبهم، أو في «قب الجلابية»، أو في جواربهم. كما يبيع «السبايسية» ما يعرف باسم «المطوي»، الذي هو عبارة عن حقيبة صغيرة تصنع عادة من جلد الماعز، لوضع المسحوق الذي يستعمل للتدخين. كما يحتاج مدخن «السبسي» إلى ما يعرف ب»المخرط»، وهو عبارة عن قضيب حديدي يستعمل لتنظيف «السبسي»، يتجاوز ثمنه 40 درهما. وقد اعتاد «الكيافة» تنظيم جلسات الأنس والسمر ليلا أو نهارا من أجل التدخين ب»السبسي». وعادة ما يكون المضيف منهم قد اقتنى نوعا نادرا أو محبوبا لدى أصدقائه، فيتم إخبارهم بالبضاعة الجديدة، ويعمل أصدقائه على الاكتتاب من أجل إعداد وجبة غداء أو عشاء تلائم تلك البضاعة، علما أن التدخين ب«السبسي» يلزم المدخنين تناول وجبات غنية. دخن المغاربة منذ عقود خلت عدة أنواع من المساحيق، ابتداء من مجموعة من الأعشاب المعروفة (الزعتر، فليو، مريوت...). كما استعملوا مواد صناعية إبان الاستعمار، حيث كانوا يشترون علبا لمسحوق كان معروفا باسم «السواينطة»، وكذلك مادة «التدريحة» التي لازالت تستعمل في بعض المناطق الأطلسية. وهي عبارة عن خليط بمقادير معينة من مادتي الكيف وطابا «كل 100 غرام من الكيف تمزج ب25 غرام من طابا باش ماتبقاش مسوسة». لكن أغلب مستعملي «السبسي» يدخنون مسحوق الكيف ومواد أخرى مخدرة. إضافة إلى الوجبات الثقيلة التي يجب على المدخن ب»السبسي» توفيرها قبل بدء عملية التدخين، لأن هذا النوع من التدخين يفتح الشهية ويصيبهم بالجوع «كا يطيح عليهم الهيمري». ويؤكد المدخنون أنهم عادة ما يفرضون تواجد الشاي المغربي على طاولة المدخنين، خصوصا تلك الثمالة التي تظل في الكأس أو في «البراد»، وربما مرت عليها ليلة كاملة فصارت باردة ومعتقة، وتسمى في عرفهم ب«التلصيقة»، وهي عبارة عن قطرات محدودة يتم ارتشافها بانتعاش ومهل. ويقول المثل المغربي «السبسي بلا دكة بحال التران بلا سكة». وقبل وضع مساحيق التخدير في «شقاف» السبسي، يكون على المدخن إعداد أوراق الكيف وتنقيتها من الشوائب، ثم تقطيعها (تقصيصها) بسكين حادة، قبل غربلتها في إناء قصديري على شكل غربال أو في ثوب شفاف بعد شده فوق صحن كبير،وهي العملية التي أفرزت فيما بعد بعض مشتقات الكيف كالحشيش والشيرا والهاش. ويحب مدخنو «السبسي» الأجواء الهادئة، حيث ما إن يتشبعوا بمخدر الكيف، حتى يسبحوا جائلين في عوالم أخرى. كما أن مدخن الكيف ب»السبسي» عادة ما يصبح كسولا خمولا (معكاز) وعالة على أسرته ورب عمله.