منذ الاستقلال إلى يومنا هذا ومرورا بجميع الحكومات المتعاقبة، يبدو أن قطار الإصلاح والنهوض بالأوضاع القائمة لازال لم يقلع بعد، ويأبى أن يأخذ سكته الصحيحة. فبعد أن توالت بشكل لافت شعارات الإقلاع الاقتصادي والتنمية المستدامة والحكامة الرشيدة وميثاق حسن التدبير وتخليق المرفق العام ومحاربة الفساد والاستبداد، يوحي الواقع المعيش بأن «حليمة عادت إلى عادتها القديمة» وأن رياح التغيير لم تنطلق بعد لأن الوعود الانتخابية تبخرت كفقاعات الصابون وأصبحت مجرد وهم وضرب من ضروب الخيال، فانسداد الأفق وتضييق الخناق على المواطن وتدمير الطبقة المتوسطة ونهج سياسات مستفزة تمس الحياة المعيشية اليومية للمواطن.. كلها عوامل تشعل الشارع وتساهم في الغليان الشعبي والاحتقان الاجتماعي. الحكم لا يدار بالدعوات والصبر «والرزق على الله»، وإنما يتطلب تدبير الشأن العام قدرات استثنائية وخيالا خصبا من الإبداع لابتكار الحلول المناسبة للمشاكل المتراكمة وجرأة في اتخاذ القرار في حينه لأن التردد والحيرة والبطء غالبا ما يؤدي إلى نتائج كارثية؛ وتاريخيا، اعتبر الفقهاء الحكمة المتأخرة بلاده متقدمة شأنها شأن الرجل المناسب في المكان المناسب؛ وهذا ما لا يبدو ظاهرا جليا للعيان في الوقت الحالي، فالدواوين الوزارية معطلة ومجيشة بالمقربين ولا تفعل شيئا ما عدا الاستفادة من التعويضات والإكراميات، ينضاف إليها انعدام الخبرة والكفاءة في معالجة الملفات، مما يؤدي إلى تعطيل مصالح المواطنين واستيائهم وتذمرهم من سلوكات الإدارة. لقد بشرتنا الحكومة الحالية باتخاذ مجموعة من الإجراءات التي تتوخى إحداث القطيعة مع السلوكات المنحرفة والقيام بثورة تصحيحية وإحداث رجة وصدمة نفسية تعيد الثقة إلى المواطن، لكن هاته الطموحات الهلامية لازالت بعيدة المنال ومستعصية التحقيق على أرض الواقع. أول الغيث قطرة، فبعد أن استنفد رئيس الحكومة ما بذمته من نكت وأساليب فرجوية، بدأت المبادرات غير المدروسة تتوالى تباعا: فالتنصل من التزامات الحكومة السابقة بخصوص إدماج حاملي شهادات الماستر في سلك الوظيفة العمومية يعتبر أول ردة رسمية واستخفافا بدولة المؤسسات والتفافا حول المبادئ الضابطة لسير المرفق العمومي بانتظام واضطراد؛ أما ادعاء أن قرار قمع الحركات الاحتجاجية لم يصدر عن الحكومة، فهذا كلام منتقد ومردود عليه وحجة دامغة في حد ذاته على أن هذه الأخيرة توجد في حالة شرود وليست سيدة نفسها، وأن هناك جهات غربية خارجة عنها تتخذ بعض القرارات دون علمها؛ فإن كان رئيس الحكومة يعلم بذلك ويلتزم الصمت فتلك مصيبة وإن كان لا يعلم فالمصيبة أعظم. الشعب المغربي خبر جميع الألوان وجرب مختلف أشكال الطيف السياسي وعلق آمالا عريضة على حكومة حزب العدالة والتنمية التي أعلنت توبتها السياسية وانخرطت في إدارة دواليب الحكم، لكنها اغتالت طموحات المواطنين ودشنت وثبتها الأولى كسابقاتها بالزيادة في الأسعار وتجميد الأجور لتفقير الفئات المعوزة، وهو أسلوب تقليدي بدائي هدفه الحفاظ على التوازنات المالية على حساب الاستقرار والسلم الاجتماعي، ناهيك عن رفض تطبيق الضريبة على الثروة والإخفاق في المضي حتى النهاية في تفعيل مضامين دفاتر التحملات لإصلاح المجال السمعي البصري والتراخي في الدفاع عن المصالح العليا للوطن والأخطاء الدبلوماسية في التعاطي مع قضية الصحراء المغربية. إن الخطاب السياسي والقدرة على الكلام والتغني بالإصلاح ومحاربة الفساد والاستبداد واقتصاد الريع والإثراء دون الأخذ بأسبابه المشروعة كلها شعارات مزيفة بدأت تتعرى وتنكشف مع مرور الأيام، إذ لازالت دار لقمان على حالها، وواهم من يعتقد أن المغرب خرج من عنق الزجاجة واجتاز مرحلة الخطر وتجاوز عواصف الربيع العربي بسلام، لأن ما يفجر الشعوب هو الشعور باليأس والإحباط وفقدان الثقة في مؤسسات الدولة. التدبير السياسي للمخاطر وفن إدارة الأزمات والبحث عن الحلول الواقعية للإشكالات التنموية همٌّ غير حاضر في ذهن الحكومة الحالية، وأهم ما أفلحت فيه هو التراشق الإعلامي وتكذيب الوزراء لبعضهم البعض ومضيعة الوقت في الحفاظ على الانسجام والتناغم. إن الاحتماء بالخطاب التبريري وذرائع جيوب المقاومة أمر لا يستقيم وادعاء منهار أمام الصلاحيات التنفيذية التي أقرها الدستور الجديد، فبدل التمادي في لعن الظلام وانتقاد النقابات والمسيرات السلمية وجب إشعال الشموع والانخراط في الأوراش الكبرى والاستجابة للمطالب والإنصات الجيد لنبض الشارع واقتحام القلاع المحصنة التي يقبع فيها الفساد البنيوي المنظم. إن الرأسمال الأجنبي جبان بطبعه، فهو يخشى القلاقل الاجتماعية وينفر من القضاء الظالم ويفر من الأقطار التي تديرها حكومات ضعيفة ويرتمي في أحضان البلدان التي تؤمن بالفعل، لا القول، وتنعم بالسلم والاستقرار. ومن الجانب التوقعي، فتحصين البلاد والعباد من المنزلقات يتطلب الإجابة عن مجموعة من الأسئلة الحارقة من قبيل: أي مستقبل للمغرب بدون سلم واستقرار اجتماعي؟ أليس السلم والاستقرار هما مستقبل المغرب الوحيد؟ هل التوظيف المحتشم للصلاحيات الدستورية من طرف رئيس الحكومة هو أزمة نص أو قراءة أم أزمة ممارسة؟ إلى أي حد استطاعت الحكومة الحالية ترجمة وعودها الانتخابية إلى التزامات سياسية؟ لماذا لم يتم الكشف عن قوائم مستغلي الضيعات الفلاحية ورخص الصيد في أعالي البحار والمقالع ومستنزفي الرمال من كبار قادة الجيش وزعماء الأحزاب السياسية ورجالات الدولة؟ ألا يبتدئ تطبيق القانون بردع الكبار لكي يكونوا عبرة للصغار؟ ما هي السيناريوهات المحتملة مستقبلا إذا ما فشلت الحكومة الحالية في تدبير الشأن العام؟ الانتظارية القاتلة والمراهنة على الوقت وعدم اتخاذ القرارات الجريئة بسرعة قياسية والإبقاء على الوضع القائم والانتشاء بتراجع حركة 20 فبراير مقامرة غير محمودة العواقب لأن الخطر الداهم هو فقدان الثقة في الحكومة والأحزاب والنقابات، ساعتها يتعمق الشعور بالاستياء والتذمر كنتيجة حتمية لخيبة الأمل وانسداد الأفق، وبما أن للصبر حدودا كما غنت الراحلة (أم كلثوم) فلا ينبغي للحكومة الحالية أن تعول كثيرا على صبر المغاربة لأنهم صبروا بما فيه الكفاية ويتطلعون إلى غد أفضل، فالاستسلام للقضاء والقدر والحلول الترقيعية وترديد لازمة «الأزمة» هو من شيم الحكومات الرخوة التي تتناول القضايا الوطنية بنوع من التراخي، والانتقال من المعارضة إلى التسيير وإغراءات المناصب الحكومية يؤدي بالضرورة إلى الاسترخاء وتدجين النخب السياسية، ولعل استقراء التاريخ يزكي هاته الأطروحة لأن مجموعة من الهيئات السياسية كان مصيرها مزبلة التاريخ لأنها تهافتت على الحقائب في حروب الاستوزار وتاجرت بهموم المواطنين وتخلت عنهم، مما دفع بالقواعد الشعبية إلى «رد التحية بأحسن منها» وسحب الثقة عن طريق إعمال التصويت العقابي وليس العتابي كما يدعي البعض. ولعل التغول الحكومي في وجه الشرائح المستضعفة والخوف من الحيتان الكبيرة التي التهمت كل شيء ومغازلتها بشكل لافت، بدل محاسبتها، موقف انهزامي سيحاكمه التاريخ السياسي بكل قسوة.