دشنت الحكومة الحالية دخولها السياسي بمجموعة من الإشارات الرمزية المحتشمة إلى محاربة الفساد والاستبداد واقتصاد الريع، والتي لم تكن في مستوى حجم تطلعات وانتظارات المواطنين الذين يطمحون إلى برامج جديدة ومتجددة، مبدعة، تلامس واقعهم اليومي وتستطيع إيجاد الحلول الناجعة لمشاكلهم المزمنة كنتيجة حتمية لفشل السياسات التنموية المتعاقبة والتي جعلت المغرب في خانة الشعوب التعيسة التي لا تعرف طريقها إلى السعادة بفعل البؤس والقهر الاجتماعي والإحباط والانكسارات السيكولوجية وعدم الثقة في المستقبل. لقد جرب الشعب المغربي وخبر مختلف أشكال الطيف السياسي، ولم يجن من ورائها إلى الخطب العصماء والوعود الكاذبة، حيث ينقطع حبل الود بين الطرفين بمجرد الإعلان عن نتائج الانتخابات. المحك الحقيقي الذي سيواجه حكومة بنكيران، بعد فشلها في التعاطي بشكل إيجابي مع مجموعة من الملفات الحارقة، هو مسألة التعيينات في الوظائف المدنية السامية. وقد حسم المشروع الدستوري وقانون «ما للملك وما لبنكيران» هذه الإشكالية، إذ حدد على سبيل الحصر سلطة التعيين لمدراء المؤسسات والمقاولات العمومية الاستراتيجية. وركز هذا القانون في مذكرته التقديمية على ضرورة توخي مبدأي الكفاءة والاستحقاق عند الانتقاء. لكن يبدو أن هذا المطمح سيبقى بعيد المنال، على الأقل في الظروف الراهنة، وذلك راجع إلى مجموعة من الإكراهات البنيوية المرتبطة بالنية السياسية والثقافية السائدة. إن عقلية النخب السياسية في بلادنا لم تتغير منذ الاستقلال إلى يومنا هذا، والأحزاب المشاركة في التحالف الحكومي ستسعى، بكل الوسائل والسبل، إلى اقتسام هاته المناصب لترضية الخواطر وتنصيب الأقرباء والأصدقاء، خاصة الذين لم يتمكنوا من ولوج قبة البرلمان والدواوين وبوابة الاستوزار، ورئيس الحكومة سيكون مجبرا على قبول هاته الإملاءات والاشتراطات إذا أراد أن يحافظ على وحدة فريقه الحكومي ويسلم من فورة التصدع والانشقاق. ذلك أن سياسة الإحماء والتسخينات الأولية والخرجات الإعلامية لم تعد تجدي نفعا، لأن الغليان الشعبي في تصاعد والقلاقل الاجتماعية والاحتجاجات والاعتصامات في تزايد مستمر، حيث وصلت حدا لا يطاق.. حدا ينذر بالخطر. فهل يمكن الكلام عن العد التنازلي لحكومة بنكيران؟ الاحتماء بالملك أصبح نظرية متقادمة وورقة محروقة لا يمكن إشهارها في الوقت الراهن، لأن الدستور الجديد أغلق جميع الأبواب والمنافذ وأقر اقتسام السلط بين المؤسسة الملكية ورئاسة الحكومة؛ كما أن الاختباء وراء جيوب المقاومة وأعداء التغيير والإملاءات الفوقية لم يعد ممكنا، لأن الملك كرئيس للدولة لطالما نادى بتطبيق القانون وأجرأة الدستور الجديد وعدم الاستجابة للتدخلات مهما كان مصدرها ومهما كانت صفات الأشخاص الصادرة عنهم. ولعل أول ملف فشلت الحكومة في تدبيره هو قضية التوظيف المباشر لمجموعة حاملي شهادة الماستر، حيث لم يتم التعامل معه بالجرأة المطلوبة والشجاعة السياسية الكافية، فالمجموعة سالفة الذكر وقعت محضرا مع الحكومة السابقة يتم بمقتضاه إدماج أعضائها في سلك الوظيفة العمومية، مشفوعا بصدور مرسوم استثنائي عن وزير تحديث القطاعات العامة السابق يزكي نفس المقتضيات؛ لكن الحكومة الحالية ارتأت طرح القضية على أنظار الأمانة العامة للحكومة بصفتها مستشارا قانونيا لباقي الوزارات، مما يثير العديد من الملاحظات: - المحضر الموقع بين الطرفين التزام تعاقدي ملزم والإخلال به من جانب واحد خرق لمبدأ العقد شريعة المتعاقدين وفسخ غير مبرر للالتزامات التعاقدية؛ - الادعاء بأن الحكومة السابقة أخطأت العنوان حينما قبلت بالتوظيف المباشر كلام مردود عليه، لأن الالتزامات والقرارات التي تتخذها الحكومات السابقة تبقى ملزمة للحكومات اللاحقة وتنتج كافة آثارها القانونية؛ - الاتفاق على مقتضيات المحضر المشار إليه يضرب في الصميم مبدأ استمرارية المرفق العمومي وسيره بانتظام واضطراد، لأن مجموعة حاملي الماستر تعاملت مع عباس الفاسي بصفته المؤسساتية كوزير أول، وجميع الالتزامات المترتبة عنه تلزم أيضا رئيس الحكومة الحالي لأننا في دولة الحق والقانون والمؤسسات وليس دولة الأشخاص؛ - التملص من الالتزامات يجر المرء إلى التفكير في شيء آخر، ألا وهو انحلال الدولة وفقدان الثقة في الخطابات الرسمية التي ستبقى مجرد كليشيهات بلاغية لا يمكن أخذها على محمل الجد؛ تأسيسا على ذلك، فإن صورة الحكومة الحالية تعرضت للاهتزاز، لأنها رفعت سقف المطالب ووعدت بتحقيق منجزات وأرقام صعبة المنال من الناحية العملية، مما يجعل المتتبع للشأن العام يطرح مجموعة من الاستفسارات تنطوي على اتهامات تخص التفكير في مجموعة من القضايا الاستراتيجية الكبرى. كيف يمكن التعامل مع ملف المعطلين حاملي الشهادات العليا في ظل واقع اقتصادي عالمي مأزوم وإدارة مثقلة بالموظفين وميزانية عاجزة عن استيعاب وخلق المزيد من فرص الشغل؟ الحديث عن الانسجام الحكومي حديث ذو شجون؛ فهل يمكن، من منطلق تحديد المسؤوليات، اعتبار حزب العدالة والتنمية، الذي يرأس الحكومة، هو المسؤول الوحيد عن التجربة الحالية أم إن نفس الحكم يسري على باقي مكونات التحالف؟ من يتخذ قرار الاستعمال المفرط للقوة في حق المحتجين والتظاهرات السلمية؟ ما هي الإجراءات العملية الكفيلة بامتصاص الغضب الشعبي والاستجابة للمطالب الملحة؟ كيف سيتم التعامل مع مطالب الزيادة في الأجور في ظل ميزانية منهكة مع استحضار تحذيرات والي بنك المغرب الذي نبه النقابات إلى ضرورة التخلي عن هذا المطلب في الظروف الراهنة؟ إلى أي حد ستتم ترجمة الوعود الانتخابية إلى التزامات سياسية قابلة للتحقيق على أرض الواقع؟ الآمال معقودة، بشكل كبير، على نجاح التجربة الحالية لأنها مختلفة عن التجارب السابقة نظرا إلى المتغيرات الإقليمية ورياح التغيير التي عصفت بمجموعة من الأنظمة التي كانت حتى الأمس القريب جاثمة على صدور شعوبها وتستعصي زحزحتها عن كراسيها، والإصلاحات السياسية التي عرفها المغرب جنبت البلاد والعباد ويلات الدمار والخراب؛ فهل ستستطيع الحكومة الحالية مباشرة الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية ومحاربة الهشاشة والفقر، خاصة وأنها مسنودة بمجموعة من الضمانات الدستورية التي لم تتوفر في السابق لغيرها فالشعوب المريضة في حاجة إلى الدواء والشعوب الجائعة في حاجة إلى الخبز والشعوب الأمية في حاجة إلى العلم والمعرفة وليس إلى الخطابات السياسية الرعناء التي سئمها الجميع. الاحتقان الاجتماعي قنبلة موقوتة يمكن أن تزلزل البلاد في أي لحظة؛ فهل الحكومة الحالية تمتلك الخبراء والمبدعين الذين يمتلكون القدرة والجرأة على تفكيك هذا اللغم المزعج،؟ لأن السياسة بصفة عامة هي فن ترويض الخيول وتدبير المخاطر والأزمات، ورجل السياسة حيوان سياسي أليف مدبر للندرة والاختلاف ولا يبيع الكلام للناس مقابل أصواتهم الانتخابية. أستاذ القانون الإداري وعلم الإدارة كلية الحقوق/سطات