يبدو رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران منتشيا ومزهوا بالمكالمات الهاتفية والدعم المعنوي والتوجيهات التي يتلقاها من الملك، بغية التنزيل السليم للدستور وتطبيق القانون ومحاربة المفسدين وعدم الاستجابة للتدخلات والإملاءات مهما كان مصدرها، حتى ولو كان الديوان الملكي. هاته الوضعية المريحة تضمن، بالدرجة الأولى، تحصين استقلالية القرار الحكومي وتنفيذ الاختيارات الاستراتيجية والتفكير في القضايا الكبرى للوطن، وهذا ما سيؤدي حتما إلى انتفاء الاختباء وراء الخطابات التبريرية وجيوب المقاومة وأعداء التغيير. - في مستهل وثبتها الأولى، دشنت حكومة بنكيران برنامجها بترشيد الإنفاق العام ونشر لوائح المستفيدين من المأذونيات في أفق الإفراج عن قوائم المحتكرين للصيد في أعالي البحار والمستحوذين على الضيعات الفلاحية التي تعود ملكيتها إلى الدولة، لذلك فمن السابق لأوانه تقييم الأداء ومحاكمة النوايا رغم بروز بعض المؤشرات التي ينبغي المرور عليها مرّ اللئام وليس مرّ الكرام، انطلاقا من الرصد والتتبع والتحليل الموضوعي الرصين. - لقد عودتنا التجارب على أن الأحزاب الأصولية، ذات المرجعية الإسلامية، عادة ما تلجأ إلى سياسة توظيف الأبعاد الروحية لاستثمارها سياسيا عن طريق دغدغة العواطف لاستمالة الجماهير والكتلة الناخبة. ولعل التوقيت المدروس بعناية لإشهار قوائم المستفيدين من اقتصاد الريع، خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات الجماعية، يستشف منه أن حزب العدالة والتنمية عاقد العزم على ضرورة تصدر استحقاقات المجالس البلدية كتزكية للنتائج المتقدمة التي أحرزها في الانتخابات التشريعية السابقة؛ فرغم المبررات التي يسوقها وزراءُ هذا الحزب بين الفينة والأخرى لعملية نشر اللوائح، والمتمثلة في محاربة الفساد والحق في المعلومة والحكامة الرشيدة، فإن هاته المسوغات مردود عليها لأنها مبطنة ومغلفة بالتوظيف السياسي لطبيعة المرحلة، ويبقى البعد الانتخابي حاضرا بقوة على اعتبار أن الاكتفاء بالنشر فقط يبقى أمرا مهزوزا ما لم تواكبه إجراءات عملية ملموسة تقطع مع الممارسات السابقة وتراكمات الماضي القريب المفعم بالتسيب وإهدار الثروة الوطنية دون حسيب ولا رقيب. - الضمانات المتوفرة للحكومة الحالية لم تنعم بها حكومة التناوب السابقة، سواء في نسختها الأولى أو الثانية، إذ إن الملك كأعلى سلطة سياسية في البلاد أعرب، في الكثير من المناسبات، عن ضرورة التنزيل الفعلي للدستور وتطبيق القانون وتحريك المتابعات القضائية ضد المفسدين ولصوص المال العام مهما علا شأنهم ومهما كانت مراتبهم وصفاتهم، وهو الأمر الذي لم يكن متأتيا آنذاك لعبد الرحمان اليوسفي الذي كان مكبلا بالمقتضيات الدستورية لسنة 1996، وكان دوره كوزير أول هو مجرد التنسيق للعمل الحكومي وليس رئاسة الحكومة، مما حدا به إلى اعتزال العمل السياسي احتجاجا على اغتيال المنهجية الديمقراطية، زد على ذلك أنه لم تكن له أية سلطة فعلية على العمال والولاة والمدراء العامين. ونفس الممارسات عانى منها الوزير الأول السابق عباس الفاسي الذي كان يستجيب للإملاءات، وكان لا يقدم ولا يؤخر ولا يقرر، ولعل ما يزكي هذا الطرح هو إبعاده بشكل كلي عن تشكيل أعضاء حكومته المعروفة بحكومة (ليلة القدر). - القضايا الكبرى للوطن وحجم انتظارات المواطنين والإشكالات الاقتصادية والتنموية لا يمكن معالجتها بالخرجات الإعلامية ونشر لوائح المستفيدين بشكل انتقائي، لأنه لا مجال للمقارنة بين فنان أو رياضي يمتلك مأذونية (طاكسي) وبين جنرال أو زعيم سياسي يمتلك مجموعة من رخص الصيد في أعالي البحار ورصيد عقاري ضخم من الضيعات الفلاحية المفوتة بأثمنة رمزية تفضيلية. - عدم الاقتراب من الحيتان الكبيرة والتضحية بالأسماك الصغيرة مخالفة قانونية صارخة وإخلال خطير بمبدأ المساواة، لأن الظروف الراهنة فرصة مواتية لاسترداد الثروات المنهوبة، فكل الشروط الموضوعية متوفرة لعدم الإفلات من العقاب ومحاسبة المسؤولين، أما الانتقائية في التعامل مع ملفات الفساد والاقتصار على المستويات الدنيا دون المستويات العليا والتضحية بصغار المسؤولين كأكباش فداء من حجم المستشارين أو بعض رؤساء الجماعات القروية واستثناء شريحة واسعة من العمال والولاة فهي سبة ووصمة عار في جبين الدولة القانونية. - التقارير الصادمة التي نشرها المجلس الأعلى للحسابات والتي تجسد بشكل ملموس الاعتداءات الممنهجة على المال العام وترصد الاختلالات البنيوية التي تعاني منها إدارات الدولة والمؤسسات العمومية محك حقيقي لاختبار نوايا الحكومة الحالية ومدى قدرتها على تطبيق المقتضى الدستوري المتعلق بربط المسؤولية بالمحاسبة. - الأزمة الاقتصادية التي يتخبط فيها المغرب والإكراهات العميقة التي تعاني منها مالية الدولة وسياسة الإنفاق العام وتزايد عدد خريجي الجامعات وتنامي الاحتجاجات إشكالات لا يمكن معالجتها بالخرجات الإعلامية ونشر قوائم المستفيدين من الريع لأن المسألة تتطلب حلولا مستعجلة ومبتكرة لإيقاف النزيف. - الاحتماء بحكومة الظل والتذرع بعرقلة مسيرة البرامج الحكومية من لدن أعداء التغيير أصبحت حجة واهية. - الكل يراهن على نجاح الحكومة الحالية، خاصة في ظل دستور حديث عزز صلاحيات رئيس الحكومة، وإرادة سياسية قوية للتطبيق السليم للقانون ومحاربة الفساد والاستبداد، ومتغيرات إقليمية عاصفة أطاحت بالعديد من الأنظمة الشمولية؛ لكن رغم ذلك فإنه لا قيمة لربيع الديمقراطية في ظل خريف التنمية لأن المواطن أصبح متعطشا، أكثر من أي وقت مضى، للعيش الكريم والمساواة والإحساس بالانتماء والمواطنة، فهل تستجيب الحكومة الحالية لهاته التطلعات؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام القادمة. أستاذ القانون الإداري وعلم الإدارة كلية الحقوق/سطات