كما كان متوقعا، فاز حزب العدالة والتنمية بالأغلبية النسبية للمقاعد البرلمانية، مما أهله لترؤس الحكومة المقبلة في انتخابات حرة ونزيهة بشهادة معظم الملاحظين والمراقبين الدوليين. ولعل القراءة المتأنية والتحليل العلمي الرصين لهاته النتائج يحيل المتتبع على ضرورة طرح مجموعة من الاستفهامات تنطوي على اتهامات للخروج بخلاصات موضوعية تذهب في اتجاه إعادة تأهيل المشهد السياسي في بلادنا مستقبلا: - لماذا توهج حزب العدالة والتنمية وانطفأت أحزاب الكتلة الديمقراطية، الاتحاد الاشتراكي نموذجا؟ - ماذا لو تصدرت الأحزاب الأخرى قمة الهرم الانتخابي كالتجمع الوطني للأحرار والحركة الشعبية والأصالة والمعاصرة، كيف كانت ستكون ردود الفعل وقتئذ؟ - لماذا حاز الحزب الإسلامي هاته النتائج رغم أنه «أخفق» في تدبير الشأن المحلي على مستوى عدة جماعات محلية في المغرب؟ - ما هي الإكراهات العملية التي ستواجه رئيس الحكومة الجديد، خاصة تسمية وزراء السيادة: الخارجية والأوقاف والأمانة العامة للحكومة؟ يندرج التحقيب التاريخي لنشأة حزب العدالة والتنمية في إطار استيعاب الحركات السياسية في المغرب على يد الراحل عبد الكريم الخطيب الذي قدم ضمانات قوية إلى القصر بغية إدماج هذا التنظيم في الحياة السياسية لكي يكون فاعلا داخل النسق وليس خارجه، بعدما أعلن توبته السياسية ونبذ العنف وآمن بالوسطية والاعتدال في مقرراته التنظيمية وتوجهاته المذهبية. وقد كان هذا المولود الفتي قاب قوسين أو أدنى من إنهاء وجوده من طرف خصومه السياسيين غداة التفجيرات الإرهابية التي عرفتها مدينة الدارالبيضاء، حيث اعتبر آنذاك فاعلا معنويا ومسؤولا أدبيا عن هاته العمليات وطالب الكل برأسه، لكنه استطاع أن يخرج من عنق الزجاجة بشق الأنفس وقاد معارضة قوية داخل البرلمان عن طريق الحضور الدائم ومراقبة العمل الحكومي ومناقشة مشاريع القوانين المطروحة وإدخال التعديلات اللازمة بخصوصها، إضافة إلى أنه كان زاهدا في عملية الاستوزار ولم يكن يعرها أي اهتمام، بل سخر استراتيجية المساهمة النقدية والمعارضة النصوحة للعمل الحكومي، وبذلك أثبت أنه يتوفر على ماكينة تنظيمية محكمة ومنضبطة للديمقراطية الداخلية تفتقر إليها باقي الأحزاب الأخرى. وخلال الحملة الانتخابية السابقة، استثمر بشكل لافت توظيف سياسة القرب والجانب الخدماتي والبعد الروحي في استمالة الناخبين عن طريق الوجود ومواكبة الطقوس الاجتماعية، كالدفن والعزاء وشراء الكفن والأعراس، وتطويق الخصوم السياسيين، بل حتى المكونات السياسية التي تحالفت مع هذا الحزب لمنحه الرئاسة في العديد من المجالس البلدية كان مصيرها الإقصاء والتهميش، نتيجة للانفراد بالقرارات وعدم الإشراك، بغية القضاء عليها في المهد وإحراجها أمام المواطنين لأنها ستشكل قوة تنافسية في المستقبل ينبغي إقبارها بشتى السبل لتعبيد الطريق لما سيأتي مستقبلا من استحقاقات. كما أن القدرة على التواصل وفتح مكاتب الاتصال على مستوى الدوائر واللقاءات الصوفية المفعمة بالكسكس والأذكار والحلقات الدينية داخل المساجد، كلها كانت قيمة مضافة وطريقة ذكية لجلب المريدين والمتعاطفين إلى درجة أن المواطن البسيط أصبح يعتقد أن التصويت لصالح مرشحي العدالة والتنمية واجب ديني مقدس، خاصة في أحزمة البؤس وأحياء الصفيح التي تعتبر قلاعا انتخابية (عدلية تنموية) بامتياز نتيجة الفقر المدقع وتدني المستوى الفكري والمعيشي وسهولة التأثير في هذه الشريحة من الناخبين. مقابل هذا التوهج للمصباح، ذبلت الوردة وتراجع حزب الاتحاد متخبطا في حيرة تنظيمية لم يخرج منها إلى يومنا هذا، ومرد ذلك إلى الانبطاح للمخزن وفقدان الاستقلالية في اتخاذ القرار والتكالب على الحقائب الوزارية وانعدام التواصل مع المواطنين، بل إن بعض مرشحيه لم يظهر لهم أثر طيلة أيام الحملة، حتى إن هناك من الظرفاء من طالب بإذاعتهم في ركن المتغيبين أو البحث عنهم في برنامج (مختفون). ورغم أن قيادة هذا الحزب التاريخي تعي جيدا أسباب ومسببات ونتائج هذا المسلسل من التراجعات، فإنها متمادية في البحث عن الحقائب الوزارية بشتى السبل، لا يهمها مصير التنظيم بقدر ما يهمها مسارها الشخصي، وتلويحها بالخروج إلى المعارضة هو مجرد تكتيك لرفع سقف المطالب، فهو أشبه ما يكون برأي الفتاة المطلوبة للزواج، حيث تبدي الرفض بداية خجلا بينما هي في قرارة نفسها موافقة (يتمنعن وهن الراغبات).. فالأزمة التي يتخبط فيها الحزب حاليا في سياقاتها العامة مماثلة تماما لنكبة البرامكة. لكن الضغوطات التي مارسها المجلس الوطني أفضت إلى ضرورة التصالح مع المرجعيات ومراجعة الذات بالخروج إلى المعارضة وقطع الطريق على الانتهازية والانتهازيين ورواد استكمال الأغلبيات الحكومية. ومن زاوية أخرى، وعلى سبيل الافتراض، لو أن حزب الأحرار أو الحركة الشعبية أو الأصالة والمعاصرة كان هو من تصدر نتائج الانتخابات، لشُحذت ساعتها السكاكين ولتعالت الأصوات والأبواق ولاعتبرها الكل استحقاقات مخدومة ومزورة، خاصة حزب العدالة والتنمية الذي يتفنن دائما في تقمص دور الضحية. تأسيسا على ذلك، فالمؤسسة الملكية عبرت عن نضج كبير وإرادة سياسية حقيقية للتنزيل الفعلي للدستور الجديد بدون ماكياج، لأن لقاء ميدلت الذي جمع رئيس الحكومة بالملك كان بدون توجيهات أو إملاءات، وهذا اختبار حقيقي لحزب العدالة والتنمية، فالدستور الحالي لا يشير بتاتا إلى أن تعيين وزراء السيادة يبقى من اختصاص الملك رغم أن ما جرى عليه العرف الدستوري والممارسة السياسية هو أن تعيين هؤلاء الوزراء يكون دائما لصالح أشخاص مقربين من القصر. لقد انتهت الانتخابات بما لها وما عليها وبدأت المفاوضات لتشكيل الحكومة التي لن ترسم معالمها بسهولة في ظل رغبات جامحة في الاستوزار وفي ظل ظروف اقتصادية واجتماعية مأزومة.. انتظارات المواطن تنصب أساسا على القضاء على اقتصاد الريع وتوزيع الثروات بشكل عادل وتوفير الكرامة عن طريق الشغل والسكن اللائق والولوج إلى الخدمة العمومية بشكل متيسر وإحداث قطيعة مع الإفساد والفساد.. ولن تتأتى هذه الأمور إلا بالتنقيب عن الكفاءات والخبرات المتخصصة وعدم استوزار الوجوه المستهلكة التي قال فيها الشارع المغربي كلمته، لأن من ساهموا في الهدم والتدمير والتخريب على مدى سنين لا يمكن أن يكونوا، بأي حال من الأحوال، طرفا في عملية البناء. والمغرب في الوقت الراهن في حاجة إلى سواعد جميع أبنائه لمواجهة التحديات المطروحة، وذلك بإخراج النصوص التنظيمية إلى حيز الوجود وإنجاح أوراش الجهوية الموسعة والارتقاء بالمستوى المعيشي للمواطن، ولن يتأتى هذا إلا بوجود حكومة ائتلاف وطنية قوية بدل الرهان على تكتل متآكل لأن الانتخابات ليست غاية في حد ذاتها، بل هي مجرد وسيلة للوصول إلى الحكم وإدارة الشأن العام، فحكومة التناوب التوافقي، سواء في نسختها الأولى أو الثانية، فتحت آمالا عريضة أمام المواطنين، لكن النتائج المحققة أفرزت مفارقات كبيرة بين الوعود الانتخابية والالتزامات السياسية. وتبقى الآمال معقودة على رئيس الحكومة الجديد للوفاء بالتزاماته، بدل الاختباء والاحتماء وراء الخطابات التبريرية وموضة جيوب المقاومة كأسطوانة مشروخة لن تجدي نفعا بعد اليوم.