لم تكن قضية انهيار منازل في المدينة القديمة، والتي خلفت مقتل ثمانية أشخاص، لتمر دون أن يفتح، من جديد، ملف المحج الملكي والتأخير الذي يعرفه إنجاز هذا المشروع. وكان المحج الملكي في وقت سابق أهم مشروع ستعرفه الدارالبيضاء، لكن مع توالي السنوات، بدأ الشك يتسرب إلى أذهان متتبعي هذا الملف بخصوص إمكانية إنجازه في السنوات المقبلة. كان عبد الله يلهو مع أقرانه في درب الصوفي، غير مكترث بما يجري حوله. كان المستقبل بالنسبة إليه حابلا بالعديد من المفاجآت السارة، فرغم أنه يعشق المدينة القديمة كثيرا، فإنه كان يتطلع إلى السنة التي سترحل فيها أسرته إلى بيتهم الجديد، لإعطاء الفرصة للسلطات العمومية لإنجاز أكبر محج في المغرب، هو المحج الملكي، الذي كان قد أعلن عنه من قِبَل الملك الراحل الحسن الثاني عام 1989. فعبد الله، الذي كان عمره في أواخر سنة 1989، عشر سنوات، أصبح عمره حاليا 33 سنة، وهو الآن في عز شبابه وما يزال حلم الصبا يراوده ويعتقد، في أحيان كثيرة، أن الأمر ربما كان مجرد حلم طفولي تبدّد مع سنوات العمر في درب التازي، خاصة أنه لا تظهر له أي بوادر لإغلاق ملف عمّر لأزيدَ من 30 سنة وتوالت عليه مجموعة كبيرة من المسؤولين المحليين والحكوميين، دون أن يتقدم ولو خطوة واحدة إلى الأمام، بل المصيبة بالنسبة إليه وإلى عدد من أقرانه هي أن معالم المنطقة تحولت إلى النقيض، وصارت العديد من المنازل إلى خراب ودمار بسبب هدم العديد منها.. يشعر عبد الله بغضب كبير جراء التأخر في طي هذا الملف، لأنه لم يكن يعتقد أن شركة «صونداك» ستقف عاجزة عن إنجاز مشروع كان يُنظَر إليه في نهاية الثمانينيات كأكبر مشروع في القرن ستشهده المدينة، لأنه سيعيد الاعتبار إلى نسجيها العمراني، كما أنه سيكون بمثابة «هدية» إلى الدارالبيضاء وردّ الدين لها، نظرا إلى مساهمتها الكبيرة في النسيج الاقتصادي الوطني، لكنّ كل هذه الأشياء وغيرها لم تسعف عبد الله ولا المسؤولين المتعاقبين على جماعة سيدي بليوط (مولاي يوسف سابقا) للافتخار بهذه المعلمة. أسئلة لابد منها هل ستكون حكومة بنكيران قادرة على لملمة جراح مشروع المحج الملكي؟ وهل ستزرع روحا جديدة في هذا المشروع في عهد الوالي الجديد للدار البيضاء محمد بوسعيد؟ وهل ستتدخل الحكومة بقوة لإعادة العجلة إلى طريقها الصحيح؟ وهل ما يزال هذا المشروع يشكل أولوية بالنسبة إلى السلطات العمومية والمنتخبة، خاصة أن الجميع يعترفون بأن الدارالبيضاء ضيّعت وقتا كثيرا في انتظار ميلاد مشروع المحج الملكي؟ وهل صحيح أنه في سنة 2018 سينجز هذا هذا المشروع؟.. هذه الأسئلة وغيرها حاولت «المساء» أن تتبع خيوطها لدى بعض المقربين من هذا المشروع، والذين وإن اختلفوا حول الأسباب الكامنة وراء التأخير في إنجازه، فإنهم يتفقون أنه وقع تأخر كبير في عملية الانجاز، ما جعل الشك يتسرب إلى إمكانية إنجازه أصلا. تعثر أم استغناء لم يتردد المستشار المستقل مصطفى رهين في القول إنه لو كانت لدى السلطات العمومية إرادة حقيقية لإنجاز المشروع لكان قد خرج إلى الوجود منذ سنوات طويلة، نافيا أن تكون السلطات قد استغنت نهائيا على المحج الملكي: «لا أعتقد أن السلطات ستستغني بهذه السهولة عن مشروع المحج الملكي، كل ما في الأمر أن هناك تعثرا عن مستوى إنجازه». واستبعد رهين، في تصريح ل«المساء»، أن تكون للسلطات العمومية أي نية في أن توليّ ظهرها لمشروع المحج الملكي، قائلا: «كل ما في الأمر أنه وقع هناك تأخير في انجازه بسبب مجموعة من المشاكل». بدوره، ما زال كمال الديساوي يؤمن أنه سيأتي يوم ويرى المحج الملكي النور، مؤكدا أنه بعد سنوات طويلة من الانتظار، استبشر سكان المدينة القديمة خيرا بتولي صندوق الإيداع والتدبير أمور هذا الملف، لكن تعاقب السنوات سرعان ما بدد الأمل، إذ عاد كل شيء إلى نقطة الصفر، وقال إن «الجميع ينتظرون بداية الأشغال الحقيقية للمحج الملكي». كان من المفروض أن تنتهي الأشغال في المحج الملكي في منتصف التسعينيات، إلا أن مشاكل مرتبطة باللجوستيك أدت إلى بطء كبير في عملية الانجاز، ولم يعد مشروع المحج الملكي يثير شهية أحد، فحتى في دورات المجلس لا يثار هذا الموضوع إلا حينما يطرح ملف المدينة القديمة والدور المهددة بالانهيار. وكالة للمحج لإعطاء دينامية جديدة لهذا المشروع، اقترح كمال الديساوي إحداث وكالة وطنية تسند إليها مهمة معالجة ملف المدن القديمة وتتكلف، أيضا، بمهمة المحج الملكي، وبهذه الطريقة يمكن أن نحقق هذا الحلم، وقال الديساوي: «أعتقد أنه حان الوقت لإحداث وكالة تتكلف بهذه المهمة إلى جانب إيجاد حل لمشكل المنازل المهددة بالانهيار، خاصة في المدينة القديمة والفداء، كما أننا في مقاطعة سيدي بليوط نعاني كثيرا من هذا المشكل، الذي حان الوقت لوضع حد له»، وأكد المتحدث نفسه أنه، في آخر مجلس إداري لشركة «صونداك»، جرى الحديث عن 2018 كآخر موعد لإنجاز هذا المشروع. يقول العديد من المراقبين للشأن المحلي إنه كلما انهار منزل من منازل المدينة القديمة وخلّف موت بعض السكان إلا ويخرج ملف المحج الملكي من الرفوف ويعاد فتحه، من جديد، ليتم، بعد ذلك، إرجاعه إلى الرف دون أن يحرك ذلك ساكنا. العائلات المركبة يعتبر سعيد السبيطي، عضو مجلس مدينة الدارالبيضاء، أنه قد حان الوقت لفتح هذا الملف بكل جدية، قائلا: «راه الدّري اللّي كانت عندو 10 سنين.. ولات عندو دابا 30 سنة.. لا بد من البحث عن حلول جدية من أجل طي هذه الصفحة ولن يتأتى ذلك إلا من خلال إيجاد بديل للسكان». واعترف السبيطي بأن مشكل العائلات المركّبة يزيد من تأزيم هذا المشكل: «بالفعل، هناك مشكل العائلات المركبة التي لا بد أن نجد لها حلا، وقد تضاعف عدد الأسر بشكل كبير، وفي حالة إذا ما استمر الوضع كما هو عليه حاليا فسيتضاعف العدد من جديد، وحينها يصعب انجاز هذا المشروع، الذي ينتظره البيضاويون بشغف كبير». في فترة الثمانينيات، لم يكن أحد يتحدث عن مشروع «الترامواي» أو المسرح الكبير أو عن «مارينا» السياحي، وكان يُنظر إلى المحج الملكي كمشروع ضخم سيغيّر من معالم المدينة، فهل في ظل هذه المشاريع ما يزال البيضاويون محتاجين إلى هذا المشروع؟.. الحاجة إلى محج رغم الصورة الطيبة التي يرسمها المسؤولون عن الدارالبيضاء وعن مدى قدرة المدينة على منافسة مدن كثيرة، وطنيا أو خارجيا، فإن المدينة لا تتوفر، إلى حد الساعة، على محج كالذي يوجد في المدن «المتحضرة».. ولا يتردد متتبعون كثيرون للشأن المحلي ولملف مشروع المحج الملكي في تحميل كامل المسؤولية لشركة «صونداك»، التي تكلفت بإنجاز هذا المشروع، وحتى تقرير المجلس الأعلى للحسابات لسنة 2009 حمّل المسؤولية بشكل كبير لهذه الشركة. (انظر الإطار) وعود الشركة في كل مرة، كانت شركة «صونداك» تخرج إلى العلن وتؤكد أن مسألة إنجاز المشروع مسألة سنوات قليلة فقط.. وفي منتصف التسعينيات، تحدث بعض ممسؤولي الشركة عن أن المحج الملكي سيكون جاهزا في 2010.. لكن الشيء الوحيد الذي تحقق في تلك السنة هو أن عدد الأسر تضاعف بشكل ملحوظ، إذ تؤكد بعض المصادر أن العدد تضاعف بأكثر من الضعف، فقد كانت هناك 12000 أسرة ليصبح العدد الحالي يناهز 20000 أسرة.. عادت الشركة، في آخر مجلس إداري لها، لتنبئ البيضاويين بأن محجهم المنتظَر سيرى النور في 2018. ويشكك الكثيرون في القدرة على إنجاز المشروع في حدود هذه السنة، مؤكدين أن الطريقة التي يُدبَّر بها الملف حاليا لا توحي بأنه سينجز في هذه المدة، على اعتبار أن هناك أولويات أخرى تتعلق بالمشاريع الكبرى المُعلَن في المدينة، الترامواي، القطار الجهوي، الميترو، المسرح الكبير والخطوط الثلاثة للترامواي، ما يجعل إنجاز المحج الملكي في هذه الفترة أمرا غير ممكن. لمن الأولوية رغم كل ذلك، تعتبر بعض المصادر أن هناك إصرارا كبيرا على إنجاز هذا المحج، لأن الدارالبيضاء في حاجة إليه، علما أنه المشاريع الكبرى في المدينة لا يمكن أن تؤثر في إنجاز المحج، الذي سيربط المدينة القديمة بوسط المدينة، وسيكون بدوره واحدا من معالم الدارالبيضاء، مؤكدين أن الأمر يتعلق بمسألة وقت ليس إلا وأن الأمر يتعلق فقط بترتيب للأولويات، كما قال أحد المصادر: «يتعلق الأمر فقط بالتأخير في عملية الانجاز، لأنْ لا أحد يمتلك جرأة الاستغناء عنه، فبمجرد ما «تصفّى» كل الملفات المتعلقة بالعائلات القاطنة في الأحياء التي سينجز فيها المحج ستبدأ عملية الإنجاز، ولن تكون المدة طويلة». ولاة مروا من هنا إذا كان تقرير الميداوي قد كشف بالملموس «الخطايا» الكثيرة المرتكَبة في حق مشروع المحج الملكي، فإن العائلات المستقرة في موقع المحج لا تنتظر سوى أن تُفك طلاسم مشروع عمر لأزيدَ من ثلاثين سنة، وتعاقب عليه حكومات وولاة كثيرون، فيكفي ذكر كل من حمودة وأوشن ومولاي سليمان وبنهيمة والظريف والقباج وحلاب وبوسعيد حاليا دون أن يتمكن واحد من هؤلاء الولاة، باستثناء بوسعيد، الذي لم يمر على تعيينه سوى أيام قليلة، أن يُحرّكوا المياه الراكدة لهذا المشروع واكتفوا بمشاهدة مباني الأحياء التي من المفروض أن يقام عليها المحج، وهي تشبه الأطلال بسبب الهدم الذي لحق ببعضها، حتى أصبحت مثل المدن المعرضة لقصف جوي. مسؤولية بنكيران هناك من يعتبرون أن قضية المحج الملكي لا يمكن أن تكون قضية سلطات الدارالبيضاء وحدها، بل هي بالأساس ملف وطني بصيغة محلية، مُحمّلين المسؤولن لكل الحكومات التي تعاقبت على هذا الملف، بداية من حكومة عبد اللطيف الفيلالي إلى حكومة عبد الإله بنكيران، المدعو إلى فتح هذا الملف بكل جدية، ليس فقط بالوقوف على الاختلالات المرافقة له، ولكنْ بالأساس بحل جميع الإشكاليات المرتبطة به. الحلم المؤجل الأمل بالنسبة إلى عبد الله وباقي أقرانه ألا يعيش أبناؤهم «حلم» المحج الملكي نفسه ليستفيقوا في الأخير على «كابوس» اسمه قنابل الدور المهددة بالانهيار، والتي يروح ضحيتها مواطنون أبرياء لا ذنب لهم سوى أنهم آمَنوا، ذات يوم، أنه بإمكان السلطات أن تجد لهم بديلا في أقرب وقت لرؤية محج في مستوى المدينة الأولى في المغرب. هذا ما قاله قضاة الميداوي سنة 2009 كان المجلس الأعلى للحسابات قد أطلق النار على الشركة الوطنية للتنمية الاجتماعية في تقريره لسنة 2009، معتبرا أن مهمة هذه الشركة تمثلت في إنجاز مشروع المحج الملكي والجنبات المحيطة بمسجد الحسن الثاني. وأكد التقرير أن الشركة التزمت بتنفيذ مجموعة من الأهداف، كإخلاء منطقة المشروع من السكان واقتناء الوعاء العقاري الذي سيقام عليه المحج الملكي، والمقدر ب48 هكتارا، وإعادة إسكان 12.000 عائلة التي تقيم في موقع المشروع. وسجل تقرير المجلس الأعلى للحسابات لسنة 2009 ضعف المساحة المقتناة لفائدة المحج، إذ إلى غاية ماي 2009 لم يتجاوز مجموع المقتنيات العقارية 7.5 هكتارات، أي ما يمثل 15.6% من الوعاء العقاري للمشروع، والمقدر ب48 هكتارا، وأن حوالي أربع هكتارات جرى اقتناؤها في إطار اتفاقية مبرمة مع جماعة مولاي يوسف. ورغم ضآلة الوعاء العقاري الذي جرى اقتناؤه، وفق ما يؤكد التقرير، فإن المساحة التي تتوفر على رسم عقاري لم تتعد 3.9 هكتارات إلى غاية نهاية سنة 2008. ومن جهة أخرى، فإن أشغال الهدم تعرف بطئا شديدا، ذلك أنه لم يتم هدم سوى 600 متر من طول المحج الممتد على مسافة 1.5 كلم. وأوضح التقرير أنه، إلى غاية سنة 2008، لم يتعد عدد العائلات التي جرى إسكانها 2546 عائلة، أي 21% فقط من المجموع المتوقَّع إنجازه، من بينها 500 عائلة أعيد إسكانها في سنة 1995 من طرف شركة «التشارك»، في إطار الاتفاقية المبرمة بين الأخيرة والشركة الوطنية للتهيئة الجماعية. وأكد قضاة أحمد الميداوي، رئيس المجلس الأعلى للحسابات، أنه من بين 2546 عائلة، التي جرى إعادة إسكانها، يجب الإشارة إلى أن عددا كبيرا منها لا يوجد في لوائح الإحصاء التي تمخضت عن البحث المنجَز خلال سنة 1989. ومن بين أسباب هذا الخلل ظاهرة التكاثر وسط العائلات وكذا البنيات الجديدة في الموقع. في السنوات العشر المنصرمة، التي فصلت بين إجراء البحث وانطلاق عملية إعادة الإسكان في «النسيم»، أما في ما يخص التجار الذين رحلوا فإن عددهم لم يتجاوز 253 من بين 2.250، أي بنسبة 11.24 في المائة فقط. يمكن شرح الاختلالات التي عرفها إنجاز مشروع المحج الملكي، من جهة، بغياب نظرة واضحة وتصور منسجم للمشروع، في القصور الخطير في تدبير الممتلكات وفي تنفيذ المشاريع وتسويق المنتوجات وفي تسيير وتدبير شؤون الشركة. وأكد تقرير المجلس الأعلى للحسابات أن تقدير عدد العائلات التي تقطن العقار الذي سينجز فوقه المشروع على بحثين أنجزا في سنتي 1989 و1990 بالتعاون مع السلطات المحلية، إذ همّ البحث الأول إحصاء المباني (3376) والعائلات (12.000) في حين تطرق البحث الثاني للطبيعة العقارية للأراضي، والذي أسفر عن كون غالبيتها مملوكة للخواص. وباستثناء هذين البحثين، لم تنجز أي دراسة جدوى للمشروع، والتي كان من الممكن أن تظهر المعطيات المفصلة عن الأماكن التي سيقام عليها المحج الملكي، والتي بناء عليها يمكن صياغة خطة واضحة ومنسجمة تأخذ بعين الاعتبار المعيقات، خصوصا منها المالية والقانونية والاجتماعية للمشروع، إضافة إلى أن الشركة لا تتوفر على معطيات موثوق منها في ما يتعلق بعدد العائلات التي سيعاد إسكانها بسبب ارتفاع طلبات السكن بعد سنة 1989، نتيجة ظاهرة تكاثر العائلات وشكايات أبناء المستفيدين ومنح مساكن لعدة عائلات لم تكن مدرجة في إحصاء 1989، والتي استقرت بعد الفترة الأولى لإعادة الإسكان وإعادة احتلال بعض ملاك المساكن جرى إخلاء مكتريها من طرف الشركة. وأوصى المجلس الأعلى للحسابات الشركة الوطنية للتهيئة الجماعية بوضع رؤية إستراتيجية منبثقة عن دراسة جدوى المشروع وتحديد الأهداف بوضوح وحصر أشغال التنفيذ ووضع نظام للمراقبة والتتبع، الذي يعدّ ضروريا لتقييم العمليات المُنجَزة.