لاري سييمس، كاتب وصحفي أمريكي، اهتم بموضوع التعذيب الذي مارسته بلاده المتبجحة دائما بالحضارة والمدنية على سجناء عزل، كَتَب لهم حظهم العاثر أن يسقطوا بين براثين جلادين قساة أقدموا على التنكيل بهم في الخفاء وساموهم سوء العذاب بإيعاز ومباركة ظالمة من أعلى سلطة في البلاد.. انبرى الرجل إلى الساحة بضمير حي، فألف كتابا في هذا المجال، وأنشأ موقعا إلكترونيا سخره لرصد هذه الظاهرة الحاطة بالكرامة الإنسانية، فتعالوا نبحر وإياه في تجاويف هذا الملف الشائك، الذي صرفت من أجله أمريكا أموالا طائلة وبذلت جهودا ضخمة لكي يظل سره ملفوفا بأكفان قاتمة من الكتمان. اطلعت على ما يزيد عن 1400 وثيقة نزع عنها طابع السرية تتعلق بسوء معاملة السجناء منذ سنة2001، فوجدت من بين العناوين الكثيرة الصادمة ما يلي: - قدما سجين مصفدتان ومثبتتان على الأرض في سجن غوانتنامو... - جدل كبير قائم حول تعذيب الأسرى في معتقل غوانتنامو إلخ... لقد بدأ كل شيء بوثيقة في غاية الأهمية جاء فيها ما يلي: «في السابع عشر من شتنبر 2001 ، أي ستة أيام بعد ال--هجمات الإرهابية على نيويوركوواشنطن، وجه الرئيس جورج بوش إلى المجلس الوطني للأمن القومي مذكرة من اثنتي عشرة صفحة، يأذن فيها لوكالة الاستخبارات الفدرالية (سي آي إي) بإنشاء وإدارة مراكز سرية للتعذيب. وإذا كنا لا نعلم على وجه التدقيق محتوى تلك المذكرة، فإننا ندرك بالمقابل أنها فتحت الباب على مصراعيه لممارسة التعذيب. والدليل هو أن محامي وكالة الاستخبارات الفدرالية صرحوا بدون التباس لأحد قضاة بلادهم بأنها تشكل بالنسبة للمحاكم الأمريكية وللشعب الأمريكي ككل، خرقا سافرا للقانون. وبفضل «قانون حرية الإعلام»، الذي تعتبره جريدة «نيويورك تايمز» واحدا من أجود القوانين التي تسمح بنشر الوثائق التاريخية المنزوع عنها طابع السرية، فإنه تجوز لنا أن نقول بأننا وقفنا اليوم على مجمل ما جرى في تلك الفضاءات السرية المشؤومة المنشأة من طرف إدارة بوش. من جهة أخرى، فقد أقدم «اتحاد الحريات المدنية الأمريكية» على جمع ما يناهز 1400 وثيقة من وزارتي الخارجية والعدل ومن وكالة الاستخبارات الفدرالية، تدقق جميعها في المعاملات المشينة التي تعرض لها المعتقلون في أمريكا في إطار ما يسمى الحرب المعلنة على الإرهاب. فبصفتي صاحب الموقع الإلكتروني: www.thetorturereport.org ومؤلفا لكتاب: «ماذا تقول الوثائق حول أمريكا»، فإن عملي يتمثل اليوم في الغوص في هذا الكم الهائل من الوثائق والمستندات لمعرفة ما اقترفه وطني من جرائم فظيعة وتجاوزات صارخة لحقوق الإنسان. وإليكم ما توصلت إليه: القانون يتغير إن أبرز المسؤولين في الحكومة الأمريكية، بمن فيهم الرئيس بوش نفسه، قد أقدموا ببرودة دم فائقة على خرق القوانين الأمريكية والدولية التي تحرم التعذيب والمعاملات القاسية واللاإنسانية والحاطة بالكرامة. بل أكثر من ذلك، أنهم لم يجدوا أدنى غضاضة في الدفع بمرؤوسيهم في الجيش والمخابرات المدنية إلى خرق تلك القوانين مكانهم. وفي الوقت الذي انتفض ضدهم بعض من أولائك الرجال وتلك النسوة، مذكرين إياهم بخطر تعرضهم لمتابعات قضائية في حال تطبيقهم لتلك الأوامر الجائرة، واجهوهم بكذبة هائلة لما زعموا لهم بأنهم بصدد إعادة صياغة القانون، ثم أشهروا في وجوههم حججا ادعوا أنها ستحميهم من أية متابعة جنائية كيفما كان نوعها، وذلك ضدا على كل تلك الترسانة القانونية المجرمة للتعذيب. وبهذه الطرق التضليلية الملتوية، سقط أولائك المرؤوسون في المحظور وانغمسوا كليا في ممارسة كل البشاعات... لقد عذبوا رجالا عزلا في القواعد العسكرية، وفي مراكز مختلفة للاعتقال. عذبوا في أفغانستان، وفي العراق، وفي غوانتنامو، وفي القواعد البحرية المتناثرة على طول وعرض التراب الأمريكي. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل وصلت ماكينة تعذيبهم الطاحنة إلى السجون السرية التي أنشأتها الوكالة الفدرالية الأمريكية في أماكن شتى من العالم، وبالتحديد، في بلدان اشتهرت أنظمتها بالبطش والقسوة والتبعية المطلقة لأمريكا، حيث زودتها بمجموعات عديدة من المعتقلين لتقوم بممارسة التعذيب عليهم بالوكالة عنها. وفي مرتين على الأقل، استفاق ضمير بعض الجلادين، فصرحوا بأن هذه الممارسات المقيتة لم يعد لها أي معنى، بيد أن واشنطن تمادت في غيها وأصرت على مواصلة فعلها الشنيع. وهكذا تعرض أناس أبرياء لضروب شتى من التعذيب، كما تعرض له بنفس الحدة أو يزيد، أناس آخرون أدينوا على خلفية جرائم مرتبطة بالإرهاب، فكان من جراء ذلك أن فُوتت فرصة متابعتهم قضائيا بسبب ما تعرضوا له من فظاعات... لقد عذبوهم وأمعنوا في تعذيبهم، رغم أن ذلك لا علاقة له بتهديدات وإن قيل عنها إنها كانت وشيكة التنفيذ. عذبوا ارتكازا على معلومات خاطئة انتزعت من سجناء آخرين بالقهر والقوة... ولكن أخطر ما في الأمر، هو أنهم عذبوا ونكلوا تلبية لرغبة مرضية جامحة في أعماقهم لم يكن هدفها الوحيد سوى تحطيم أشخاص ونسف معنوياتهم عبر تجريدهم من آدميتهم. ولكي لا يطلع العالم على ما اقترفته أياديهم الآثمة من مناكر مروعة، بادروا إلى طمس الآثار وإتلاف الدلائل والحجج المتمثلة في الأشرطة المصورة لحصص التعذيب. وبهذا يكونوا قد فوتوا الفرصة على أولائك السجناء للتمتع بحقهم المشروع في المحاكمة العادلة، حسب ما قاله، ذات يوم، المفتش العام للإدارة المركزية الفدرالية الأمريكية في تقرير نشر سنة 2004: «عندما نقوم بتعذيب أشخاص ما، فإننا نلقي بأنفسنا في ورطة عويصة جدا، ذلك أننا نكون مرغمين على إخضاعهم لعزلة شاملة مخافة أن يفضحونا بإفشاء ظروف اعتقالهم للعالم الخارجي»، وذلك ما حصل فعلا، لأن الأمر هنا يتعلق بفرض صمت مطبق على مجموعتين متباينتين من الشهود، ونقصد بهما الجلادين والضحايا على حد سواء. شهادات المنشقين في مرات عديدة، سواء في أفغانستان، أو العراق، أو غوانتنمو، أو في قلب المراكز السرية لإدارة الاستخبارات الأمريكية، أو في البنتاغون، أو واشنطن، استطاع بعض المعتقلين، بشق الأنفس، تكسير جدار الصمت وإيصال شهاداتهم الصادمة إلى العالم الخارجي. نقول بشق الأنفس، لأن ذلك النظام القاهر، نظام المحاكم والمعتقلات السرية، نجح كثيرا في خنق معظم الأصوات، حيث إنه لم يكن بإمكاننا تحديد سوى أسماء معتقلين عددناهم على رؤوس الأصابع، استطاعوا رفع عقيرتهم للتنديد بما طالهم من ممارسات وحشية لا قبل لهم بها، وذلك في نفس الوقت الذي ظل فيه الرئيس الأمريكي ومستشاروه المقربون يشجعون استمرارها بنفس مطمئنة وقلب مرتاح. من جهة أخرى، انبرت إلى الساحة مجموعة من الضمائر الحية لعملاء على اختلاف مستوياتهم وانتماءاتهم ليقفوا أمام هذه الظاهرة اللاحضارية سدا منيعا. ومن حسن الحظ أن هنالك وثائق تشهد على ذلك بالحجة والدليل، بحيث أن الفضل في تسريب معظمها يرجع إليهم أساسا. فعبر كثير من الرسائل الإلكترونية المتبادلة بين عملاء «ف. ب. أي»، الذين عبروا خلالها عن تقززهم واستنكارهم لما شاهدوه عيانا في بعض الاستنطاقات التي حضروها في غوانتنامو، وكذلك عبر تحقيقات داخلية ورسائل ومذكرات حررت من أجل تخزينها في الأرشيفات، فإن كل هذه الوثائق تبرهن بالملموس بأن الذين أمروا ونفذوا هذا التعذيب، فعلوا ذلك عن قصد وسبق إصرار، رغم كل الانتقادات التي وجهت لهم، ورغم جميع المحاولات الرامية لإقناعهم بعدم فعالية تلك الممارسات المشينة. لا يشك ذو لب سليم بأن التعذيب يجرد الإنسان من آدميته، بل أكثر من ذلك، إن مجرد توقعه ينزل بالنفس البشرية آلاما حادة مبرحة قبل أن يبدأ مسلسله الرهيب بالتطبيق. لهذا نعتقد أنه من المستحيل إطلاقا أن يقدم رجال أسوياء على تعذيب أناس مثلهم وهم يعتبرونهم من سلالة بني البشر.. فعبر خطابات تلقاها المحامون من موكليهم واتسمت بمسحة غير قليلة من الدعابة والمزاح، وعبر أجوبة طريفة ساذجة رد بها هؤلاء على مستنطقيهم ودونت في محاضر المحكمة، تماثلت لنا بوضوح شديد وجوه آدمية عادية لا علاقة لها بالوجوه الشيطانية، التي يريدون إقناعنا بحمم الشرور المتدفقة منها، فصرنا نتساءل بجد: أليست المعادلة مقلوبة؟ ألسنا نحن من يلبس جبة الأبالسة ويساهم بشكل متحمس في تحطيم إنسانية الإنسان؟ أبو زبيدة يعذب ما يربو عن أربع سنوات في الشهر المنفرط، وجدتني مرة أخرى في إحدى قاعات المحاكم الفيدرالية لحضور فصل آخر من الفصول الأخيرة لهذه الحكاية المسماة «حرية المعلومات»، والتي بفضلها استطعنا إزاحة التراب عن 140.000 وثيقة أقبرت بنية مبيتة. في ذلك اليوم المشهود، كان النزاع على أشده حول معرفة ما إذا كانت وكالة الاستخبارات الفيدرالية ملزمة أم لا بنشر صورة شمسية لأبي زبيدة، المعتقل منذ عشرة أعوام في سجوننا الرهيبة، والذي كان من الأوائل الذين جربت عليهم إدارة الرئيس بوش ما أسمته «التقنيات المحسنة للاستنطاق»... . لقد عملت الوكالة يومئذ كل ما في وسعها لإخفاء صور أبي زبيدة وطمس آثار معاملتها الحيوانية له في أحد معتقلات التايلاند قبل أن يرحل إلى معتقل آخر ببولاندا لتستأنف عليه ممارسة تلك «التقنيات المتطورة». وقد عمدت بذلك إلى إتلاف 92 شريطا مصورا دون أن تكون محط أي إزعاج أو قلق من أية جهة ما. وكيف يمكن أن يحرجها أحد وهي التي كانت تشتغل بمباركة من البيت الأبيض؟ البيت الأبيض نفسه الذي أعطى الضوء الأخضر لتصوير تلك الحصص التعذيبية وتوثيقها توثيقا مفصلا، بما فيها 83 حصة اشتملت على التعذيب بغطس الضحية في الماء. وقد جرت الحصة الأخيرة بحضور مبعوث عن واشنطن على خلفية عدم استساغة الإدارة الأمريكية لخلاصة الاستنطاقات التي لم تفض مع أبي زبيدة إلى أي نتيجة تذكر. وإلى حد الساعة، فإن المحكمة لم تبت بعد في مسألة صورة أبي زبيدة، مما يجعلنا نعتقد أن الوكالة غير مستعدة لنشر صورة من شأنها أن تعطي الدليل على تورطها في تعذيب إنسان لا حول له ولا قوة. وفي الحقيقة، نحن لسنا بحاجة إلى هذه الصورة ما دام أبو زبيدة قد قام بوصف دقيق لما تعرض له من تعذيب شنيع في شهادة له وجهها للجنة الدولية للصليب الأحمر، وكذا في شهادته التي أدلى بها أمام محاكم غوانتنامو والتي كان مآلها الحجز بطبيعة الحال... إن هذا الوصف يتطابق كليا مع جنس المعاملات المقترحة من طرف الوكالة الفدرالية والمصادق عليها من طرف قضاة إدارة بوش في إطار تلك الوثيقة الشنيعة المسماة: «مذكرة فاتح غشت 2002 المتعلقة بالتعذيب». أكيد أنه ليست لدينا أشرطة مصورة، ولكن لدينا بالمقابل فحوى المكالمات المتبادلة بين الموقع السري في التايلاند وواشنطن، والتي تتحدث كلها عن تطور حاصل في استنطاق أبي زبيدة. كما لدينا كذلك ردة الفعل المندهشة للمفتش العام للوكالة الفدرالية بعد سفره إلى التايلاند لمعاينة تلك الأشرطة. فمشاهدته لتلك الفظاعات متسترا بجنح الظلام شيء، أما مفاجأته بقراءتنا تفاصيل وقائعها أمامه، ثم إصراره بعد ذلك على نكرانها، فهو شيء آخر. غير أن الواقع لا يرتفع، لأن ما يجري اليوم في بلادنا هو النقيض كل النقيض لما يتبجح به مسؤولونا من احترام للديمقراطية وحقوق الإنسان... وبهذا الخصوص، أوردت جريدة «كازيتا ويبوركزا» البولندية في شهر مارس 2012 بأن قضاة بولاندا قاموا باستنطاق المسؤول عن المصالح الاستخباراتية لبلادهم، على خلفية حرمان أبي زبيدة ومعتقلين آخرين من حريتهم وتعريضهم للتعذيب في مركز سري تشرف عليه وتديره الوكالة الفدرالية بالقرب من قرية تسمى «سزيماني». هذا ومن المعلوم أن الوكالة قامت بترحيل أبي زبيدة من التايلاند إلى بولاندا في تاريخ 4 دجنبر 2002، فوصل إلى تلك القرية مرفوقا بعملاء أمريكيين وهو ببذلة السجن، مصفد اليدين والرجلين، ومغطى الرأس، لتطأ قدمه أرض بلد يتوفر نظامه على دستور من أحدث الدساتير في العالم، حيث تشير ديباجته إلى أن بولاندا غير مستعدة أبدا لنسيان تلك التجارب المريرة التي مرت منها حينما انتهكت الحريات الأساسية وحقوق الإنسان على أرضها بشكل صارخ.. وللتذكير، فإن ذلك الدستور الجميل قد صودق عليه في سنة 1997، أي خمسة أعوام قبل أن تحط طيارة الوكالة الفدرالية عجلاتها على أحد مدارج مطارات البلد. معتقلات سرية عبر العالم إن إنشاء وإدارة معتقلات سرية عبر العالم بأسره من طرف الوكالة الفدرالية بنية إبعاد السجناء والجلادين عن القوانين الأمريكية، التي تجرم التعذيب، هو في حد ذاته أمر أقل ما يقال أنه موغل في الخزي ويجر العار على كل الأمريكيين.. إلا أن إنشاء معتقل سري في بولاندا بالذات، ذاك البلد الذي عانى من تجارب مريرة جدا كان من بينها احتلالها من طرف النازيين، وإنشاء معتقلات للإبادة الجماعية على أرضها، ثم رزئها تحت نير القهر الشيوعي طيلة أربعين سنة، كل ذلك أعطى لهذه المعضلة بعدا في منتهى الشر والخبث. إن الشعب البولندي، الذي خرج قويا من كل هاته المآسي المفجعة، أنشأ دولة أرادت أن تحرم بدون أدنى تحفظ كل المعاملات القاسية واللاإنسانية والحاطة من الكرامة البشرية. غير أن مزاج الإدارة الأمريكية لم يرق له سوى تلطيخ سمعة هذا البلد بممارسة التعذيب على أرضه. ولو تحرينا قليلا من الإنصاف، لطرحنا على أنفسنا هذا السؤال البسيط: كيف سيكون رد فعل الأمريكيين إذا ما علموا بأن حكومتهم تآمرت مع حكومة أجنبية وسمحت لها، بكيفية سرية، بخرق بعض مقتضيات قانونها على التراب الأمريكي؟ أما كانت ستقيم الدنيا ولا تقعدها؟ إن الحكومة الأمريكية مهما لجأت إلى مختلف التبريرات فإنه لن يشفع لها أبدا أنها فعلت فعلتها في السر لا العلانية. نحن بحوزتنا اليوم كما هائلا من الوثائق التي أزيل عنها طابع السرية، ومعنى هذا أننا نعلم الآن علم اليقين مجمل ما جرى... وما دام رئيس المخابرات البولندية معتقلا لتورطه في تسهيل عمليات التعذيب التي باشرتها الوكالة المركزية الأمريكية، وما دامت التحقيقات جارية في بلدان أخرى، فسوف نتوصل لا محالة إلى الحقيقة، كل الحقيقة. لاري سييمس منشئ موقع: www.thetorturereport.org