قرأت في جريدة «الدستور» (بتاريخ 11/5/2012م) عرضا لكتاب ألفه الأستاذ حلمي النمنم باسم «حسن البنا الذي لا يعرفه أحد». ومع أن العرض في أقل من نصف صفحة، فإنه غرس بالمانشيت «حسن البنا تلقى تمويلا منتظما للجماعة من السعودية»، «مشروع حسن البنا امتداد لمشروع محمد بن عبد الوهاب مؤسس الوهابية، وليس امتدادا لمشروع الأفغاني أو محمد عبده»، مما يؤكد أن المؤلف لم يعرف حسن البنا، فكل واحد يعلم بأن السعودية في الثلاثينيات كانت دولة فقيرة، تعيش على عوائد الحج، ويعمل معظم وزرائها مطوفين، لأن البترول لم يكن قد ظهر، وعندما ظهر كان يباع بالبخس، البرميل بثلاثة دولارات أو أقل، وقد نشرت مجلة «الإخوان المسلمون» في الثلاثينيات صورة للأستاذ عبد الرحمن البنا وهو يخطب على المنبر: «كيف نأكل وأهل مدينة رسول الله جوعى»، ولم تكن السعودية غنية إلا بعد حرب رمضان سنة 1973م، التي قفزت بسعر البرميل من ثلاثة إلى أربعين دولارا وإلى ما هو أكثر حتى وصل إلى المائة دولار، وكان الإخوان يرسلون «بعثة الحج» كل عام، ويخصصون لها مبلغا محددا، كما يخصصون لرئيسها مبلغا آخر، ولدينا خطاب موجه من الأستاذ عبد الحكيم عابدين إلى الأستاذ عبد الرحمن البنا يهنئه على اختياره رئيسا لبعثة الحج، وأن الجمعية قد خصصت مبلغ مائة جنيه للبعثة وخمسين جنيها للحفلات والصدقات. وقد كانت للملك عبد العزيز «حساسية» خاصة بالنسبة إلى الإخوان، وعندما اقترح عليه الأستاذ البنا تكوين شُعبة للإخوان بالسعودية، قال: «ما احنا كلنا إخوان مسلمين يا شيخ حسن»، مما يدل على وجود حساسية خاصة جعلته يتهرب بهذا الحل الدبلوماسي. وأكد المؤلف أن فكر الإخوان يعود إلى فكر محمد بن عبد الوهاب وليس إلى الأفغاني أو محمد عبده، في حين أن جمال الأفغاني ومحمد عبده كانا ماثلين في الإخوان، بل في أسرة البنا، وقد سمى الوالد أصغر أبنائه باسم جمال «تقديرا» للأفغاني، كما كان فكر محمد عبده وثيقا بفكر الأسرة، وكان يمكن القول إنه لولا الإخوان المسلمون لكان من الممكن أن يسقط الشباب المسلم في أيدي الوهابيين، وكان لهم تنظيم هو «جمعية أنصار السُّنة المحمدية» التي كان يرأسها الشيخ حامد الفقى، صاحب العلاقات المتواترة مع السعودية، لكن ظهور فكر الإخوان المسلمين، ببساطته ومرونته وانفتاحه، كان سدا أمام فكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب صاحب أشد الدعوات تشددا وانغلاقا وتمحورها حول توحيد الألوهية إلى جانب توحيد الربوبية، وكذلك آيات الصفات. وكان حسن البنا هو الامتداد الطبيعي للشيخ رشيد رضا الذي يمثل فكر محمد عبده، وقد استلهم حسن البنا من الأفغاني قسمة الجهادية، ومن محمد عبده العقلانية، ومن رشيد رضا الفقه الميسر الذي يُعنى بالقضايا الحيوية والمعاصرة، بالإضافة إلى فكره الخاص الذي كان يضم شعرة من التصوف، وصهر هذه الأمور كلها في بوتقة واحدة لتكوِّن «الإخوان المسلمين». ومن الاتهامات التي اتهم بها المؤلف الإمام البنا أنه «لم يتورع عن مناصرة الملك فؤاد وابنه فاروق، وكل الحكومات الاستبدادية»، ولم يقدم المؤلف ما يثبت به هذا، ولكنه يخلط بين «المناصرة» و«الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، وكانت لدى الإخوان حكمة يؤمنون بها تقول «لو كانت عندي دعوة مستجابة.. لدعوتها للسلطان، لأن الله يصلح بصلاحه خلقا كثيرا»، ولما كانت العلاقة ما بين الإخوان ومن يلي الحكم ليست أن يناوشوه ليأخذوا الحكم، كما هو الهدف المعلن لكل الأحزاب، لم يكن الحكم في حد ذاته هدفا من أهداف الإخوان المسلمين، لكنهم أرادوا من الحكم تطبيق الشريعة، ولهذا كان من تقاليد الإخوان أن يتقدموا إلى الحاكم الجديد -سواء كان رئيس وزراء أو ملكا- بالتحية والتعبير عن مشاعر الولاء، وأملهم في أن يحكم بما أنزل الله، وهذا أبعد شيء عن الملق أو التأييد. فهل يُعد هذا «مناصرة»، وقد كان الباشا الذي يكلف بتشكيل الوزارة يختم خطابه للملك «عبدكم المطيع». وكما ذكرنا في مستهل المقال، فإن الكاتب اتهم الإخوان بأنهم تلقوا تمويلا منظما للجماعة من السعودية، وقد فندنا ذلك من واقع الحكومة السعودية الذي لم يكن يسمح بصرف مثل هذا التمويل، ولكن يظل السؤال: من أين ينفق الإخوان المسلمون؟ ولم يكن هناك ما هو أسهل من هذا، فقد كانوا ينفقون من جيوبهم، فكل واحد مشترك باشتراك كبير، وكذلك ملتزم بالتزام مالي آخر، ولم يكن هذا هو حال الأحزاب التي لم تكن جماهيرية، وليس فيها من يدفع ويشترك؛ أما بالنسبة إلى الإخوان، فما إن تجد بهم حاجة أو ضرورة حتى تصبح «جيوب الإخوان جيوب الدعوة»، وتصبح دعوة الإخوان التي كانت أبعد الدعوات هي أغناها، وعندما أراد الإخوان شراء مبنى الحلمية -وكان فيلا جميلة في ميدان الحلمية الجديدة- وأعلنوا عن ذلك توالت الإعانات والدفع بحيث توفر المبلغ المطلوب وزيادة، وناشد الأستاذ البنا الإخوان الكف، فقد قُضى الأمر. على أن أسوأ ما في الكتاب هو عنوانه، فحسن البنا آخر من يُرمى بالخفاء، فحياته الكفاحية المؤثرة وشهادته على أيدي الذين ائتمنوا على حياة المواطنين جعلتاه معروفا ينطبق عليه ما قيل عن زين العابدين عندما تكبكبت العيون نحوه، وتركوا الخليفة هشام، فقال: من هذا؟ فرد الشاعر: وليس قولك من هذا بضائره العرب تعرف من أنكرت والعجم ومرة أخرى، نصحح للأستاذ النمنم اسم كتابه «حسن البنا الذي لا يجهله أحد».