يكاد لا يمر يوم دون أن نرى صورته أو نسمع اسمه أو اسم التنظيم المنسوب إليه، «القاعدة». قليل الظهور، كثير الحضور، يهدد ويتوعد، يفجر ثم يختفي. من هو هذا الرجل الأسطوري؟ من أين أتى؟ أين نشأ وعلى من تتلمذ؟ لماذا تحالف مع الشر وعاد ليحاربه؟ ما هي تفاصيل حياته السابقة لاحتراف «الجهاد»؟ من هو أسامة الإنسان؟ رحلة تقفي الآثار الفكرية والمرجعية الدينية لأسامة بن لادن تأخذك في تعرجات طويلة ومتاهات ملتوية فوق رمال الصحراء العربية القاحلة. لكنك سرعان ما تجد وجهة البحث آخذة في التقاطع مع طريق يبدو أن العدو الأول لأمريكا سلكه مرارا أو انطلق منه. إنه طريق «المؤسسة» الأولى للإسلام السياسي الحديث في العالم العربي، «مؤسسة» الإخوان المسلمين. فمحمد قطب الذي كان كثير التردد على الجزيرة العربية لأداء مناسك الحج والعمرة، ومن ثم بث «الدعوة» الإخوانية ومد قنواتها؛ لم يكن وحده قادرا على التأثير في أسامة المتشبع بموروث ديني متلاقح، بين ممارسات عائلية «معتدلة» ومحيط وهابي لا يقبل بكثير اختلاف. فقد كانت «الفترة من بداية الثلاثينيات وحتى استشهاد الشيخ حسن البنا عام 1949، بحق هي العصر الذهبي ل«رهبان الليل وفرسان النهار» كما كان البنا يسمي أتباعه، فلقد انتشرت فيها الدعوة وتوسعت أركان الجماعة ماديا وبشريا، وتواصلت مع القصر (الملك الحاكم في مصر وقتها) والإنجليز والقوى الوطنية جميعا ودون استثناء، في نسج عبقري من الذكاء السياسي صنعه رجل واحد اسمه حسن البنا...» يقول رفعت سيد أحمد في كتابه «قرآن.. وسيف». و«بحلول العام 1948 بلغ تعداد أعضاء حركة الإخوان نصف مليون عضو في مصر، وانتشرت فروعها في العديد من بلدان الشرق الأوسط، وكثيرون يرون في الحركة حاضنا أساسيا للفكر الإسلامي الراديكالي الذي جاء بعدها وما نشأ من هذا الفكر الأصولي على صعيد العمل السياسي (خصوصا في بعده السني، ذلك أن الثورة الإسلامية في إيران الشيعية في العام 1979 هي أيضا قد لعبت دورا كبيرا). «اتخذ البنا موقفا معارضا من الملكية في مصر وقد اغتيل بالرصاص في أحد شوارع القاهرة في العام 1949» يضيف الأمريكي جوناثن راندل. تحوُّل الإخوان المسلمين نحو الاختيار المسلح سوف يتبلور بعد سقوط الملكية في مصر، عندما تعرضوا لويلات القمع والتنكيل على عهد الثورة الناصرية، ليخرج أحد أبرز قادتهم ومنظريهم، سيد قطب، بمؤلفه الشهير «معالم على الطريق» بعد مكوثه لسنوات طويلة في السجن. وبات هذا الكتاب منذ هذا الحين مرجعا أساسيا للحركات الأصولية الباحثة عن تأسيس شرعي لاستعمال العنف، ليس كجهاد خارجي ضد «الكفار» بل حتى في «أرض الإسلام» بحديث سيد قطب عن «الجاهلية الجديدة». و مع اشتداد «الحرب الباردة» العربية-العربية، وظهور سياسة المحاور وبزوغ القومية الناصرية كتهديد للأنظمة «الرجعية» في العالم العربي، سوف يجد الإخوان المسلمون ملاذهم في حكام مملكة آل سعود الذين كانوا على أتم الاستعداد للإنفاق بكرم حاتمي على أعداء جمال عبد الناصر، ابتداء من الحرب «المباشرة» في اليمن إلى احتضان «المعارضين» من أصحاب اللحي والهندام ناصع البياض؛ خاصة وأن الحليف الأمريكي يبارك سياسية مماثلة، لما أبداه ناصر من تقارب مع الدب السوفياتي. لكل ذاك فإن محمد قطب لم يكن يأتي إلى الحجاز فقط من أجل سواد عيون أسامة بن لادن وأمثاله من أبناء الأثرياء السعوديين، بل أيضا لتفقد وتأطير العدد الكبير من أتباع الحركة المنتشرين في المملكة السعودية، موزعين الأدوار بين من اختار الأعمال التجارية ومراكمة الجاه والنفوذ الاقتصادي، ومن كرس نفسه للتعليم وتلقين أطفال وشباب الجزيرة العربية تعاليم الدين. فكان من بين هؤلاء التلاميذ شخص يدعى أسامة بن لادن، يحسن الإصغاء وشديد الحساسية للخطاب المزاوج بين الحتمية الدينية والجدل السياسي. «لكن العربية السعودية كانت نظريا، من قبل أن يوجد الإخوان، دولة إسلامية، وما كانت الوهابية لتتقبل في صميم أرض الإسلام أية صيغة أخرى غير صيغتها من التعبير الديني. الإخوان في العربية السعودية كانوا، في أحسن الأحوال، مقبولين تسامحا من أهل الحكم، لكن ظلا من الشك كان يلاحقهم باستمرار. بحلول عقد السبعينيات من القرن الماضي كانت جماعة الإخوان المسلمين في معقل نشأتها في مصر قد انتزعت أنيابها ومكامن القوة فيها، وراح المتشددون من أبنائها ينعطفون انعطافا حادا باتجاه ما صار يعرف فيما بعد بالجهاد الإسلامي، لكن في السكينة السعودية الراكضة والمرحة، لاحظ سعودي آخر من الطبقة الميسورة، ذو ماض إخواني معروف، أن أسامة نشأ وترعرع على مبادئ الإخوان المسلمين، ولم ينفصل عنهم إلى أن انغمس في المعمعة الأفغانية في الفترة الممتدة ما بين أواسط الثمانينيات وأواخر القرن الماضي» يقول كتاب «أسامة» لجوناثن راندل. كانت جاذبية الإخوان المسلمين تتجلى في جمعهم بين دور الإصلاح الديني والسمو الروحي الأخلاقي وقيم «الثوار» السياسيين على أنظمة حكم «فاسدة» تقبل بالوجود الأجنبي، وكان أسامة طالب إدارة أعمال متوسط المستوى، حسب الصحفي الأمريكي جوناثن راندل، في جامعة الملك عبد العزيز التي اختار الدراسة فيها دون السفر إلى الخارج مفضلا البقاء بالقرب من والدته. وفي أواخر السبعينيات من القرن الماضي «واجه فلسطيني علاّمة من الإخوان المسلمين يدعى عبد الله عزام، ذو لسان مطواع، مشكلةً في الأردن حيث كان يدرس الشريعة والفقه الإسلاميين، وكسواه من الإخوان الذين واجهوا وضعا مماثلا، قصد المملكة العربية السعودية حيث حصل على وظيفة في جامعة الملك عبد العزيز... كان عزام رجلا معروفا في السعودية وكانت عظاته منتشرة على نطاق واسع بفضل الأشرطة المسجلة. وكان يتبنى وجهة نظر الفرع الفلسطيني للإخوان المسلمين الذي رفض بازدراء الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية القائمة على أساس علماني وبنضالها المسلح ضد الاحتلال الإسرائيلي...»، لم يقتصر اهتمام عزام على السعودية، بل كان أوسع من ذلك، وسرعان ما أخذه إلى وجهة إسلامية أخرى هي باكستان، حيث اشتغل أستاذا في الجامعة الإسلامية الدولية في إسلام أباد ثم انتقل إلى أفغانستان، هناك حيث سيعود الرجلان (عزام وبن لادن) إلى تجديد اللقاء أواسط الثمانينيات في مدينة بيشاور.