يكاد لا يمر يوم دون أن نرى صورته أو نسمع اسمه أو اسم التنظيم المنسوب إليه، «القاعدة». قليل الظهور، كثير الحضور، يهدد ويتوعد، يفجر ثم يختفي. من هو هذا الرجل الأسطوري؟ من أين أتى؟ أين نشأ وعلى من تتلمذ؟ لماذا تحالف مع الشر وعاد ليحاربه؟ ما هي تفاصيل حياته السابقة لاحتراف «الجهاد»؟ من هو أسامة الإنسان؟ «بالنسبة إلى المال، لم يكن أسامة كرماً على دربٍ ولا كفاً مفتوحة، وهو من هذه الناحية لا يختلف عن أي تاجر حضرمي، لكنه في الوقت عينه كان يستخدم المال بواقعية حفاظا على رضا مضيفيه. بعد مغادرته أفغانستان إلى السودان في عام 1991، قال لأتباعه إنه مستعد لإعادة إلحاقهم بالمنظمة شرط أن يدفعوا هم بطاقات سفرهم إلى الخرطوم، والذين لحقوا به إلى هناك كانوا غير راضين على الإطلاق عما كان يُدفع إليهم من رواتب. كأننا في مؤسسة أعمال تجارية غربية، حيث الموظفون دائمو الاعتراض على أن رواتب بعضهم أفضل من رواتب الآخرين... المحيطون من ذوي الرتب العالية، وغالبيتهم من المصريين، كانوا مكروهين على مستوى المقاتلين العاديين من أعضاء القاعدة، وقد جلب أسامة لنفسه هذا النوع من المتاعب، فالمنتمون إلى القاعدة يُدفع إليهم راتبان: واحد مقابل العمل الذي يقومون به، والثاني مقابل كونهم أعضاء في المنظمة. كذلك كانوا يحصلون على زيت الطعام والشاي والسكر وبعض المواد الغذائية الأساسية الأخرى مجانا، بالإضافة إلى العناية الصحية»، يقول كتاب «أسامة» لجوناثن راندل. الفقرة تطل على جانب الحياة اليومية لزعيم القاعدة في السودان، هناك حيث تيسّر له لأول مرة العيش في بلد آمن وتدبير خططه الحربية في الآن نفسه. وكان لزاما وضع نظام خاص بتسيير التنظيم الناشئ، والمهمة الرئيسة، الحفاظ على سلامة الزعيم. حول هذه النقطة يقول الكثيرون إن نقطة قوة أسامة بن لادن هي حرصه الشديد وحذره من محاولات الاغتيال، واحتياطه من غدر المقربين. لذلك كانت القاعدة تشغل إلى جانب المصريين واليمنيين وغيرهم من «قدماء» الحرب الأفغانية، بعضا من السودانيين المنتمين إلى الجبهة الوطنية الإسلامية، اتقاء لشرهم وإكراما لشيخهم الترابي، بإشعاره بأنه قريب من مركز القرار وعلى اطلاع دائم على ما يجري. لكن الخطأ الذي قد يقود إلى تفسير المآل الأخير لهذا التحالف، كان تخصيص أسامة لرواتب وُصفت بالزهيدة لأتباعه من السودانيين، وحرمانهم من الامتيازات المادية والاجتماعية التي يتمتع بها باقي أعضاء القاعدة، مما أثار احتجاجاتهم المتكررة، وامتعاضهم من الوضع الذي يهمشهم، وتأكدوا من إبلاغ امتعاضهم هذا إلى بن لادن، لكن ذلك لم يغير في واقع الأمر. «في غضون ذلك، عاد الظواهري إلى مصر، وراح يدعو حركة الجهاد الإسلامي إلى تنفيذ هجمات أكثر جرأة وأشد عنفا. وخلافا للشيخ بن لادن، كان جدول أعمال الظواهري آنذاك محليا برمته، وكان هدفه الحكومة المصرية، أضف إلى ذلك أنه استطاع زيارة الولاياتالمتحدة مرتين في أوائل تسعينيات القرن العشرين. وعلى الرغم من أن هدف الزيارتين لم يكن واضحا، فقد افترض بعضهم أنه كان يسعى إلى جمع الأموال لمصلحة الجهاد الإسلامي. في المقابل، أشارت مصادر أخرى إلى أن تنظيم القاعدة كان في ذلك الحين يساعد هو أيضا في تمويل حركة الجهاد الإسلامي. هذا، ويشير مصدر رفيع الشأن إلى أن محاولة الاغتيال الفاشلة التي استهدفت الرئيس المصري حسني مبارك في سنة 1995، تمت بتمويل من القاعدة عبر أبي حفص المصري والظواهري»، يقول عبد الباري عطوان. الظواهري هو كما سلف، المحرك الذي يولد المرجعية الفكرية للقاعدة، والذي أدى تحالفه مع بن لادن إلى تغيير في معالم مشروعه «الجهادي». ولمسته الواضحة هي هذا الجمع بين البعد العالمي والطابع القومي العربي للقاعدة. فباتت الاستراتيجية العامة تروم تحقيق هدفين: تأسيس تنظيم قوي يستطيع مناوشة الولاياتالمتحدةالأمريكية، ثم ضرب الأنظمة العربية الموالية لها. و«يؤكد المطلعون من الداخل أن الشيخ بن لادن والظواهري تبادلا التأثير أحدهما في الآخر، وبالقدر نفسه إنما بطريقتين مختلفتين. فالظواهري هو مصدر الجرأة والعنف المتزايدين اللذين تميزت بهما عمليات القاعدة، إلى جانب المناورة مع الإعلام وتطوير استراتيجية نفسية»، يضيف عطوان. معنى ذلك أن رص بنيان القاعدة كان يتم بشكل متزامن على المستويين الميداني والفكري، وتوزيع محكم للأدوار تم بين لاعبيها الكبار. وبالعودة إلى المعقل السوداني، يسارع الكثيرون إلى تشبيه أسلوب أسامة بن لادن في توسيع «جيشه» بالطريقة التي نهجها الراحل ياسر عرفات في لبنان، من خلال قيادته لمنظمة التحرير الفلسطينية هناك خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات، من خلال استعمال سلطة المال المتدفق بدون انقطاع، والمراهنة به على جميع المستعدين للخدمة، فاختلط في معسكرات عرفات العلمانيون بالإسلاميين، والعرب بغيرهم من المسلمين والمسيحيين. الأمر ذاته سيتكرر مع أسامة وإن بشكل مختلف، من خلال المراهنة على مختلف مكونات الطيف الإسلامي، فساهم في تمويل الجهاد الإسلامي المصرية، ومنافستها «الجماعة الإسلامية المسلحة» الجزائرية، ونظيرتها الليبية وغيرها من التنظيمات الناشئة في بؤر التوتر من الشيشان إلى البوسنة، بعقلية تجارية استثمارية تدفع وتنتظر العائدات. «قال شهود أمام محكمة نيويورك إن أسامة موّل شراء مطبعة للإسلاميين في مصر، فالجهاديون المصريون كانوا في حالة من الضيق المالي جعلتهم يطاردون أبناء الأقلية المسيحية من الأقباط مستهدفين بصورة خاصة تجار المجوهرات منهم، حيث يسلبونهم ما لديهم أو يسطون على محالهم التجارية. في الجزائر جفّت إلى حد كبير التبرعات المالية الآتية من الخليج في عقد التسعينيات، لأن المتبرعين لم يكونوا راضين على الإطلاق عن وقوف الإسلاميين هناك إلى جانب صدام في حرب تحرير الكويت، لكن الجهاديين الجزائريين في ذروة عملهم الجهادي، لم يحدث أن مروا بضائقة مالية، ذلك لأنهم كانوا من القوة بحيث يسيطرون على بعض الطرق الرئيسية ويفرضون على العابرين ضريبة المرور»، يقول جوناثن راندل. فتحركات القاعدة الأولى، والتي كانت أولى ضرباتها في الصومال وعدن، كانت ضمن هذه الاستراتيجية المزاوجة بين استعداء واشنطن وعدم نسيان البعد الإقليمي، والمعادلة تحقيق الهدف الأول من خلال إرضاء طموحات التنظيمات المحلية، ودعمها في ضرب الأنظمة المحلية؛ والسلاح الأول في ذلك هو المال.