يكاد لا يمر يوم دون أن نرى صورته أو نسمع اسمه أو اسم التنظيم المنسوب إليه، «القاعدة». قليل الظهور، كثير الحضور، يهدد ويتوعد، يفجر ثم يختفي. من هو هذا الرجل الأسطوري؟ من أين أتى؟ أين نشأ وعلى من تتلمذ؟ لماذا تحالف مع الشر وعاد ليحاربه؟ ما هي تفاصيل حياته السابقة لاحتراف «الجهاد»؟ من هو أسامة الإنسان؟ بعد شهرين تقريبا من أحداث نيويوركوواشنطن، خرجت الإدارة الأمريكية على العالم بشريط يُظهر أسامة بن لادن ومجموعة من أتباعه، قيل إنه تم تصويره أواسط شهر نونبر 2001. وفي التعليق المرفق بالشريط، توضح وزارة الدفاع الأمريكية أن قواتها اكتشفت الشريط في أواخر نونبر في جلال أباد، وتضيف أن شخصا ما قد يكون نسيه في المكان بعد اضطراره إلى المغادرة سريعا، أو أنه ترك هناك عمدا حتى تعثر عليه القوات الأمريكية. ويظهر بن لادن في هذا التسجيل وسط غرفة مزدحمة بأتباعه، ويبدو أن التسجيل تم بمعرفته وموافقته. «لقد حسبنا مقدما عدد الضحايا من الأعداء الذين سيقتلون اعتمادا على موقع البرج. وقد حسبنا أن الطوابق التي ستتعرض للضربة هي ثلاثة أو أربعة طوابق. كنت أكثر الناس تفاؤلا... لقد أبلغنا منذ يوم الخميس أن الحدث سيقع هذا اليوم، وكنا قد انتهينا هذا اليوم، وفتحنا جهاز الراديو. كانت الساعة 5:30 مساء بتوقيتنا. كنت أجلس مع الدكتور أحمد أبو الخير. وبعد ذلك سمعنا في الأنباء أن طائرة ارتطمت بمركز التجارة العالمي. ووجهنا مؤشر الراديو إلى الأخبار القادمة من واشنطن. واستمرت الأخبار ولم يذكر الهجوم إلا في النهاية. وفي نهاية النشرة، ذكروا أن طائرة ارتطمت بمركز التجارة العالمي... الإخوة الذين نفذوا العملية كل ما كانوا يعرفونه هو أن أمامهم مهمة استشهادية. وطلبنا من كل واحد منهم أن يذهب إلى أمريكا، ولكنهم لم يعرفوا شيئا عن العملية. ولا كلمة. ولكنهم كانوا مدربين ولم نكشف لهم العملية إلا بعد أن وصولوا إلى هناك، وفقط قبل لحظات من ركوبهم الطائرات. الذين دربوا على الطيران لم يكونوا يعرفون الآخرين. ولم تكن أية مجموعة تعرف المجموعات الأخرى...» يقول بن لادن في ذلك الشريط. المهم أن المحافظين الجدد لم يكونوا في أمس الحاجة إلى شريط مماثل لإقناع العالم بأن الشر هو بن لادن وبأن ضحية الشر هو أمريكا، وبالتالي إرغام العالم بأسره على ركوب قافلة الدمار المسماة الحرب على الإرهاب. فجندت الدول جيوشها خلف «المارينز»، وفتحت أبواب أسرارها الاستخباراتية والعسكرية أمام ال»سي آي إي»، وراح محققو العالم يجلسون في مدارس ال»إف بي آي» كالتلاميذ المجتهدين. وبات في العالم سجن جديد يسمى «غوانتانامو» في جزيرة معزولة عن عالم القانون والشرعية. الحرب على الإرهاب لم تكن عسكرية وأمنية فقط، بل إن لحية بن لادن باتت عنوانا لجزء من العالم يعادي الحضارة الغربية ويريد تحطيمها، وبالمقابل أصبح الأمريكي رجلا طاهرا يجوب العالم لمحو الشرور وتخليص الكون من الأشرار، رافعا شعار «معنا أو ضدنا». ورغم بعض المقاومة التي أبدتها بعض الجهات في البداية للرغبة الجامحة للأمريكيين، فإن أعتى الدول الديمقراطية والأوربية انتهت إلى التسليم بنظرياتهم ومسايرة خططهم، خاصة بعد أن بدا الشر مستعدا لضربهم أيضا. ليعرف العالم «الحر» سجونا سرية وطائرات وبواخر تتنقل حاملة زنازين وجلادين، تحط بين الفينة والأخرى في إحدى الدول خفية، ثم تكمل مسيرها. لكن الركن القاتم من هذا المشهد سوف تعرفه البلدان العربية والإسلامية، بخضوعها لضغط أمريكي لم تعرفه حتى في العهود الاستعمارية الكبرى. وبات المطلوب انخراطا فوريا وكاملا في حرب مفتوحة على «الإرهاب»، مفادها مطاردة مجنونة لكل ما يحتمل قربه من أسامة بن لادن، فكريا وتنظيميا. وكل الوسائل مبررة لتحقيق هذا الهدف، من تعاون أمني ومخابراتي وفتح للسجون المحلية أمام المحققين الأمريكيين، ومشاركة في العمليات «غير النظيفة» للتحقيق وانتزاع الاعترافات... الأدهى من ذلك أن مزاج المحافظين الجدد لم يعد يحتمل بعض المقومات الثقافية والاجتماعية لعدد من الدول الإسلامية والعربية. فكانت البداية بالأنظمة القانونية التي تمت مراجعتها على عجل لتجريم أفعال سميت إرهابية، وبات ذكر اسم أسامة بن لادن مقرونا بالإشادة أو عدم التنديد به فعلا إجراميا، وسُنّت مساطر جديدة للتحقيق والاعتقال تحت مسمى قوانين الإرهاب، لتمنح الأجهزة الأمنية هامشا أكبر للتدخل. أكثر من ذلك، أصبحت البرامج التعليمية والتكوينية، والمظاهر الدينية ومؤسساتها، موضع اتهام أمريكي، ومطالبة في صيغة الأمر بتغييرها وأقلمتها مع الظروف الجديدة للحرب على «الإرهاب». كل هذا والعالم لا يعرف لأسامة بن لادن طريقا، ولا الحروب التي خاضها جيش الإمبراطورية الأمريكية على أفغانستان وبعدها العراق، وبموازاتهما الحرب الأمنية العالمية، وانخراط كل دول المعمور في خدمة الاستراتيجية الأمريكية، كل ذلك لم يكشف حقيقة مكان هذا الرجل، ولا أشفى فضول المصرّين على معرفة حقيقة قوته ونفوذه، وظروف نشأة تنظيمه المسمى «القاعدة». ولا حتى خبر وفاته أو مقتله كما حصل مع العديدين ممن ساروا على دربه وضع حدا لقصته الأسطورية. هي إذن قصة حياة معقدة، قصة فرد في صيغة الجمع، قصة يتداخل فيها المحلي بالعالمي، التاريخي بالديني والفكري بالسياسي. تأخذك في مسارها الطويل والمشوق، موهمة إياك بمراكمة الحقائق والأجوبة عن أسئلتك الحارقة. لتعيدك في النهاية إلى سؤالك الأول: من هو أسامة بن لادن؟ من أين أتى؟ ولماذا أتى؟ كيف تحالف مع الشر وعاد ليحاربه؟ من هو أسامة الإنسان؟ ماذا يعشق في الحياة بما أننا نعتقد معرفتنا بما يكره؟ هل ما بين أيدينا من معطيات ومعلومات عن هذا الرجل هو فعلا حقيقته أم جزء من حقيقته أم وهم؟