محمد فخر الدين ما وجْه الشبه بين القصة القصيرة جدا والوجبة السريعة جدا.. والتي أحال عليها أحد كتاب القصة القصيرة في حديثه عن «وجبات قصصية سريعة جدا»؟.. ربما وجه الاختزال المفرط في القصص القصيرة جدا، أو هي السرعة وعدم إشباع المسرود له، الذي يبقى على جوعه.. وقد يطلب الكاتب من القارئ أن «يكمل من عنده» -هذه الوجبة المقتضبة، باستعمال نقط ملء الفراغ، وهو الذي لم يبق في فمه إلا بعض اللعاب الذي أفرزه جوع سابق إلى الحكي.. وقد يتوجه الكاتب نحو القارئ بسؤال الكتابة، التي يتنازل فيها السارد عن سلطته و يقول: «أنا مثلك أيها القارئ»، هكذا دون ترحيب على مائدة الحكي... أليس الحكي حاجة وضرورة؟ فنحن لا نرتب أوراقنا الحياتية إلا عندما نحكي عنها ونحن لا نستمتع بالوقت الهارب إلا عندما نحول الأحداث التي عشناها إلى كلمات. لقد واكبت هذه الوجبات السردية السريعة سرعة الوقت وغياب المعنى وموت الشخصية وهلاميتها وفقدانها ثقلها في الواقع.. فشخصياتها أيضا خفيفة لا تسمن من جوع.. لا تملأ حتى حيّزها الفضائي.. هي غير شخصيات الرواية ولا القصة ولا الحكاية، أما بعدها عن شخصيات السيرة فحدّث ولا حرج... فيمَ، إذن نفعها الانفتاح على العالم الرقمي والافتراضي والخلط بين الحلم ولواقع، تكسير السرد الخطي، اعتماد كلمات تجمع بين السرد والوصف في نحت الصورة السوريالية، كمثال «التوى عنق المقهى»، والاعتماد على المفارقات، كالجمع بين الكعب العالي والدراجة المهترئة... والتقاط لحظات من الحياة اليومية وبناء الفكرة حولها.. تبحث «الوجبة السردية» عن المعنى داخل النص في حد ذاته... دون البحث عنه خارجه، حيث يصير النص بدون وظيفة إلا التعبير عن ذاته، ومن تم التنازل عن هذه الوظيفة لأجناس أخرى جديدة.. لقد أكدت التجربة القصصية قدراتها على مواكبة المستجدات، ومنها مواكبة هذا العالم الافتراضي و سرعة الحياة واللا معنى للشخوص والأحداث، فلا بطولة تنتظر ولا فعل يجدي نفعا، وسايرت القصة القصيرة جدا ثقافة «الساندويتش» وقبلت أن تكون سندويتشات سردية سريعة. طغى عليها الاختزال إلى أقصى حد، إلى درجة غابت ملامح الوجود الانساني... وفقدت الشخوص ملامحها وصار هي أنا، هي، كل الناس، نحن.. بل صارت أقوالا فقط: قال -قالت -قالا -قالوا.. واختيرت لها أوصاف لا تقل غرابة.. يقف شيخ كالخريف -مذيعة مغموسة في المساحيق... وتمفصلَ الزمان والفضاء إلى لحظات غير واضحة -ذات صباح -ذات مساء -أولا -ثانيا -واختلط الحلم والواقع في مشاهد سوريالية غريبة عن الوعي، أخرجت الفتاة من الشاشة -دماغك الذي أتت عليه الأرضة -ماتت المقاهي من الضحك -ستنزل الفتاة من الصورة المعلقة مند سنوات خلت -عضت الأسيجة واللافتات والعمارات على شفتها السفلى -صهلت مكبرات الصوت.. واختلطت الكتابة والواقع: يكتب مثلا عن امرأة وامرأة يمشيان وكأنهما تخرجان من الكتابة.. وكذا غاب الحدث، الذي هو أساس كل محكي، وصار بسيطا تافها، تناول مشروبا، شيخ يراقب السجن، تقوسَ النخاع الشوكي للعمارات... وحاول الكاتب أن يدمج تمثلات القارئ وانتظاراته في القصة: -عفوا أيها القارئ كاد يجلس لكنه تراجع -عفوا أيها القارئ الرجل راوغنا معا... ويخاطب الكاتب القارئ قائلا: -ثم ماذا أيها القارئ الذي ينتظر مني أن أخبره بكل شيء؟!.. فعلا، سيُترَك المسرود له جائعا إلى السرد، كل هذه الوجبات السريعة لم تكن نافعة، هو يريد حكاية لها بداية ونهاية كحياته، يريد شخوصا حقيقية متأصلة وأحداثا وفضاء، يريد «شبعة» من السرد -على قياس شبعة من الضحك- تموضعه من جديد في واقعه.. لقد كانت تلك دائما هي الوظيفة الوجودية للسرد والتخييل...