«سفك الدم أسوأ شاهد ضد الحقيقة»، هذه ليست حكمة تجريدية، صارت واقعية. يفاخر بها العقلُ الغربي بقيةَ عقل العالم، لأنه يبرهن على أساسية الديمقراطية، إذ إنها وحدها المانعة للحروب بين الدول ذات الأنظمة الديمقراطية. كأوربا وأمريكا اللتين لم تثيرا أية حروب في ما بينها، منذ المقتلة العالمية الثانية الكبرى (1939-1945)، كما أن المتغيرات الاجتماعية داخل كل دولة، لم تنحدر إلى مستوى الصدمات أو الصراعات الدموية من أجل تحقيق أهدافها، طيلةَ هذه الحقبة المديدة من السلام الغربي الدائم، منذ حوالي ثمانية عقود متواصلة. هذا لا يعني أن الغرب تخلص من آفة إيقاع الحرب ما بين شعوبه، ألم يُصدر هذه الآفة إلى بلاد آسيا وإفريقيا، سواء كان دافعا لبعضها أو مشاركا لبعضها الآخر أو ممارسا لها مباشرة بجيوشه وأسلحته (من فييتنام إلى الشرق الأوسط وأفغانستان، أمريكيا وأوربيا أطلسيا)؛ على الأقل يمكن القول إن الدموية والحقيقة ضدان لا يأتلفان. فمن يلجأ إلى سفك الدم سوف يُسمّى بالمعتدي، تعويضا عن فقدانه لقوة الحقيقة، والمعتدى عليه سوف يضطر إلى الدفاع عن وجوده باستخدام القوة كذلك، وإن كانت هي الأضعف، لكنه سيمتلك في هذه الحالة شيئا من الحقيقة، إذ يصير من حقه المشروع استخدامُ عنفٍ دفاعي، وإن أدى إلى سفك الدم، من جانبه أو جانب عدوه.. فلا مندوحة، إذن، عن القول مع هذه الحكمة إن ضحايا الحروب والثورات قد يتساوون في مصير الموت، لكن بعضهم مات من أجل الحقيقة، وآخرين ماتوا لكونهم ضدها. ومع ذلك، يبقى سفك الدم أسوأ شاهد على الحقيقة، معها أو ضدها. ولكن من وجهة نظر المسؤولية الوجودية والأخلاقية، لا بد للمعتدي أن يتحمل القسط الأكبر من أعبائها، بل هي مسؤولية مزدوجة عن أفعاله، وعن أفعال الُمعتدى عليه، بما أنها ردود على العدوان عينه، فهي من طبيعته وبالتالي من مسؤوليته وحدها. إذا كانت دول الغرب قد ألغت أسباب اندلاع الحروب في ما بينها، فذلك بفضل إقرارها بحقيقة الديمقراطية كمنظومة من القيم المتعارف عليها إنسانيا، وكنظام حكم وعدالة اجتماعية متفاوتة الدرجات؛ إذ يصبح السلام نتاجا موضوعيا، حاكما لعلاقات المجتمع بين مكوناته وقواه داخليا، إزاء علاقاته الخارجية بأمثاله من المجتمعات المتحررة؛ ولكن، على العكس من هذه الصورة النموذجية، التي يضفيها الفكر السياسي الغربي على مدنيته المتفوقة -افتراضيا- على بقية حضارات العنف التي يتخبط فيها معظم البشرية المعاصرة، تبدو النهضة العربية واحدة من هذه الحضارات المكبّلة بجدليات العنف في شتى وقائعها ونوازعها المشروعة وغيرها، بحيث عجز الفكر في الكثير من المناسبات الفاصلة عن أن يدعم حركات التغيير، استنادا إلى سلاح الحقيقة وحده، إلى ما يمتلكه عقلُ التغيير من براهين الحقيقة على صدقه وضرورته. فما زال للعنف حده الفاصل. بينما كان للثورة دورها المركزي في تفجير نموذج (القطيعة الكارثية) في مسيرة الحقب التاريخية المتمايزة معرفيا وحدثيا في ما بينها، وخاصة في التاريخ الأوربي. وبالكاد عرف العصر الحديث العربي صيغة متكاملة عن هذا النموذج، بل يمكن القول إن هذا العصر انخرط دائما في حركات المد والجزر، من التحرر الوطني، أي أن الشاغل الرئيسي لِهَمِّ التغيير كان معقودا لواؤه لآمال الفوز باستقلال أوطان العرب عن الاحتلال، ومن ثم عن التدخل الأجنبي في منعطفات تطورها السياسي والاقتصادي. وأما صيغة الثورة الذاتية في مسيرة كل قطر، تلك التي تهز بنيانه الداخلي وتقلب أوضاعه العامة من حالة حضارية إلى أخرى، وليست سياسية فوقية فقط، فقد ظلت أقرب إلى الحُلُم الصوفي أو الرومانسي لدى بعض الطلائع الواعية، الظاهرة ثم المختفية بين حقبة وأخرى تليها. عبر هذا التاريخ الطويل من الانقلابات الدموية المتوالية والمتزاحمة على سطوح مجتمعاتنا الهامدة، ظلت (الثورة) هي المطارَدَة الدائمة، هي و(الحقيقة) معا، لم يكن للانقلاب ثمة مضمون إلا إلغاءُ ما سبقه وما سوف يتبعه من انقلاب آخر قد يلغيه هو عينه؛ وبذلك تمَّ سريعا تحييدُ الكتلة العظمى من الجماهير، وإبعادُ كل تأثير لها على ما يحدث باسمها ما فوق وجودها، في قمم السلطات الشخصانية المستولية على كل فضاء سياسي أو عمومي يخص المجتمع بكليته، لكنه يصير مملوكا لأحد أو فئة منه دون (كل) الاخرين. هنالك ثلاثة بل أربعة عقود متوالية من عمر الاستقلال الوليد (1970-2011)، سجلت أفقر غياب وتغييب لعقل الأمة وإرادتها. بضعةُ أسماء قليلة احتكرت مقدمات المسارح في كل شأن مصيري للكتل الجماهيرية المهمشة. لا يمكن اعتبار أصحاب هذه الأسماء مجرد حكام عاديين. فلم يأت أحد منهم إلى كراسي السلطة بإرادة نظامية للشعب أو لأية شريحة نسبية الحجم من شرائحه الكثيرة، الكبيرة أو الصغيرة، بل كانت صُدَفُ العنف الأعمى وحدَها هي الآتية بالرؤوس الحامية المجهولة لتفرضها على مناكب الشعوب السادرة المعزولة، وهي التي سوف تبترها لتأتي بسواها، من عين الطينة واللُّحمة الصانعة لها جميعا. لكن (الثورة) -بالخط العريض- انفجرت أخيرا، من حيث لم يتوقعها أي مذهب ثوري نظري. وقد انطلقت من حدث فردي (حريق بوعزيزي)، لكنه رمزي شامل، ومن ثم شعر العرب بأن الثورة تخصهم جميعا، وأنها ليست محدودة في ريف أو مدينة أو قطر ودولة؛ وأنه يمكن أن تنتشر جغرافيا وإنسانيا معا؛ فالعالم، الناس، وليس العرب والإسلام وحدهم، صاروا باحثين عن ربيعهم، يعيشون مؤشراته من خلال ظروفهم المجتمعية، بانتظار ساعته أو قيامته؛ فالطوبائية لم تعد حلما مستحيلا، كأنها باتت أقرب الممكنات الشمولية للتفعيل المحتوم جماهيريا، عاجلا أو آجلا؛ إذا كان ثمة معنى لهذه الطفرة التفاؤلية الكونية فهو كونها المؤشر الإيجابي الوحيد على إمكان اختراق كل سدٍّ عالٍ من حطام الحلول المتكسرة الفاشلة لمجمل أزمات عالم اليوم. هذا الحطام الذي صار أشبه بنفايات حرب عالمية ثالثة، لم تنهزم فيها دولة أو كتلة دولية معينة، بل كانت هي هزيمة الكل (البشري) الساقط في طاحونة رأسمالية عولمية هَرِمة، مستسلمة لمركّب الاستبداد/الفساد الذي أمسى هو رمز القاتل الأخَصَّوي، ضد المقتول الكلي، إنسان الحرية والعدالة، هذه المدنية المتخلية، والمتفاخرة بتخليها عن ثقافة الحق والحقيقة في لحظة تصنيم المال إلها على الأديان، بنوعيها، السماوية والأرضية معا. ما يمكن أن توصف به ظاهرةُ «الربيع العربي»، والتجاوب معها إلى درجة تبنيها ثقافيا وسياسيا لدى طلائع اليسار العالمي الجديد، كأنما هي يقظة فجائية على الحقيقة، وأن هذه اليقظة ليست تمنيا تجريديا، بل ربما ستغدو مفتاحَ الممكنات كلها، لكونها تجيء أفعالا شبابية، لأصحاب هذه الأعمار الباكرة، غير الملوثة بعْدُ بأساليب اغتيال العقل وقطع الألسنة وبتر الأيدي، فما زال مصباح الفيلسوف اليوناني (ديوجين) مُوقِدا شُعْلَته تحت شمس الظهيرة، مكذبا كلَّ أشباه أنوارها المصادرة لحساب أشباح المدنية الرأسمالية، حيثما يسود قانون قتل الحقيقة عِلَّةً لكل استبداد، سواء كان الاستبداد مؤسسيا في سلطة أو نظام عام، أو كان قوة معنوية مسيطرة على عقل الإنسان وسلوكه، فردا وجماعة. «الربيع العربي» هو يقظة على الحقيقة قبل الثورة، وحراسةٌ أمينة عليها خلال تحققها، وشاهد حيادي على محصّلتها في أرض الناس ومجتمعهم ووعيهم. لا يمكن شفاعةُ كل نشاط تمردي أو فوضوي يدعي الحق في تمثيلها أو الاستناد إلى مرجعيتها. أعْدَى أعداء الربيع العربي هو تبني بعض الثورة الزائفة لوسائل ظالميها؛ فأسوؤها هو سفك الدم المستباح والانخراط في مقتلات المستبدين وجلاديهم، بحيث يستحيل فيما بعد تمييزُ المقتول عن قاتله، كأنهما أصبحا شريكين في المقتلة المشؤومة عينها التي يصنعانها معا، ثم تشملهما معا، وتقودهما رغما عن إرادة الواحد أو الاثنين معا. الربيع العربي ليس اصطلاحا سياسيا، لا يمكن إطلاقُ ألقابه على كل ما يهبّ ويدبّ من مخلوقات الألعاب السياسوية البهلوانية. أفعال الشبيبة العربية وحدها تكتب مفردات لغته التاريخية. إنها المسؤولة وحدها عن براءة نصّه الأصلي، والمتصدية لكل تَناصٍّ إيديولوجي أو عقيدي هرم، محاولا الالتصاق به. إنه لن يتخلى عن مصباح ديوجين، متصديا للقتلة من كل جنس، وأخطرهم قتلة الحقيقة، وهؤلاء المستبدون في كل مكان، كادوا يستوطنون حاضرَ العرب ومستقبلهم، بعد أن نجحوا في قطع أواصر النهضة المعاصرة عن ينابيع ماضيها الأصلي، وأبدلوها بالآبار الآسنة من عصور انحطاطه، فقد أصبح مع ذلك لهذا الربيع ثمة تاريخ جديد مختلف، ينتمي إليه كل جيل شابّ في عمره أو في عقله، متطلع إلى اكتساب حق المواطنة في ربوع ثقافته، وتجسيدا لحق الدفاع الصادق عن براءة صيرورته. أما الانخراط في إنتاج الثورات الشارعية فلن يكون سوى أداة التعبير اليومي عن إرادة التغيير، بدءا من إرغام الاستبداد السلطوي على الانجرار إلى تعرية نفسه بنفسه. حتى انكشاف هيكلية بربريته التي لم يعد يُخفيها الإقطاعُ السلطوي العربي عامة، لكنه، كحال النموذج السوري بخاصة، فقد بات مصمما على إنكار واقع الثورة، مستهينا في الوقت عينه بفضائح عُرْيه الإجرامي الدموي. لعله يعتقد أن قتل الناس قد يغطي على قتل الحقائق؛ لكن الربيع العربي سيظل شبابُه يعتقد أنه هو ربيع الحقيقة -بحرفها العريض- وهو الضامن لكل ثورة تجيء اليوم أو غدا، أو تصحيحِ كل انحراف في عقلها أو ممارستها..