هنالك حقيقة أولية قديمة تسلّم بها استراتيجية أوربا منذ عصر الإمبراطورية الرومانية وهي أنه لا أمْنَ لها إن كان جارُها الجنوبي أقوى منها. وقد تستعيد هذه الحقيقةُ مفعولَها النفسي قبل السياسي هذه الأيام، إزاء هذه الموجة العارمة من يقظة الشعوب العربية؛ فمنذ اندلاع ثورة الشبيبة المصرية، والإطاحة السريعة بفرعونها الاكبر، احتلت الأخبار العربية صدارة الإعلام الأوروبي يومياً، مثلما صدمت عقولَ القادة الأوروبيين، فتباينت ردود أفعالهم، وسيطر القلق والارتباك معاً على التصريحات والمواقف. أما المثقفون أو المفكرون فلاذ معظمهم بالصمت والترقب، تعبيراً عن دهشةٍ تشلّ أقلامَهم حتى الآن. لكن كَتَبَة الأعمدة في الصحافة الرئيسية لم يستطيعوا أن يمسكوا ألسنتهم عن الكلام المكبوت في أفواه العامة؛ ثم أصبحت التعليقات على تطورات الحدث العربي من عاصمة عربية إلى أخرى، تفصح عن الاعتراف أوروبياً برياح التغيير، بقوتها وشمولها معاً، وأنها قادرة حقاً على نسف خارطة الاستبداد الشرقي المزعوم. فهو ليس قدراً أزلياً أبدياً، إنه صناعة غربية مفروضة بقدر ما هو نتاج لانحطاطٍ ذاتي متراكم. لكن الغرب اختار وظيفة تأصيل جذور الاستبداد مع تحديث أشكاله الظاهرية، وذلك منذ أن تسلّم مقادير العرب مع اضمحلال السلطَنَة العثمانية. أصبح هو الآمر الناهي وحده تقريباً طيلة القرن العشرين بتمامه، مشاركاً رئيسياً في مختلف تحولات (الحداثة) العربية، بحيث لا يمكن لهذه الحداثة أن تنتج مفاعيلها الإنعطافية، خاصة في مجال السياسة والاقتصاد والثقافة، دون رقابة المصالح الغربية على أسبابها ونتائجها، والتدخل في توجهاتها بشتى أساليب السيطرة على مراكز القرار العليا للدول الرئيسية، وقد حفلت تجارب النهضة العربية المعاصرة بمختلف أشكال الصراع مع التدخلات الأجنبية المباشرة وسواها، بهدف استيعاب الحركات الاستقلالية المتتابعة، خلال الربع الثالث من القرن الماضي، وقد نجحت (تلك التدخلات) في تحويل معظمها سريعاً إلى عكس غاياتها التحررية. وكان الانقلاب العسكري هو أداة التغيير الوحيدة، والمفروضة على كل حراك شعبي، إذ كان يسبق البلاغُ رقم واحد العسكري، كلَّ تنظيم سياسي مدني، في اختطاف ساعة الصفر (الثورية) المنتظرة جماهيرياً، بقيادة أحزاب أو فئات متنورة نسبياً. الأمر الذي ولّد نوعاً من جدلية عقيمة متعارضة غالباً بين العسكرتاريا والانتلجانسيا، بين سياسة القوة وقوة السياسة، فكانت الغَلَبَةُ للبندقية على القلم والورقة. كان الانقلاب العسكري هو الوصفة السياسوية المفضلة للأمركة بعد النجاحات الدموية الباهرة التي حققتها في دول أمريكا الجنوبية، عبْر العقود الأولى للقرن العشرين؛ وعندما تحولت بوصلة التسلّط نحو بلاد الشرق عامة والعربي والإسلامي، مع انفجار الحرب الباردة، أدخلت أمريكا سلاح التغيير العنفي بالقوة النظامية الجاهزة، إلى صلب الحياة السياسية الناشئة في دول العالم الثالث المستقلة حديثاً وصورياً غالباً. في البداية استطاعت معظم الجيوش العربية الناشئة أن تضفي على ذاتها الخصائص الوطنية والقومية المتناسبة مع الشعارات المحلية المطروحة، ومميّزة نفسَها بالقدرة على الحسم الفوري مقابل الحراك المدني البطيء، مع الاعتراف أن المؤسسة العسكرية العربية تكونت ومارست أدوارها الدفاعية خلال احتدام الصراعات الحربية شبه الدورية مع العدو الإسرائيلي. فالمتغيرات في قمم السلطات الحاكمة آنذاك لم تكن لتفصل ما بين ما هو عسكري وما هو مدني، تحت وطأة الضغوط الحربية المتلاحقة؛ حتى عاشت دول المشرق فيما يشبه جبهات حرب مستمرة ضد العدو، دونما تمييز فيها بين خطوطِ دفاعٍ أمامية لاهبة أو متأهبة، وأخرى خلفية مساندة ومتحفزة. غير أنه ما أن توقفت حقبة الحروب المتواصلة بين دول المشرق وإسرائيل بعد معاهدة كمب ديفيد، حتى لم يبق للعسكرتاريا الحاكمة ثمّة تسويغ أيديولوجي تستمده من ساحات قتال فعلية، بعد أن وقعت الجيوش أسيرة البطالة والاستنقاع في معسكراتها؛ فانقلبت مهماتها من منازلة العدو المفترض، إلى مهمات الحراسة الأمنية والبوليسية لقادتها. كانت النتيجة الفعلية هي استيلاء الجيوش على دولهم. حينئذٍ حدث الإنقلاب البنياني الأخطر على منظومة الدولة (العربية) الناشئة ذات المؤسسات الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية غير الناضجة بعد، وذلك مع الانحراف العظيم والأدهى لطبيعة السلطة العليا، عندما تمَّ انتزاع أولوية القرارات الحكومية من أيدي أجهزتها الدستورية. فقدت الدولة هكذا شرعيتها في ذاتها. تحولت إلى أدوات قوة خارجة عن منطقها الحقوقي والإداري الموضوعي معاً. يتحقق بذلك القضاءُ عملياً على أهم ما يميز الدول الديمقراطية، وهو مبدأ الفصل بين سلطاتها الثلاث، بعد أن أمست هي في مجموعها تابعة لإدارة أُحادية طاغية ما فوق إرادة الدولة ومجتمعها معها. أسوأ ما ابْتُليت به الجيوشُ العربية في عصر الثورة المضادة المنطلقة مع معاهدة كامب ديفيد، والمعمّمة مفاعيلُها، الظاهرة والباطنة، على مستقبل كل من الأمنيْن: السياسي القومي، والاجتماعي الحضاري لمعظم أقطار المواجهة مع العدو، وما وراءها، نقول، ان الأسوأ فيما ابْتُليت به جيوشُ هذه الأمة العربية، الممنوعة من وقف الزحف الصهيوني والاستعماري نحو العمق العربي، هو مساهمتها، بإرادتها او بغيرها، في فرز وتنمية الأجهزة البوليسية، بلا حدود لعديدها ولأفعالها، وفوق جثث القوانين والأخلاق وأبسط الأعراف الأهلية والإنسانية. فكان الإجهاض الأَمَرُّ لأفدح خسائر النهضة، هو في تعجيزها عن إنتاج جهازها القيادي المسؤول عن بناء دولة الحرية والعدالة والحداثة. كانت الحصيلة الرهيبة أنْ حازت الدولةُ العربية الراهنة على أعلى مقاييس الدولة الفاشلة في العالم الثالث، دون أن يُفهم هذا الفشلُ حسب المعايير الغربية، المطبّقة على الأنظمة الناشئة؛ لكنه هو معيار الحداثة الحقيقية كما اتخذتها، كعقيدة ثورية، طلائعُ النهضة الاستقلالية المعاصرة، فقد قادت الدولة البوليسية حركاتِ الردّة المنظمة نحو النموذج القروسطي، مغلّفاً بقشور حداثة زائفة مستوردة. قسَّمت هذه الردّةُ مجتمعَ كل قطرٍ عربي ما بين قمته المتسلّطة وقاعدته المُغيّبة. أوقعت العِداء النهائي بينهما. أمست الدولةُ الأمنية هي الحارسة الأمينة على انحطاط مجتمعها. فالبطش القمعي لا يحصد الأخضر بجريرة اليابس من مواسم أمته فقط، بل يبيد جذور كل نبتة حيَّة في أرضها، قبل أن تمتد فروعاً وأغصاناً فوق تربتها المتصحّرة. ومع ذلك تبدع الصحارى واحاتها. لكن الثورة لن تأتي، لن تبقى، سياسيةً فحسب. والقول أن الديمقراطية هي قاب قوسين أو أدنى حتى في القطرين الرائدين ثورياً اليوم، تونس ومصر، ليس خطاباً ثورياً بقدر ما هو تفاؤل متعجّل. فالمهمات التي تنتظر ثورة الشارع هي الأشق والأعمق، والأكثر حاجة للنفس الطويل، المقرونة بأسئلة المعرفة الجذرية بأسرار الإصلاح ووسائل حمايته. ذلك ان هرم الدولة كاد يصير بديلاً عن هرم المجتمع. والمطلوب الآن إعادة الإقرار بوجودهما معاً، حسب معادلة توازنٍ، هي في منتهى الدقة والشفافية معاً. وخلال هذه الرحلة المديدة المنتظرة لن تظلّ الثورة وحدها هي الفاعلة في كلا المستويين: القاعدة الشعبية والقيادة الحاكمة، لكن التغيير أدخل اختلافه على هياكل الصورة التقليدية الجامدة لمجتمعات العرب الراكدة منذ عقود طويلة؛ لم تعد ساحات العمل العام مطموسة تحت أعلام الطغيان وحده. أما حديث الانتصارات الفورية، ينبغي له أن يتذكر أن الحرية قد لا تحقّق غاياتِها الشاملة من الضربات الأولى. لعلَّ النصر الحقيقي في هذه الجولات الافتتاحية هو أن التغيير استعاد مركزيته التاريخية: مصرُ. فهي عندما تعود إلى ذاتها تعود إلى أمتها العربية.. حداثة النهضة أطلقها محمد علي في أواسط القرن التاسع عشر. وجمال عبد الناصر حقق تجربتها التاريخية الأولى، بدءاً من النصف الثاني من القرن العشرين، وصولاً أخيراً إلى الشعب نفسه، وقد أضحى هو القاعدة والقيادة معاً. محركات التاريخ العربي المعاصر لم تعد هي فئويات من النخب: عسكرية أو شخصانية، أو حزبية؛ من هنا يدرك الغرب أنه فَقَدَ تقريباً مفاتيحَ التلاعب بمصائر الشعوب العربية، إذ كانت تستردّ هذه الشعوب كلَّ مفاتيحها الزائفة، استهلكتها. ما يخيف الغرب حقاً هو أن تكتشف شعوب العرب والإسلام ديمقراطيتها، عبر إنجازاتها الثورية المتنامية. ثم عليها أن تعقلها وتتفهّمها وتصنعها بأيديها، وتطورها بحسب تجاربها الإنسانية التي تخصّها وحدها. مصرُ العربية تمسك مرة جديدة بزمام المبادرة في ترسيخٍ أولي لماهية الديمقراطية: ليس في جعل الشعب مصدر السلطات، ولكن في جعل الشعب هو السلطة الأولى المركزية. إنه يطرح تمرينه الافتتاحي: هذه الوزارة التي يؤلفها معارض وناشط في شارع الثورة. ذلك حَدَثٌ غير مسبوق كلياً في مسيرة النهضة السياسية العربية. ونجاحه سوف يلغي كلّ السدود النظرية والوهمية بين تلقائية الثورة وعقلانية السلطة. ما يعني أنه أصبح للثورة مشروعيتها الذاتية، القادرة على تسويغ الإجراءات الحكومية المنتظرة، كبنود إصلاحية في أجندة المعارضة العامة. فالتغيير الذي أطاح بقمة السلطة الفاسدة، هو عينه سيطيح بنظامها الإداري والإعلامي. أصبح الشعب المصري مدعواً لإعادة إنشاء الدولة والمجتمع معاً. ثورته المظفرة تقود مرحلة الانتقال، تنتج عقلانيتها المبدعة التي عليها أن تبرهن كيف يمكن للحرية أن تنتج العدالة والحداثة. لماذا لا يخاف الغرب أكثر فأكثر.. وهو العاجز حتى اليوم في بلاده، عن إنتاج أية معادلة متوازنة لهذين الأقنومين في فلسفة الإنسانية الحرة: العدالة والحداثة.