يجري الحديث عن «الرقمنة» في الآونة الأخيرة ببلادنا وكأنها الحلّ السحري لكل المشاكل التي تعاني منها السينما عندنا، لا على مستوى التصوير فقط، بل حتى على مستوى العرض والتوزيع. إن «الرقمنة»، حسب هذا الطرح، فتحت الباب واسعا أمام أعداد متزايدة من الناس لتصوير أفلامهم بكاميرات أكثر تطورا وأرخص بكثير من كاميرات 35 ملم. كما أن الصورة المحصّل عليها عبر الكاميرات الرقمية الأكثر تطورا («الريد» مثلا) تضاهي في جودتها صورة الكاميرات «التقليدية»؛ يضاف إلى ذلك أن تجهيزات العرض الرقمية (المعتمدة على تقنية البث فائق الدقة) مكّنت من التوصل إلى عروض سينمائية غير مسبوقة على مستوى الصورة والصوت معا؛ ولم يعد من قبيل الخيال العلمي توصّل المنتجين والموزعين إلى «بثّ» أفلامهم السينمائية فائقة الدقة من الأقمار الصناعية مباشرة باتجاه القاعات السينمائية المزودة بوسائل الاستقبال الملائمة والمنتشرة عبر العالم، بما يوفّر كثيرا من المصاريف (مصاريف طبع النسخ، والنقل....) ويتيح إمكانية «العرض الأول» فعلا للفيلم السينمائي الرقمي بشكل متزامن عبر جميع أنحاء العالم. ودون أن نستبق هذه التطورات لنقول مع بعض القائلين إنها إيذان بنهاية الفن السابع كما نعرفه، وظهور فن جديد مكانه ملامحه قيد التحدّد، نكتفي فقط بملاحظة أمر في منتهى الأهمية، هو أن التطور المطّرد على مستوى رقمنة الصورة لم يتوصل لحد الآن إلى تقديم بديل حقيقي للصورة «الكيميائية» المثبتة على شريط السيليلويد؛ وليس منتظرا أن يتحقق هذا البديل بشكل كامل خلال المقبل من الأيام. الشيء الذي يمكن تفسيره، من جهة، بالفرق التكويني بين الصورة الكيماوية المبنية على الخطوط والدرجات اللونية المتصلة والصورة الرقمية المبنية اعتمادا على نقط (بيكسيل) منفصلة؛ كما يمكن تفسيره، من جهة أخرى، بالتطوير السريع للرقمنة التي انتقلت في وقت وجيز من تقنية «الإمبيغ2» إلى تقنية «الإمبيغ4» (الدقة العالية)، دون إغفال الحديث المتواتر في أوساط «مجموعة خبراء الصورة المتحركة» (التي اشتق مصطلح «إمبيغ» من اختزال اسمها) عن قرب الانتقال إلى صيغة ضغط رقمي جديدة تنعت من الآن بالدقة العالية جدا (أدق من سابقتها أربع مرات على الأقل). معنى هذا أن الأفلام الرقمية المصورة بالتقنية الأولى ستصبح متجاوزة بمجرد ظهور التطوير التقني الموالي الذي سيتم تجاوزه، بدوره، عند ظهور التطوير الرقمي الثالث، وهكذا دواليك؛ بخلاف الأفلام السينمائية القديمة (بما في ذلك المصورة منها بالأبيض والأسود) التي مازالت محتفظة بقيمتها (التقنية والفنية) إلى الآن. إلى درجة يسهل معها علينا أن نقارن علاقة الفيلم السينمائي المصور على شريط السيليلويد بالفيلم السينمائي الرقمي بالعلاقة بين الوجبة الدسمة المحضّرة في البيت ووجبات المطاعم السريعة، التي قد تملأ البطن وتبعد عنه الجوع مؤقتا، إلا أنها لا تعوّضه عن «متعة» الأكل التي تتجاوز ملء البطن بكثير. ليس في هذا الموقف أي نوع من التحجّر أو من الحنين إلى الماضي، ولكنه يحاول فقط أن يذكّر بأن مجمل التطويرات الرقمية الكبرى الحاصلة في مجال الصورة والصوت، والتي لا يشكك أحد فيما ترتب ويترتب عنها من تأثيرات جمالية على الفيلم السينمائي، لا يمكنها أن تؤدي إلى وفاة «حامل تقليدي» (شريط 35 ملم) بكل ما يحيط ويرتبط به، من التصوير إلى العرض. ولا يكفي هنا القول بأن المشكل يحلّ بمجرد نقل الشريط المصور على حامل رقمي إلى شريط السيليلويد (الكينسيكوباج)؛ ذلك أن «الحلّ التقني» لا يمكنه أن يتحوّل إلى «حلّ جمالي»، وبالتالي لا يمكنه أن يقدّم سوى حل مؤقت، وعابر، في سياق تطوّر متسارع نرى بداياته، لكن لا أحد منا يمكنه أن يستشرف مآله القريب فأحرى البعيد.