يتفنن المنحازون إلى نظام الأسد (على اختلاف دوافع الانحياز بين الحزبية والطائفية والمذهبية) في توصيف المؤامرة على نظام المقاومة والممانعة في دمشق، ويحشدون لأجل ذلك الكثير من الحيثيات والقصص التي تصب في مصلحة رؤيتهم، بينما يتعامون عامدين عن سائر المعطيات التي لا تتفق معها. وفيما تنهض المؤامرة الأمريكيةالغربية على سوريا «نظام المقاومة والممانعة» كفزاعة كبيرة في خطاب أولئك القوم، فإن السؤال الذي يطرح نفسه ابتداءً يتعلق بواقع المجتمع الدولي هذه الأيام، وما إذا كانت المنظومة الغربية بقيادة الولاياتالمتحدة لا تزال كتلة واحدة في مواقفها أم إن الكثير من التناقضات تظهر بينها، كما حصل في السياق الليبي عندما جرَّت فرنسا حلف الناتو نحو التدخل العسكري بعد مبادرتها الفعلية للتدخل قبل القرار الدولي؛ وهي التي اعتبرت أن حصتها من كعكة العقيد القذافي لا توازي بحال نظيراتها في الغرب (بريطانيا، أمريكا، إيطاليا). يشير التباين في مواقف المنظومة الغربية، إلى جانب المواقف الروسية والصينية، إلى أن حالة من التعددية القطبية قد أخذت تهيمن على الوضع الدولي، وبالطبع بعد التراجع الكبير في دور ونفوذ الولاياتالمتحدة إثر هزائمها في العراق وأفغانستان والنتائج الكارثية لمعركتها ضد ما أسمته الإرهاب، ومن بعد ذلك الأزمة المالية. على هذه الخلفية يصعب القول إن مواقف أمريكا ودول الغرب كانت محسومة لجهة نوايا إسقاط الأسد، وهذا التردد هو الذي جعل المواقف العربية تتباين هي الأخرى، فيما يتشجع بعضها لاتخاذ مواقف ضد النظام، على تفاوت في حدة تلك المواقف. لم يكن بوسع الغرب الوقوف ضد ثورة الشعب السوري، ليس فقط خشية الوقوع في مطب التناقض بين الشعارات والممارسة بعد الربيع العربي، ولكن أيضا بعدما أن أدرك أنه إزاء شعب خرج إلى الشوارع ولن يعود قبل الانتصار، مما يعني أن الوقوف ضد خياراته في الحرية سينتهي إلى الفشل. في هذا السياق يحضر البعد الإسرائيلي بقوة؛ فهو الذي يحدد عمليا مواقف الولاياتالمتحدة في ما خص الملف الشرق أوسطي. وقد رأت تل أبيب أن الرهان على الإبقاء على نظام الأسد كحالة أفضل من احتمالات مجهولة لا تبدو مضمونة، والأفضل تبعا لذلك هو الرهان على خيار آخر عنوانه معركة طويلة الأمد أو حرب أهلية تدمر البلد وتشغله بنفسه لعقود، مما سيؤدي علاوة على ذلك إلى حصار إيران وعزلها، وبالتالي تمهيد الأجواء لضربها إذا توفر قرار بتوجيه الضربة إلى منشآتها النووية، وعلى الأقل إضعافها سياسيا ودفعها نحو التخلي عن طموحها النووي بعد حرمانها من الحليف الاستراتيجي السوري الذي يشكل ركنا من أركان مشروعها للتمدد في المنطقة. دول الخليج، التي تحركت نسبيا لصالح الشعب السوري، لم تفعل ذلك من باب الانحياز إلى الحرية (قد يبدو الموقف القطري عنوانا آخر بوقوفه إلى جانب الثورات بشكل عام)، وإنما أملا في تحجيم إيران، ومن ورائها الأقليات الشيعية التي رفعت رأسها أكثر من قدرة تلك الدول على الاحتمال بعد تمدد النفوذ الإيراني. يضاف إلى ذلك حضور البعد الداخلي في السياق إثر وقوف الجماهير، ومن ضمنها القوى الإسلامية السلفية، إلى جانب الشعب السوري (تصاعد الموقف إثر الحشد المذهبي في المنطقة). ولذلك لم تجد الأنظمة فرصة لمناهضة المشاعر الطاغية لجماهيرها، فضلا عن أملها في أن يؤدي ذلك إلى إشغالها عن مطالب الإصلاح في الداخل. على أن ذلك كله لم يؤد إلى دعم حقيقي للثورة، ولو حضر هذا الدعم للجيش الحر وللمجلس الوطني (سلاحا ومالا وسياسة) لاختل ميزان القوى سريعا لصالح الثورة، ولعل السبب الأبرز لذلك هو الموقف الغربي الذي لا يؤيد مثل هذا الدعم ويميل إلى إطالة أمد المعركة من أجل الحسابات الإسرائيلية، وربما حضرت بعض المخاوف من ردود الفعل الإيرانية في السياق، على الأقل بالنسبة إلى بعض تلك الدول. هذا التردد الخليجي في دعم الثورة السورية بشكل واضح وحاسم ينطبق على الموقف التركي الذي يتأثر بمعطيات داخلية تتعلق بالخلاف حول الملف السوري بين الحكومة، من جهة، والعسكر والقوى العلمانية، من جهة أخرى، والأهم من ذلك بسبب البعد الخارجي المتعلق بالموقف الغربي الرافض للتدخل العسكري الذي يمكنه حسم المعركة ضد النظام بشكل أسرع. يعلم أنصار نظرية المؤامرة أنه لو أرادت واشنطن ومعها القوى الغربية الأخرى العمل على إطاحة النظام سريعا لما أعجزها ذلك، ليس فقط عبر تغيير الموقفين الروسي والصيني كما جرت العادة من خلال صفقات سياسية، ولكن أيضا عبر تجاوز مجلس الأمن كما حصل في غزو العراق، على الأقل عبر تأمين دعم عسكري للجيش السوري الحر. في الرد على استعصاء المعركة بسبب المعطيات المشار إليها، يميل أنصار النظام السوري إلى الحديث عن حل يحافظ على سوريا يتمثل في تسوية سياسية تبقي النظام وتمنح المعارضة بعض الفتات، وذلك لعمري هو الابتزاز المعلن لغالبية الشعب السوري، إذ بدلا من المطالبة برحيل النظام أو رأسه تمهيدا لتغييرات جدية، يجري ابتزاز الغالبية بخيار الإبقاء عليه من أجل سوريا الوطن والدولة، في وقت يعلم فيه الجميع بأن أية تسوية سياسية لن تغير شيئا مذكورا في طبيعة نظام أمني طائفي مثل نظام آل الأسد، والنتيجة أن غالبية السوريين هي التي ينبغي أن تضحي بحريتها من أجل سوريا، أما النظام فلا بأس عليه أن يدمر البلد ويقتل مئات الآلاف من السوريين من أجل بقائه. إنه الظلم بعينه، ولا تسأل عما ينطوي عليه ذلك من تشكيك في غالبية الشعب واتهامه الضمني بالعمالة، مقابل تزكية نظام دموي فاسد ومنحه شهادات المقاومة والممانعة. هذا الخطاب لا زال يفضح قوى حزبية وطائفية ومذهبية سقطت في امتحان الحرية، وفي مقدمتها إيران ومن يدورون في فلكها، وفي مقدمتهم حزب الله، فضلا عن قوى قومية ويسارية لا زالت تجاهد من أجل البحث عن مبررات لموقفها في مواجهة ما يشبه الإجماع في أوساط الأمة على دعم الثورة السورية. خلاصة القول هي أن غالبية الشعب السوري تتعرض لمظلمة بشعة تشارك فيها دول وأحزاب وحركات، إن مباشرة بدعم النظام أو على نحو غير مباشر عبر التقصير في دعم الثورة. وتبقى جماهير الأمة التي تجد نفسها عاجزة عن تقديم الكثير لنصرة الثائرين، اللهم بعض الدعم المحدود الذي لا يكفي لحسم المعركة على نحو سريع يحافظ على مقدرات البلد ويقلل حجم التضحيات. كل ذلك لا يفتّ في عضد الثائرين، ولا يقلل من عزمهم على مواصلة الثورة رغم الحشد الهائل من الشهداء والجرحى والمعتقلين والمهجرين، وتلك لعمري هي البطولة التي تنحني لها الهامات، وتمنحنا بالضرورة مزيدا من الإيمان بحتمية انتصار هذا الشعب الرائع على الطاغية ونظامه الدموي. ياسر الزعاترة