هناك من يتعاطى بشكل إيجابي مع وصول الإسلاميين إلى السلطة حقيقة أو مجازا في العالم العربي، ويعتبر هذا الوصول مدخلا لتكريس التعددية السياسية بالسماح لجماعات الإسلام السياسي بالعمل في إطار تيار الديمقراطية الإسلامية الذي قد يضفي معنى على هذه التعددية السياسية التي افتقدتها المنظومة السياسية العربية منذ زمن طويل؛ فمعلوم أن هناك قوى سياسية بمرجعيات متباينة قد سمح لها بالعمل الحزبي في حين استثنيت القوى ذات المرجعية الإسلامية، وحتى عندما سمح لبعض الإسلاميين بالعمل الحزبي كانوا ملزمين بالاشتغال وفق شروط أدخلتهم في تناقضات مع تيارات إسلامية كانت تعتبرهم أدوات لإضفاء المشروعية على سياسات عمومية لا علاقة لها بالمرجعية الإسلامية كما كان الأمر عليه في الجزائر والمغرب والأردن. إن إشراك الإسلاميين في تدبير الشأن العام من شأنه أن ينقلهم من مستوى الطوبى إلى مستوى الإيديولوجيا، وبتعبير أوضح فإن هذا الإشراك سيساهم في تحرير الإسلاميين من أوهام المثل العليا ليجعلهم في مواجهة إكراهات التدبير اليومي لقضايا الناس، هذا الإشراك يشكل جسر العبور من مثالية المبادئ إلى واقعية السياسة، كما يشكل جسر عبور من عالم المقدس إلى عالم المدنس. هناك من سيرى أن هذا الأمر هو بمثابة قانون سوسيولوجي ينطبق على الإسلاميين وغير الإسلاميين؛ فعندما كانت فصائل يسارية تمارس المعارضة كانت شديدة الحرص على بلورة مجموعة من المطالب المحكومة بأبعاد مثالية سرعان ما ابتعدت عنها عندما شاركت في تدبير الشأن العام، ولا زال الرأي العام المغربي يتذكر مواقف أحزاب الكتلة الديمقراطية عندما كانت في المعارضة ومواقفها بعد مشاركتها في تجربة التناوب التوافقي؛ فقد كانت هذه الأحزاب وهي في المعارضة تشدد على أولوية الإصلاحات الدستورية والسياسية، في حين تراجعت هذه الأولوية عندما تغير موقعها السياسي، وبالتالي فإن ما جرى على القوى السياسية الأخرى بمرجعياتها المختلفة، سواء كانت اشتراكية أو ليبرالية، سيجري على القوى السياسية ذات المرجعية الإسلامية. إن الانتقال من الطوبى إلى الإيديولوجيا أو الانتقال من مثالية المبادئ إلى واقعية السياسة يعبر عن نفسه بوضوح من خلال مواقف بعض الإسلاميين الذين تصدروا نتائج الانتخابات التشريعية في بلدانهم، فحزب الحرية والعدالة في مصر والمرتبط بجماعة الإخوان المسلمين استوعب بسرعة منطق الدولة ولفظ بسرعة منطق الثورة التي التحق بها متأخرا، فهو لم يجد صعوبة في تبرير تحالفه مع المجلس الأعلى للسلطة العسكرية، كما لم يجد صعوبة في تبرير مقاطعة التظاهرات المطالبة بالإسراع بنقل السلطة إلى المدنيين. ولا يختلف الأمر في تونس، حيث أصبح حزب حركة النهضة، المحتل للمرتبة الأولى في انتخابات المجلس التأسيسي، لا يرى حرجا في إبداء تبرمه من المتظاهرين الداعين إلى حماية مكاسب ثورتهم. إضافة إلى الواقعية السياسية، فإن براغماتية جماعات الإسلام السياسي من شأنها أن تساعد على تكريس التعددية السياسية المنشودة في العالم العربي، فهذه الجماعات الإسلامية هي، أولا وأخيرا، تعبيرات سياسية وليست تعبيرات دينية، فميلاد جماعات الإسلام السياسي منذ سنة 1928 وتطورها كانا مرتبطين بأسباب سياسية، فالإسلام السياسي في جوهره هو نتاج الإقصاء السياسي الذي انتهجته الدولة الوطنية في العالم العربي، هذه الدولة التي سعت إلى طمس التعددية السياسية باسم المحافظة على وحدة السلطة وعدم الاعتراف بالمنافسين الدينين بدعوى المحافظة على وحدة المجتمع، فالإسلاميون شكلوا في المجتمعات العربية ذلك الخيار السياسي الثالث في مواجهة قوى اليمين، من جهة، وقوى اليسار، من جهة أخرى. ومادام الخيار الليبرالي والخيار الاشتراكي كانا يجدان صعوبات في التماهي مع طبيعة الثقافة السياسية السائدة، فإن الخيار الإسلامي، كخيار سياسي بديل، اختصر الطريق وركز على المنظومة الهوياتية بمختلف عناصرها من دين ولغة وإرث حضاري. وباعتبار جماعات الإسلام السياسي تعبيرات سياسية وليست دينية، فإن عملية الانتقال من مثالية المبادئ إلى واقعية السياسة كانت أمرا يسيرا، خاصة إذا ما واكبتها نزعة براغماتية عبرت عن نفسها باستمرار من خلال القدرة على إنجاز التسويات وإبرام التوافقات مع القوى السياسية الأخرى. تحاول جماعات الإسلام السياسي الظهور بمظهر القوى الراغبة في تكريس التعددية السياسية الحقيقية، فإضافة إلى كونها تشدد على ضرورة احترام الاختلاف وعدم الانفراد بالسلطة، نجدها -على المستوى العملي، وبعد فوزها في الانتخابات في بعض البلدان العربية- قد انخرطت في تحالفات مع قوى سياسية لا تقتسم معها نفس المرجعية، فحزب الحرية والعدالة في مصر والمرتبط بجماعة الإخوان المسلمين أبدى استعداده للتحالف مع قوى وطنية وقومية بدل التحالف مع القوى السلفية ممثلة في حزب النور الذي حصل على الرتبة الثانية في الانتخابات التشريعية؛ ونفس الأمر حصل في تونس، حيث سجل تحالف بين حزب حركة النهضة وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية، فقد لوحظ في التجربتين المصرية والتونسية انحياز الإسلاميين إلى التحالف مع قوى علمانية معتدلة بدل التحالف مع قوى دينية متشددة. هناك من يبدي تحفظات حول هذا الطرح باعتبار أن التوظيف السياسي المبالغ فيه للدين من قبل جماعات الإسلام السياسي لن يساعد على تكريس التعددية السياسية في المجتمعات العربية، غير أن هذا القول يصدق على حالة الإسلاميين وهم في المعارضة وليس على وضعهم وهم يشاركون في تدبير الشأن العام، فالإسلاميون في وضعهم الجديد سيكونون أحرص على الدفاع عن الحقوق والحريات التي كانوا ينتقدون ممارسة بعضها في السابق، كما سيكونون أكثر علمانية من العلمانيين، وعلى المراقب أن يرصد أفعالهم لا أقوالهم، ففي الأفعال تكمن الحقيقة.