مرّ حوْل كامل على أولى المظاهرات المطالبة بإسقاط الفساد، لكن الفساد لم يسقط، وربما سيسقط بالتقسيط وبأجزاء صغيرة جدا وعلى مدى قرون، ومقابل ذلك فإن ما سقط، فعلا، هو الأمل الكبير الذي كان المغاربة يتسلحون به من أجل التشفي في غول الفساد الذي أنهك حياتهم وجعلهم يعيشون على نظرية «أطلبوا الخبز من المهد إلى اللحد». المطالبون بإسقاط الفساد لم يأتوا من المريخ، بل هم من صميم المجتمع المغربي، والذين ساروا ويسيرون في المظاهرات مغاربة أقحاح ولهم طلب واضح: محاربة الفساد. لكن هذا الطلب لم يلق صدى لدى كثيرين، ليس وسط المسؤولين، لأن لهم طبعا قرابة وثيقة مع الفساد، بل مع قطاع عريض من المغاربة الذين صاروا مؤمنين بأن الفساد رجل صالح ووقور ويجب ألا نزعجه أكثر من اللازم. منذ الأيام الأولى لولادة حركة 20 فبراير، كانت هناك الكثير من محاولات التشويش والتشويه والتخويف، ولعبت عدة أطراف دورا مهما في محاولة شيطنة هذه الحركة، وقد نجحت في ذلك ولو بشكل جزئي. مرّة كنت في سيارة أجرة، وكانت أصداء مظاهرة للحركة تقترب. بدا سائق الطاكسي منزعجا والتفت نحوي وقد غلى الدم في عروقه، وقال: هؤلاء الذين يقطعون الطرقات هم من أنصار البوليساريو. قلت له إذا كان هؤلاء الذين يطالبون بإسقاط الفساد من أنصار البوليساريو، فمع من يكون النهابون والمفسدون، هل مع إبليس اللعين؟ سألت ذلك السائق المسكين كم مرة دفع رشوة، فقال إنه لا يتذكر لأنه دفعها مرات كثيرة، قلت له إن هؤلاء المتظاهرين يخرجون إلى الشارع لكي لا يدفع مزيدا من الرشوة. سألته: بكم تشتري الحليب والزيت والسكر والدواء، وما رأيك في أحوال المدارس والمستشفيات والإدارات والمؤسسات ونهب الميزانيات والسيطرة على الأراضي وبناء القصور والفيلات ووصول بائعي الحشيش والكوكايين والخمور إلى المجالس البلدية والمجالس المنتخبة..؟ فصمت؛ قلت له إن هؤلاء يتظاهرون لكي تعيش أفضل، أو على الأقل لكي تعيش بطريقة أقل سوءا. هناك مشكلة حقيقة عند كثير من الناس، وهي أنهم يحاولون تدمير من يدافع عنهم ويشوهون سمعته، بينما يحترمون من ينهبهم ويفقّرهم. ربما يكون ذلك عن خوف، وربما يكون ناتجا عن طبيعة بشرية غير سويّة. في كل الأحوال، فالشارع مفتوح للجميع، ومن حق أنصار الفساد أن يخرجوا إلى الشوارع ليهتفوا: الفساد حق مشروعْ... والشّعب مالو مخلوع؟».. كثيرون عابوا على الحركة خلافاتها الداخلية، لكنهم لم ينتبهوا إلى أن أغلب أعضائها شباب، بينما هناك أحزاب شائخة ينطح زعماؤها بعضهم البعض في الاجتماعات المغلقة من دون أن يلومهم أحد. اليوم، في الذكرى الأولى لأول مظاهرة ضد الفساد، يبدو أن الأخير ليس لديه ما يقلق من أجله، وعموما فإن أغلب المغاربة طبّعوا مع هذا الغول، وسيحسون بكثير من الشوق نحو الفساد لو ذهب فعلا؛ فالناس يتحركون وفق ما تمليه عليهم علاقاتهم وأرقام هواتفهم.. لا يريدون الوقوف في الطابور، ويمارسون حربا يومية ضد بعضهم البعض في الطرقات، ويدفعون الرشوة من أجل حقوقهم الطبيعية، ويتذمرون فقط من أجل التسلية، ويعتبرون دائما أن الفساد يعاني منه الآخرون فقط وليس هم. كثير من المظاهرات المنددة بالفساد يسير فيها مثلا عشرة آلاف متظاهر، بينما يقف على الأرصفة خمسون ألفا يتفرجون، وكأن الذين يسيرون في مظاهرات الاحتجاج يشترون الزيت بعشرين درهما، بينما الآخرون الواقفون على الأرصفة يشترونه بثلاثة دراهم، وكأن الذين يهتفون ضد الفساد هم وحدهم يعيشون في المغرب، بينما الآخرون يعيشون في السويد. مرة كانت مظاهرة تسير قرب مقهى، وكان رصيف المقهى مكتظا بأناس يمسكون «الجوانات» أو عصي «السّبْسي» الطويلة مثل صواريخ عابرة للقارات (وهؤلاء، طبعا، هم أحباب الفساد وشعبه). أخذ رجل نفسا عميقا من السبسي وسأل زميلا له «مبوّقا» أكثر منه: شْكون هادو؟ صديقه يعرف الجواب جيدا، لذلك رد عليه بسرعة قائلا: هادو هُوما الناس دْيال الفساد.. الحشيش رائع لأنه يجعلك ترى الأشياء بطريقة سوريالية... الفاسد صديقك، وعدو الفاسد عدوك، لهذا السبب ظلت «كْتامة» وما جاورها تلعب دورا حاسما في ضبط الشارع وتهدئته، فالجْوانات لعبت دورا أخطر بكثير من الزّرْواطة.