أصبح مصطلح السقف متداولا بكثرة منذ أسابيع في المجال العام بالمغرب، لا يكاد يخلو منه تصريح للإعلام أو بيان للرأي العام أو نقاش في ندوة أو موقف يعبر عنه تنظيم أو حزب. فهل الدستور له سقف، و الحكومة لها سقف، و الجرأة لها سقف، و القطع مع الإفلات من العقاب له سقف ؟ وما يسمى الإصلاح له سقف؟ وهل الاحتجاج السلمي له سقف، و الشعارات لها سقف، و القمع له سقف مرتفع و إن اقتضى الحال يتجاوز السقف ليزهق الأرواح؟ هل نهب المال العام بلا سقف بينما محاربة الفساد لها سقف منخفض جدا؟ هل التضييق على الصحافة واحتكار الإعلام العمومي بلا سقف بينما حرية الرأي و مساحة النقد لها سقف من اقترب منه له الويل و الثبور؟ إن الحراك الشعبي المطالب بإسقاط الفساد والاستبداد و الراغب في الالتحاق بكوكبة الشعوب الراشدة غير القاصرة، التي استردت إرادتها و امتلكت سيادتها و انقلبت على الطغيان السياسي و المالي، هذا الحراك يكاد يذهب ضحية معارك السقوف الجانبية أو على الأقل السابقة لأوانها، بينما المكر السلطوي لا سقف له. و لذلك فالخطر يكمن في صعوبة أو استحالة التعايش بين من يبدو و كأنه يسيج فكره ونضاله مسبقا بسقف معين وهذا حقه، أو يحرم على نفسه التعاون مع من لا يشاطره سقفه، و من يبدو وكأنه يريد استنشاق نسائم الربيع الديمقراطي واضعا أمام أعينه كل أطياف الممكن لمستقبل البلاد، معتبرا أن الأحلام الجميلة لا سقف لها مبدئيا، و أن لحظة الاختيار من طرف أبناء الوطن الواحد لنوعية السقف السياسي و زخرفته و نوافذ الهواء و النور التي تزينه لا زالت بعيدة. أقول يبدو لأن الألفاظ والبيانات الفضفاضة تساهم في حجب بعض الأمور البسيطة بل قد تحجب الغموض في الخيارات أو ربما غياب التصورات أصلا أو على الأقل تترك هذا الانطباع مما يضخم من سوء الفهم. غداة الانسحاب المفاجئ لجماعة العدل والإحسان من حركة 20 فبراير سألت قناة الجزيرة الصديق الأستاذ محمد أغناج أحد قياديي الجماعة عن البديل فلم يقل إن لنا تصورا واضحا لأشكال احتجاجية أخرى سنعلن عنها عما قريب بل قال :"نحن نبحث عن تحول نوعي في الاحتجاج و نتجاوز السقف المفروض و رفع مستوى الإيقاع". وهو جواب لا يشفي غليلا و لا يبرئ عليلا لأن اللحظة اليوم تستوجب المبادرة تلو المبادرة و ليس التصريح بانطلاق البحث عنها فقط ، كما أن مبرر سحب البساط من تحت أقدام الخصم و إرباك مخططاته و إن كان صحيحا نسبيا إلا أنه لا يشكل وحده انتصارا في حد ذاته. الشارع يعرف ما لا يريد: الفساد و الاستبداد، أكثر مما يعرف كيف يحصل على ما يريد: الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، أو بعبارة أدق يعرف أن إسقاط الفساد و الاستبداد مرحلة ضرورية عليها شبه إجماع و لكن تصورات مرحلة بناء النظام الذي يحمي الحرية ويحفظ الكرامة ويقيم العدالة، لازالت موضع اختلاف، و هذا أمر طبيعي. لكن الشارع شيء و الهيئات السياسية التي أخذت على عاتقها تأطيره شيء آخر. إن دور هذه الأخيرة لا يقف عند مواكبة الشارع في احتجاجه بل المطلوب منها أن تحمل مشروعا بديلا و تصورا واضحا، مستعينة بالقوى المدنية والفعاليات الثقافية الجريئة. و للمزيد من الوضوح، إذا كان الهدف في الجوهر هو الوصول إلى بناء ديمقراطي حقيقي حيث السيادة للشعب فإن النماذج العصرية التي تؤمِّن هذا البناء تكاد تنحصر في ثلاثة : الملكية البرلمانية على النمط الإسباني مثلا، والجمهورية البرلمانية على النمط الألماني أو الهندي – وهو ما قد تتجه له تونس في المستقبل- و الجمهورية الرئاسية على النمط الفرنسي أو الأمريكي. علما أن الملكية البرلمانية تفسح المجال لتأسيس أحزاب جمهورية تدافع سلميا في إطار الديمقراطية عن الخيار الجمهوري دون أي حاجز نفسي، بل إن ملك بلجيكا يستقبل دون غضاضة رئيس الحزب الجمهوري. على ذكر إسبانيا، سيقف صهر الملك هناك يوم 6 فبراير 2012 أمام قاضي التحقيق لمواجهة تهمة الفساد والرشوة بينما في المغرب يطلق صهر الملك، السيد حسن اليعقوبي الرصاص على شرطي بعد أن وصفه بالبخوش ثم يذهب لحال سبيله تحرسه قوات الأمن و كفى الله المؤمنين القتال. قد يكون النظام الملكي البرلماني هو الأقرب نظريا للتحقيق و للتسويق على المستوى الشعبي لأنه حسب مناصريه يجنب المرور بمراحل الترويع والتقتيل التي يلجأ إليها كل نظام يكون مهددا في وجوده ممن يطالبون بإسقاطه. ولكن لماذا نظريا ؟ لأن المرور إلى ملكية برلمانية في الحالة المغربية هو في حد ذاته إسقاط للنظام، لأنه إسقاط نظام الملكية الماجيدية الفؤادية التي لن يتردد الممسكون بدفتها في إحراق الأخضر واليابس كلما أصبح وجودهم مهددا، و نظرا لارتباطهم العميق والعضوي برأس النظام في ظل تبادل الحماية و تقاطع المصالح المالية على الخصوص لأن كلا من هذه الأطراف لا يتصور سلامته في غياب الأطراف الأخرى لعدة أسباب ليس أقلها العامل النفسي، و نظرا للتورط المشترك في الصفقات و الاطلاع على الأسرار، بالإضافة لحسابات القوى الكبرى الدولية وخاصة فرنسا و أمريكا و مصالحها الاقتصادية الحاضرة بقوة. لقد سقط لفظ المقدس من الدستور لكن المقدسات الحقيقية لازالت مقدسة لأنها تمسك بأعمدة البناء لكي لا ينهار سقفه على الجميع. وعليه فإن كل أشكال التحول الديمقراطي الحقيقي في المغرب سواء كان هدفها المعلن أو المضمر الوصول إلى ملكية برلمانية أو جمهورية كيفما كان نوعها أو حتى الخلافة لمن يسعى لها لأن المصطلح يسكن وجدانه - سواء كانت راشدة أو غير راشدة - لابد أن تواجه بمقاومة شديدة و متنوعة من طرف السلطة الحالية لأجل إجهاضها، سواء في شقها الجماهيري أو تعبيراتها السياسية كلما حاولت استعادة المبادرة ووضع السلطة في موقف رد الفعل. وهذا ما حدث ويحدث كل يوم و قد نجحت فيه السلطة لحد كبير رغم تظاهرها ببعض التنازلات. من الرابح اليوم من تنافر المرجعيات و حرب البيانات و اصطدام القناعات ؟ هل سقط الاستبداد و تهاوت رموز الفساد ؟ هل بدأت محاكمة المفسدين و اللصوص الكبار ؟ هل بدأ التحقيق في ثروة رمز الإثراء غير المشروع و استغلال النفوذ، السيد الماجيدي الذي صرخت آلاف الحناجر مطالبة بإبعاده و من بينها حنجرة رئيس الحكومة المعين السيد بنكيران الذي صنفه قبيل الانتخابات قائلا " المغرب لم يعد يقبل أن يكون هناك أمثال الهمة و الماجيدي و العماري ..إنهم يفسدون في الارض ولا يصلحون و هذا غير مقبول .. و يمثلون الاستعمار و يعتبرون المغاربة عناصر يجب ضبطها بالعصا و الجزرة و وسائل القمع و أساليب التجسس" (1)؟ هل مَنع رفعُ صورة السيد علي الهمة من طرف المحتجين كرمز الفساد والإفساد السياسي و التسلط الفوقي على أجهزة الدولة و تسخيرها لأهداف مشروعه – و هو مشروع القصر في الحقيقة حيث كان يسوق له بكونه المشروع الحداثي الديمقراطي الذي يقوده الملك، واضعا نصب أعينه مهاجمة من يسميهم الظلاميين أي الإسلاميين – هل منع كل ذلك من تعيينه مستشارا للملك نكاية في خصمه اللدود السيد بنكيران و حزبه و تحديا و احتقارا لعموم المواطنين و خاصة المطالبين بإبعاده سواء كان هؤلاء المطالبون منتمين لجماعة أو لحزب أو لتيار أو مستقلين؟ و سواء كانوا من أصحاب السقوف أم من محبي الهواء الطلق ؟ من يدري، لعل ظهير التعيين قد ختم بالتبرك بهذه الآية الكريمة : قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ. إن الاختلافات و حتى المعارك الإيديولوجية و تنافس المشاريع المجتمعية ظاهرة صحية و مفيدة و دليل على يقظة الضمير الجماعي و لكن هل حقا حان أوانها ؟ ربما كان لها جدوى في فترة ما قبل شرارة البوعزيزي عندما كانت السقوف منخفضة فوق العالم العربي برمته. أما اليوم و بعد لحظة البوعزيزي، استدار الزمان، و تغيرت معايير الإصلاح و توسعت مساحات الممكن و استعادت مصطلحات التغيير هنا والآن كل معانيها القوية و اضمحلت معاني التدريج والانتقال الديمقراطي و المسلسل الديمقراطي اللامنتاهي و العهد الجديد و المفهوم الجديد للسلطة. بعبارة أخرى لقد حلت لحظة : الشعب يريد. من هو المستفيد اليوم من احتدام تلك المعارك إلى درجة الفرقة والخصام و الاتهامات المتبادلة ؟ ألا يحق للجميع الإصغاء و التأمل لما قاله السيد منصف المرزوقي شهر أبريل 2010، في حوار مع صحيفة كندية إلكترونية، و هو لا يدري أنه سيصبح أول رئيس لتونس ما بعد الثورة الناجحة وسيصرح أن استمتاع الرئيس السابق بأربعة قصور نوع من الكفر : "إن الطبقة السياسية، أو ما تبقى منها ترفض الإقرار بقاعدة بسيطة تأكدت صحتها مرات كثيرة في التاريخ وهي أن المعارضة مفهوم ليس له معنى إلا في ظل الديمقراطية. أما في ظل الديكتاتورية، ليس هناك إلا المقاومة، سواء كانت مسلحة أو سلمية. لقد ظللتُ أنادي القوى السياسية الفاعلة إلى تنظيم المقاومة المدنية لمعركة طويلة مع تحديد هدف واضح لإسقاط الدكتاتورية لكن هؤلاء السيدات و السادة يتشبثون أو على الأقل يتظاهرون بالتشبث بوهم إمكانية إصلاح الديكتاتورية، أو يعتقدون أن المشاركة في المهزلة الانتخابية كفيل وحده بتوسيع مساحة الحريات. إنه أمر محزن أن يبقى الشعب هكذا بدون قيادة وبدون بدائل واضحة، يبحث فيه كل فرد عن خلاصه الفردي." (2) أليست الحكمة كل الحكمة أن يكون عنوان العمل المشترك بين كل المرجعيات والقناعات هو التضامن وتجميد الخلافات مؤقتا للتمكين من تعاون الإسلاميين بكل تياراتهم واليساريين على تباين قناعاتهم بل تعاون المؤمنين و الملحدين والعصافير و الأشجار و الأحجار و الأنهار و الحشرات و الجمادات لمواجهة الخصم الحقيقي ريثما يجتاز الجميع المرحلة الحرجة المليئة بالفخاخ ؟ ما الجدوى من النزاعات "السقفية" عندما تتراكم مظاهر الاستهتار بالدستور الجديد- على علاته ونواقصه- نصا و روحا وعندما يتضخم فريق حكومة الظل المتكون للتذكير من كائنات لا دستورية، و لا يكون رد فعل رئيس الحكومة المعين إزاء تلك التصرفات الاستفزازية إلا قدرته العجيبة التي لا سقف لها أيضا، على تجرع الإهانات و استقبال الصفعات بالابتسام و الترحيب و المزيد من الانحناء مكرسا عن طواعية سلطة الملكية الماجيدية الفؤادية الويكيلكسية التي لا تُسأل عما تفعل ومساهما في نفس الوقت في تضاءل السلطة المنبثقة -على الأقل نظريا- من صناديق الاقتراع و تهميش دستور كان هو أول المدافعين عنه ؟ ما الجدوى من المعارك السقفية مادامت لم تفرض مثلا محاسبة المسؤولين عن انهيار المآذن على سقوف المساجد فوق رؤوس المصلين؟ من يتذكر كارثة مسجد البرادعيين بمدينة مكناس التي أودت بحياة أكثر من أربعين من المصلين خلال صلاة الجمعة شهر فبراير 2010 ؟ ألا تنطبق عليها هذه الأبيات الشعرية ؟ فلو شبَّت لفرط الغشِّ نارٌ ** فلن تُجدي لتخمدها دلاءُ أوِ ِانهارت سقوفٌ فوقَ جَمعٍ ** فدونكمُ التضرّعُ والدعاءُ دعُونا من محاسبةٍ دعونا ** فتلك خُرافة وَهْمٌ هباءُ دعُونا من مساءلةٍ دعونا ** أصَوْتكُمُ نهيقٌ أم ثُغاءُ ضمائرنا تُقايَضُ في مَزادٍ ** فبيعٌ أو رهانٌ أو كراءُ لنا الدنيا و زينتها وأنتمْ ** سعادتكمْ شقاوتكمْ سواءُ لنا الدنيا و زهرتها و فُزتمْ ** بجنّتكم فنِعْمَ الاكْتفاءُ وفي ترفِ القصورِ لنا مجونٌ ** وفي حُضن الغواية الارتماءُ و في بذخ الثراء لنا نعيمٌ ** و في دِفْءِ الحصانةِ الارتشاءُ و أموالٌ تُبدِّدُها طقوسٌ ** و أعرافٌ تجاوزها البِلاءُ رغم كل ذلك فإن قطار التغيير الحقيقي سيمضي إلى محطته البعيدة لأن منطق التاريخ لا يرحم، و لو تعثر القطار في الطريق أو توقف لبعض الوقت فإن العزيمة الصلبة و الإرادة الصادقة التي لا سقف لهما كفيلتان بأن تعيداه إلى سكته و إمداده بالطاقة. لأن الشعب يريد. رحم الله المفكر والشاعر والفيلسوف محمد إقبال الذي قال: المسلم الضعيف يعتذر دائماً بالقضاء والقدر وأما المؤمن القوي فهو بنفسه قضاء الله وقدره. و سنتكم سعيدة. -------------------------------------- [email protected] (1) http://www.youtube.com/watch?v=-IyUdQ3_aCE (2) http://www.tolerance.ca/Article.aspx?ID=80784&L=fr