احتفالات أعياد الثورة للسنة الأولى من عمرها تتتابع في مطلع عامها الثاني، لكن الإطاحة بمبارك كانت بمثابة الإيذان بانتهاء عصر الفراعنة العرب المعاصرين؛ فقد تتهاوى أصنامهم من قمم دولهم، أهراماتهم، لكن هياكل الأهرامات باقية من بعدهم؛ وهنا المشكلة، فالتاريخ لا يأتي بحقبة القطيعة دفعة واحدة، كل إنجاز في مسارها قد يتحول إلى نقطة انطلاق أو تحول نحو توجّه آخر، مبتعدا بها عن أهدافها الأصلية أو مقربا لها، قليلا أو كثيرا. وربما أصبحت تلك الأهداف غائمة أو منسية في زحمة من مقدماتها المتناقضة. على كل حال، يقدم إلينا عام الثورة الأول كل الحوافز والمسوغات للتخلي عن عادات التفكير والتحليل التي سبقته، فالمتغيرات على أرض الواقع هي صاحبة أسبابها الفعلية. لا يمكن أن نفرض عليها أجهزَتنا الإيديولوجية الجاهزة أو المتكلسة. والفكر الصادق مع نفسه أولا، لا يمكنه أن يتخذ موقف المتفرج على أمواج الخضم الهائل أمامه دون أن يتصوّر نفسه، على الأقل، أصبح أحد السابحين المتصارعين مع أنوائ الصاخبة. لم نُفاجأ نحن والعالم بالثورة إلا لأن أجهزتنا الفكرية عانت صدمة العجز، ليس عن التنبؤ بالحدث الكبير أو توقعه فحسب، بل هي تتابع صدمة العجز هذه مع تطورات الحدث وحركيته المتشعبة.. إنه يجيء بالثورة المنفلتة من كل تنظير إيديولوجي أو استباقي، وإنها ستظل الثورة الممتنعة على التنميط أو الانضواء تحت قوالب التسييس الحرفيّ أو الإعلامي الشائع. هنالك حقيقة أولية يمكن أن تُعرّف بها هذه الثورة، وهي أنها تمثل الصورة الأوضح عمّا تعنيه قوة الرفض عندما تجسدها الكتلُ الجماهيرية في فضاءات اجتماعية عامة. إن صيغة الكتلة هنا تتجاوز التصنيف الطبقي أو الوظيفي أو المؤسساتي، فهي استقطاب بشري عابر للتراتبيات من كل نوع تقليدي، نظري أو تكويني، لذلك لم تكن الساحات والشوارع مجرد أمكنة حاملة لأية مجاميع بشرية متلاقية عفويا أو حتى إراديا تنظيميا، في مساحاتها المدينية الحرة أو المغلقة، بل هي أشبه ما تكون بمواقع جبهات متحركة، تنتج خطوطَ دفاعٍ أو وثباتِ هجوم. المدينة العربية فقدت أخيرا بلادة استسلامها الموروث لمصير أحجارها المنخورة.. تريد أن تكون من جديد وطنا للبشر الأحرار وحدهم من دون أسيادهم البائدين. الكتل الجماهيرية الثائرة لا تملك سوى قوة الرفض. وحدها قوة الرفض ممتنعة على التصنيف الاستباقي، وهي تمثل نوع القوة الحرة التي لا يمكن القبْضُ عليها، لا يمكن اعتقالها أو احتباسها أو قتلها، إنها الطاقة المكونة لذخيرة أبطالها، والفائضة عنهم في الوقت عينه، كلما تساقط بعضهم.. هي الباقية المستديمة في شوارع المدينة ما بعد سحب الجرحى والقتلى والأسرى، فالكتل الجماهيرية في حال الثورة تتحول إلى مصانع بشرية لإنتاج أنبل نماذج التضحيات، ما فوق كل حسابات الربح والخسارة، بالأنفس وليس بالمصالح والأمجاد الزائلة فحسب، تلك التي يستبيح من أجلها أهلُ النظام شعبا كاملا (سورية الجريحة). هنالك آلاف الثوار الذين لا تعرف أسماؤهُم، هم الفُعَلاء الحقيقيون، صاروا أسيادَ أنفسهم وأعداءهم في وقت واحد، ربما. إنهم يُشرّعون قانون التغيير للتاريخ الفعلي دون دراية أدعيائه الناطقين باسمه زورا وبهتانا، غالبا. ما يمكن قوله أن الربيع العربي قد نجح حتى الآن في فكّ عقاله من أسر الخارطة الجيوسياسية الجاثمة على صدر الأمة الواحدة منذ قرن بائس، لكنه لم يشرع في رسم الخارطة الجديدة البديلة، فما زالت معظم ثورات العام الماضي مترددة بين الكمون والانطلاق، وما انطلق منها لم يُتحْ له أن يبني نظامه الموعود. وفي مصر، ينعقد كيانُ النموذج الأعلى لبقية الثورات، ينشئ مسرحه الواقعي والرمزي معا، مفجرا كوامن العقبات التي تخصّ قطره، كما أنها ترمز إلى أمثالها في الأقطار الأخرى، فالقاهرة افتتحت المعركة الفاصلة مع العقبة العظمى الكأداء المنتجة لمسلسل أعطال النهضة، منذ أن طردت فلول الاستعمار القديم، وهي المتمثلة في العقدة السلطوية الممسوكة عسكريا مباشرة، أو التابعة لأشباه العسكر ومشتقاتهم. في مصر، تحدث المواجهة التاريخية المتأخرة منذ عقود ما بين المجتمع المدني ونقيضه العسكري، لم يعد ثمة تكامل وهمي ما بينهما، فقد انقلبت وظيفة المؤسسة العسكرية من كونها حاميةً للداخل الوطني ضد الخطر الأجنبي إلى كونها أداة الحماية والشراكة، معا للطبقة الأوليغارشية الصاعدة على أكتاف بقية الطبقات المنتجة والمُعْوزة في وقت واحد. فما إن انتهى عصر الفتوحات القومية الكبرى بعد عبد الناصر وجاء أنور السادات بشعار دولة كمب ديفيد، تحت قناع دولة القانون، حتى انقلب «القطاع العام» إلى إقطاعات صناعية مملوكة لضباط متقاعدين أو لأنسبائهم أو أزلامهم. فلقد كشفت تقارير دولية أن مجمل الاقتصاد المصري الأوليغارشي متعسكر بأشخاص معظم مالكيه، المنتدَبين من قبل حزب السلطة الحاكم الفعلي، الذي هو الجيش (الوطني) نفسه. هذا النموذج الذي يجمع بين حكم الوطن واستغلاله هو المؤسس لمضمون المركب السلطوي: الاستبداد/الفساد. وقد تعمّم على ما دُعي بدول التحرر الوطني المنشئة لأنظمة الحكم الرئاسي تحت الاسم الجمهوري، طيلة السبعة عقود الماضية، إذ لم يتبق من خصائص ذلك (التحرر) إلا مدى الحرية المطلقة التي تمنحها الأوليغارشية المتعسكرة لذاتها، كطبقة حاكمة بأمرها، عالية ومتعالية ما فوق مصائر بقية الناس جميعا. هذا الشرط الانقلابي في طبيعة كلٍّ من سلطة السياسة وسلطة الاقتصاد معا، من كونهما الأداةَ العصرية المتكاملة لانقيام مصطلح الدولة المدنية المتصاعدة مع مكونات مجتمعها بميزان الحق والعدل، كان له التأثيرُ الجذري في مسيرة نهضة الاستقلال، فقد عمل مبدئيا على خفض مطمحها التاريخي من المستوى القومي إلى الصيغ القطرية المتباينة، ثم جرى تخفيض هذا المستوى وتعجيزه بنيويا، حتى يصير إلى شكل التسلط الفئوي الأقلي على الأكثري المجتمعي، لكل قطر على حدة؛ وبذلك تم حَجْزُ أكثريات الأمة العربية جمعاء في أدنى شروط التخلف المتجدد، بأخبث وسائل الاستلاب الشمولي المنظم لأبسط أشكال الحريات الأولية للأفراد والجماعات، حتى تحقق للنخب ما يشبه اليأس من ثقافة النهضة عينها، إذ بدا أن صحارى الانحطاط قد جفَّفت آخر قطرت الينابيع اليتامى في واحاتها النادرة. كادت المجتمعات أن تنحل وتتحلل إلى أضعف فئوياتها المتوارثة، باحثة عن أتفه ظروف الحمايات الابتدائية داخلَ وما وراءَ قواقع الماورائيات والمذهبيات والعنصريات. من أهم ما تميز به «ربيع» القاهرة أن الثورة لم تقبل أن يفتدي النظامُ نفسَه بالتخلي عن شخص رئيسه، ولعله لأول مرة يتركز وعي الشارع الشبابي حول افتضاح التركيبة الطبقية لنوع الإقطاع العسكري المسيطر على الآلة الإنتاجية لإنسانية المجتمع في مجال إبداع حضارة الحرية من جهة، وتوفير ظروف التقدم والحداثة؛ فإن استقطاب شعارات الثورة لعامها الثاني، حول إسقاط حكم العسكر، قد يتعدّى أمل الخلاص من سلطة المجلس العسكري المحتكر لسلطة المرحلة الانتقالية، وصولا إلى هذه البنية الطبقية الصانعة للإقطاع العسكري والمصنوعة بمؤسساته الإنتاجية التي لا تعد ولا تحصى، وتكاد تغطي أصناف سوق الأدوات الاستهلاكية على اختلافها؛ فالثورة الحقيقية لم تعد تكتفي بإلغاء رأس النظام، ولا حتى من بعْدِه، بجسده، بل هي طامحةٌ إلى بلوغ الآلة الأصلية المنتجة لمركب الاستبداد/الفساد الذي انتهى إلى صياغته والاحتماء بقلعته عصرٌ كامل من سيطرة الإقطاع العسكري المموه، خلف الأوليغارشيات المالية الفاحشة. ما يخسره الغرب عامة، وأمريكا خاصة، مع رياح الربيع العربي، انطلاقا من مركزية نموذجه الأكبر، وذلك عبْر إنجازات سنته الأولى المصرية، هو مذهب استراتيجي كامل في فن صناعة الدول العالمثالثية حديثةِ الاستقلال. كيف تكون هذه الدولة مجرد جهاز احتلالٍ جديد معطِّل لإمكانيات مجتمعها، مانع لخيارات نُخَبها العقلانية، سالبٍ لحريات أجيالها الصاعدة. وقد يُصطلح على هذا الجهاز باسم الدولة الأمنية، كنايةً عن السلطة البوليسية المطلقة، وهي المحروسة بدورها من قبل التشكيل العسكري الذي سوف يُدعى بالجيش الوطني، في حين أنه كان هو الحزب الأقوى الوحيد المسموح له بالسيطرة على مفاتيح الحياة العامة، بدءا من احتكار القرار السياسي والاقتصادي في أعلى قمم الحكم أو في خلفياته المتوارية. لا حاجة إلى استعادة الوقائع البرهانية الناطقة بخصائص هذا المذهب الاستراتيجي، فقد شهدت النهضة العربية المعاصرة أهم تمارينه الناجحة والمتفوقة، في الغدر بأعظم آمالها، في قلب حركاتها الاجتماعية إلى عكس غاياتها، في إعادة إنتاج انحطاطها التاريخي تحت بوارق تنميات زائفة، هادرة للمال والإنسان والمستقبل. لعل شبيبة القاهرة الرافضة لمبارحة ميدان التحرير وأشباهه، منذ عام، تدرك حقا، وهي تؤكد عمق إدراكها أكثر فأكثر، أنها لم تطح إلا بآخر الفراعنة، لكنها لم تُطِحْ بمصنع الفَرْعنة بعد.. لقد افتتحت معركة الصراع المدني ضد المجلس العسكري الوارث للفرعون المنزاح، ولكنه هو المسؤول عن جعل المرحلة الانتقالية تجربة بائسة من استنقاع الثورة، هذا الاستنقاع قد يوقف هدير التيار آنيا، ومن ثَمَّ تطفو عِقَد الأعماق المظلمة وجراثيمها الضارة على سطوح المياه الراكدة، فالمؤسسة الأمنية تبرعت بالكشف عن أقصى مدى تخريبي يمكن أن تبلغه من أجل استعادة الشارع، أو «تنظيف» ميدان التحرير من كرنفاله المستديم ليلا ونهارا. ما لم تعهده المؤسسة الأمنية طيلة عهدها الأسود واجهته أخيرا: لقد تم الكشف عن تقاليد جرائمها متلبّسةً بممارساتها اليومية المشهودة. ما حققه الربيع العربي أنه أنزل أنظمة القمع إلى الشوارع والأحياء. فرض عليها ما كانت تتحاشاه دائما، وهو المواجهة المكشوفة مع ضحاياها الذين يصيرون من أقوى مقاوميها، فالمنازلة الشاملة أصبحت محتومة وقابلة للتعميم، ذلك أن مذهبا كاملا في صناعة الدول الآسرة الساجنة لشعوبها أمسى في مهب رياح الشبيبة الثائرة، لقد تساقطت بعض رموزه الحاكمة، وذلك كان إنجازا فاتحا على دروب الانتصارات القادمة المتجاوزة لمرحلة الرموز، نحو الآلة الموكولة بصناعتها، كأنما الثورة لم تلد بعد. لكن عواصم العرب وقراها راحت تُعِدُّ ساحات تحريرها، بالرغم من كل عواصف الرمل والزَغَل والقَذَر التي تُلوّثها، كأنما الثورة لم تلد بعد. وإن هي وُلدت قبل عام، مع سقوط الفرعون الأخير.. بانتظار مستقبلها الأهم والأعظم من ماضيها؟