لو لم تنسف الثورة أعلى قمة في تاريخ الطغيان العربي، لو لم تُطِحْ بالرمز الأعلى والأظلم لسلالة الفرعنة المعاصرة، لو لم تُسقط الثورة أقوى أجهزة القمع الأعلى تقنيةً وتدريبا وأمركةً كولونيالية، لو لم تحل الثورة أخطر شركة/شبكة للفساد المافيوزي المنظم، لو لم تفعل كل هذا في مصر المحروسة، لقلنا إنها (الثورة) ليست سوى حلقة ذكية جديدة في مسلسل الاستخدام الغربي التقليدي للسياسة المضادة المحلية كأخطر إدارة إجهاض للنهضة التاريخية. نسمح لذاتنا، إذن، بالقول إن الثورة العربية كسرت جبل الجليد في قمته. صار لها إنجازٌ مادي في جسد الواقع المتخشب، نتكلم عنه بصيغة الراهن الموجود. هذا هو الحدث الاستثنائي الفريد الذي ينتظره منطق النهضة، لكي يرقى به إلى مستوى المنعطف التاريخي الذي يعيد ترتيب الوقائع والمفاهيم القادمة، بما سوف يختلف جذريا عن ماضي الواقع الذي سبقه. لم يعد الكلام عن الثورة محتاجا إلى أية براهين إيديولوجية أو طوباوية لإنباتها أو لإنكارها، فإنها تمتلك إنجازها قبل أن تدّعي امتلاكها لنتائجها. بين عشية وضحاها، أصبح العالم العربي مُدارا بحراك لم يعرفه منذ عقود عديدة، منذ تحقق أول وحدة عربية بين مصر وسورية (1958). هذا الحدث أطلق المرحلة الأخيرة من تحرر أقطار العرب مشرقا ومغربا من الاحتلال الأوربي الذي ساد معظم سنوات القرن العشرين، وما قبله، خاصة بالنسبة إلى بعض أقطار المغرب، فإعلان الوحدة بلسان جمال عبد الناصر من شرفة قصر الضيافة في دمشق، فهمتْه جماهير العرب في كل مكان على أنه دعوة إلى وحدة كل العرب في دولة «الجمهورية العربية المتحدة»، كانت تلك ثورة قومية، غاضبة على خارطة الانفصال القائمة وعازمة على إشادة دولة العرب الواحدة. كان الحدْس الشعبي اللاهب يؤمن آنذاك أن الوحدة هي مفتاح كل السدود المغلقة في وجه الحقوق الإنسانية الأولية المنشودة للفرد، كما للجماعة، وأن استرداد هذه الحقوق يتطلب تكوين الأمة القادرة، بدْءا من تجاوز واقع البعثرة لمكوناتها البشرية والجغرافية. لكن الغرب، بشطريْه المتخاصميْن آنذاك، الغربي الرأسمالي والسوفياتي الاشتراكي، اتفق، بشطريْه هذين، على ضرورة منع الوحدة العربية، انطلاقا من قتل نواتها الأولى في دولة «الجمهورية العربية المتحدة». منذ ذلك الوقت، ترسّخت أُسس السياسة الجديدة القديمة لذلك الغرب تجاه حاضر العرب ومستقبلهم، تحت مبدأ كلي واحد، وهو أن استمرار المصالح الغربية، مع الصهيونية طبعا، في هذه المنطقة من العالم التي يسكنها العرب والإسلام، مرهون بتذرية كل «جمهرة» لهؤلاء السكان. فالمسألة تتعدى خارطة الفصل الجغرافي بين قطاعات هؤلاء السكان إلى ضرورة احتباس مجاميع السكان في قماقم من مختلف أشكالِ أمراضِ التكوين الاجتماعي والمدني، ذلك أن إلغاء الوحدة من مستقبل هؤلاء (السكان) سوف يقلب حياتهم اليومية والجماعية إلى عكس أبسط أهدافها الطبيعية، وهكذا ابتنى الغرب استراتيجيته حيال النهضة العربية، القادمة ما بعد جلاء جيوشه عن جغرافيتها، على هذا المبدأ وهو: العمل دائما على حرمان هذه النهضة، الآتية حتما، من وحدة فعاليتها البشرية والمجتمعية الهائلة التي ستوفرها لها عودة أمة عربية عريقة إلى ممارسة دورها الحضاري، فيما لو تمكنت من تحويل الاستقلال الوطني الصوري إلى استقلال قومي شامل. فكان الجلاء العسكري الأوربي عن خارطة العرب مشروطا باستمرار المسافات الجغرافية المتباعدة بين عواصم العرب، حاكمة فعلية في إنتاج وإعادة إنتاج لمختلف عوامل التفاصل الثانوية أو التمايز الثقافوي، بين هذه البقع شبه الحضارية المتناثرة من أقاصي مشرق صحراوي إلى أقاصي مغرب، شبْه متغرّب. إن حرمان النهضة من مكونها المحوري، وهو الإنسان الحرّ، أصاب مشاريعها جميعها، وبدءا من مشروعها السياسي، بالعُقْم الفطري. خارطة الانفصال الجغرافي أنتجت عالم الدول العربية الناشئة، المغلقة على شعوبها والمتنافسة المتصارعة ما بين قُمَمِها الحاكمة، ضدا على حريات مجتمعاتها وأفرادها. فقد اصطدمت نهضة الاستقلال سريعا بمختلف أصناف الحواجز، المتفرّعة كلها عن الحجْز القطري الذي يزداد تحجرا وتصلبا، كلما انهار جسر وآخر امتد آنيا بين قطر وآخر. فكان من المحال على الجغرافية الانفصالية أن تنتج دولا حقيقية، بل تنشئ، بحكم الضرورة، مجرد قلاع أمنية متعسكرة. فالسلطة في كل قلعة لن تكون إلا من نوع كيان القلعة، أي أنها تفرز من شعوبها من هم الأشرس من أفرادها، لتُلقي على عاتقهم مهمة حراسة القلعة. فالديكتاتورية العربية ليست نظاما طارئا.. إنها المركب الطبيعي والمحتوم لكل من بنية الدولة القطرية (القلعة المغلقة)، والمجتمع الصغير المقتطع إجرائيا من المجتمع القومي الأكبر. إنها سلطة فئة أقلوية حاكمة متحكّمة في بقية مجتمعها الذي يصير كذلك مجرد مجموع أقلويات أهلوية. هذا النموذج السلطاني الدولاني المجتزأ سوف يسود خارطة المشرق العربي، خاص في أقاليمه الثلاثة: الشام، العراق، الجزيرة العربية.. إلى أبعد مدى ممكن. إذن، لا يمكن للدولة القطرية أن تَحكم إلا بطريقة رأسية عمودية، بسبب من طبيعة مهمتها الأصلية، كحارسة لأقلية ضد أقليات أخرى، بمعنى أنه أصبح من العبث أن تنتقل السلطة الأقلوية، وتنقل معها مجتمعها، إلى الحالة المدنية، إن لم يُعَدْ تكوينُ نموذج الدولة، من كونها جهازَ قمعٍ واستغلال بِيَد زُمرة الأقلية الممسكة بإدارة البوليس والعسكر والمال، إلى كونها دولةَ المجموع، غير الأقلَّوي، الذي يصير نسيجا أكثريا بفضل هذا التحول الأصعب وحده. فقد شكلت ضرورةُ هذا التحول حاجزَ التحدي الأكبر «الذي انكسرت دونَه أعظم انتفاضات/انقلابات النصف الثاني من القرن الماضي. وكان اللاعب الأساسي، وشبه المستديم تقريبا، وراء مسلسل الانتفاضات، الرأسية دائما إلا نادرا، هو تلك الزُمَر القليلة المتناوبة على ادّعاء اسم حزب (البعث) والالتزام بمبادئه، فأصبح هو الممثل الأول، إسميا فقط، الحاضر الغائب، في أخطر مسرحيات الشرق الدامية الرهيبة، إلا أنه لم يكن (هو) الحزب نفسه، هو المؤلف والمخرج، إلا في بعض الفصول المبدئية المنسية. الأشخاص، الزُمَر، الشراذم، حتى لا نقول الأمم والشعوب والمجتمعات. المفردات الأوائل هؤلاء هم الفاعلون، وكانت لهم صولاتهم وجولاتهم التي كتبت وقائع هزائم السياسات المبدئية، التي طالما حركت جماهير العرب في الأوقات الفاصلة. لكنها ما لبثت أن تراجعت وراء حيطان بيوتها، عندما لم تتبق للحكام الأخيرين، بعد التصفيات المتوالية للقادة التاريخيين، من الإنجازات (العامة) سوى تكديس السرقات الفلكية في المصارف الأجنبية بداية، ثم في أكياس الأقبية الحديدية في قصورهم الشامخة القبيحة. فليست أسباب الهزائم والديكتاتوريات الإباحية كامنة في أحزاب أو عقائد أو أفكار أو أية استراتيجيات. ههنا، العلّة أبسط من كل هذه التعقيدات اللفظوية. هنالك نوازع الشخصية الفردية للإنسان التي تتيح لها بعض الظروف الطارئة اللاعقلانية أن تمسك ببعض زمام الأمور العامة. هنالك بضعة أسماء قليلة لا تنساها الذاكرة بسهولة، استولت على حجوم بلاد كبيرة وصغيرة من عالمنا العربي المضطرب، وارتكبت ما حَلا لها من موبقات السياسة والمال والأخلاق. انْهار بعضها منذ افتتاحية الثورة الشبابية، ومازال الآخرون يمارسون أبشع وسائلهم القذرة المعهودة التي أوصلتهم إلى السلطة وحفظت لهم السيطرة عليها عقودا عديدة مظلمة، ولكنها لم تعد تنفعهم في أيام الزوال والانْهيار الأخيرة الراهنة. مقدرات العرب تلاعبت بمصائرها المحزنة إراداتُ القوى الأجنبية والعدوة، هذا صحيح، ولكن الإرادات (الوطنية) والمحلية لرموز الصراعات المستفرسة على ولائم القمم ظاهرا أو باطنا، لم تكن شهواتُها أقلَّ دناءةً وخطرا من العبث الأجنبي بالشأن النهضوي العربي. فليست الأحزاب ولا أفكارها الكبيرة ولا سيراتها (النضالية)، سابقا ولاحقا، كانت لها القوة الفاعلة في حسم المنعطفات الفاصلة. فالصراع على السلطة كان هو المحرك الأقوى للأفراد والزمر. لم تكن الجماعات، بأسمائها الشمولية، هي الفاعلة. كان هنالك الوكلاء الحصريون الناطقون بلسانها، في غفلة منها، ثم في تبعية آلية للمنتصر باسمها، ثم ثالثا: ينتابها ذلك الغضب المقدس الذي سيدعي أنه صوت الحرية والكرامة. وهنا في هذه المرحلة ليست ثمة ضمانات واضحة قد تحمي هذه الولادةَ الجديدة للثورة العربية، أولا من شياطينها الدفينة، في الكثير من خلاياها، فالربيع مثلما يُنبت الأزهار يُنبت أشواكها معها. لكن هذه الحياة الجديدة هي التي سوف تفرض موسمها على الضار والنافع من حصادها. هذه هي قوة الثورة الحقيقية التي تغير المجتمعات والتاريخ. ولعل العرب لم يعرفوا في ثورتهم، المنطلقة منذ قرن ونيف، إلا وجوهَها الملتبسة. فكان حصاد الهزائم والنكسات وحتى الكوارث لا يشوّه معالم الثورة فحسب، بل يدفع إلى الكفر برموزها وشعاراتها. ومع ذلك، فالثورة لا تغيب إلا لتعاود فُجاءتها. ومرة أخرى، يتجدد الإيمان بها وتتحرك الجماهير وراء دعواتها، لعلها لن تكرر خيباتها إلا إذا تكررت أخطاء بعض المتنطعين لقيادتها. فَلْتَبْقَ عيونُ الجماهير مفتوحة جيدا على (الشخص) على (الإنسان)، ما سوف تفعله يداه، وليس ما يقوله لسانه فقط. سُرَّاق الثورات أخطر من ألَدّ أعدائها، ولم تمت وتُقبر انتفاضات ثورتنا العربية من بداية تاريخها حتى اليوم، إلا تحت معاول أشخاص، زمر، شراذم، يمكن تصنيفهم في خانة سُرَّاق الثورات وقاتليها. رموز هؤلاء يقتلون شعوبهم في شوارع أقطارنا الناهضة قبل أن يرحلوا إلى المنافي، إلى القبور، إلى السجون. من يقول إنه لن يأتي بعد هؤلاء ثمة وَرَثَةٌ من سلالتهم، لكن الثورة ماضية جولةً بعد جولة غنائمُها العظيمة هذه المرة هي جماهيرها، أما لصوص السلطات فلن يستطيعوا سَرقة جماهير غاضبة برمتها، حيثما تولد السلطة الأحق، الصانعة وحدَها للتاريخ وحُماته معه..