أصدر الكاتب والصحافي الفرنسي الشهير، جون فرانسوا كان، أخيرا، كتابا عن الكذب والكذابين في السياسة اختار له عنوان: «الكذابون». رصد كان في هذا المؤلف، الذي أثار فور طرحه في المكتبات جدلا كبيرا في فرنسا، حالات واقعية لكذب مكشوف من قبل الساسة. كيف يحولون الفشل إلى نجاح ويراكمون النجاحات تلو الأخرى، اعتمادا على الكذب. وفي ما يلي ورقة أعدها الكاتب عن كتابه. إخفاقات تحولت بمكر إلى نجاحات خارقة في يعض الأحيان؟ خلافات تصير توافقات بمنطق السياسة؟ معدلات قياسية في عجز الموازنة تصبح جرأة وشجاعة من الساسة لإقرار سياسات صارمة ذات طابع تقشفي من أجل الإنقاذ؟ تماما مثلما حدث في «مخطط الإنقاذ الخاص بقطاع الشغل». أكثر من ذلك، يتحدث الساسة عن تحويل جزء من أرباح كانت تحصل عليها المقاولات، في وقت سابق، إلى مبالغ موفرة في جيوب المستهلكين، ولا يقل ذلك مكرا عن إضفاء طابع اجتماعي على الضريبة على القيمة المضافة، لتصير «الضريبة على القيمة المضافة الاجتماعية». يا له من تعذيب. يمتاز السياسيون أيضا بقدرة فائقة على تغيير جلودهم. ألم يصف فرانسوا هولاند، المرشح الاشتراكي للانتخابات الرئاسية الفرنسية، منافسه ساركوزي، ذات يوم، ب«الشخص الوقح». تنضاف إلى ذلك كذبة لم ينتبه إليها كثيرون، وتتمثل في إثارة إمكانية التحاق النجم الإنجليزي لكرة القدم، دفيد بيكهام، بفريق باريس سان جيرمان الفرنسي. أحلام كثيرة تبخرت، وفي كل مرة يلجأ السياسيون إلى الحيلة نفسها من أجل إعادة التحكم في الأمر: «الإعلان عن مخطط جديد لاستدراك ما فات» وماذا بعد؟ كتبت أيضا هذا الكتاب في وقت كانت عبارات غير واضحة تتردد في المناقشات السياسية، من قبيل أن عدم تعويض موظف يغادر وظيفته، سواء بصفة نهائية أو في اتجاه منصب آخر، بموظفين اثنين على الأقل، من شأنه أن يسقطنا في البيروقراطية وتكون له تأثيرات أكيدة على عدم تحقيق النتائج الاقتصادية المتوقعة. وعلى هذا الأساس، تلجأ المؤسسات المعنية بهذا النقص إلى إبرام عقد عمل مؤقتة أو مطالبة أجرائها بزيادة ساعات عملهم. فما نسبة ما تحقق من مجموع ما تم التخطيط لإنجازه؟ ولماذا لا يتم إلغاء بعض الضرائب من أجل إنعاش بعض القطاعات؟ الرؤساء يكذبون كان الجنرال شارل ديغول قد اتخذ قرارا حاسما يقضي بإخراج فرنسا من القيادة الموحدة لحلف الشمال الأطلسي. وبعد مدة، عدنا حيث كنا، كأن قرار القطع مع هذه القيادة لم يصدر يوما. عمل الرئيسان فاليري جيسكار ديستان وفرانسوا ميتران على انتزاع قطاع السمعي البصري العمومي من قبضة السياسي، ثم عاد السياسيون بعدها إلى التحكم في تعيين مسؤولين في هذا القطاع، بل وتملكوا سلطة إعفاء وإقالة مسؤولين آخرين. وإذا كانت قرارات القطع مع التدخل في المشهد السمعي البصري صدرت عن رئاسة الدولة في عهد الرئيسين سالفي الذكر، فإن رئاسة الجمهورية نفسها عادت لتبسط سيطرتها على القطاع. وإذ كان غاستون ديفير، ومعه جون بيير رافاران، قد عملا في وقت سابق على دعم اللامركزية ومنح جزء من صلاحيات الإدارة المركزية لمصالحها الجهوية، فإننا اليوم أدرنا ظهورنا للجهوية وولينا صوب تركيز القرارات لنعيد للمركز سطوة ظنناها ولت على الجهة. رفع اليمين، في فترات مضت، شعار الدفاع عن المقاولات الصغرى والمتوسطة، حتى إنه أقر إجراءات تروم حماية هذا النوع من الأنشطة الاقتصادية من بطش الرأسمالية الجديدة، وجعل المحلات التجارية الصغرى في مأمن من أن تبتلعها المراكز التجارية الكبرى. أقدمنا أيضا على وضع حد لما يسمى «شرطة القرب»، بدل أن نعمل على إعادة النظر فيما استشكل فيها وتقويم أخطائها، ولا سيما أنها حققت نجاحا لا يمكن إغفاله في مجال محاربة الانحراف. أوشكنا على تعويض قاضي التحقيق المتمتع بالاستقلالية بوكيل نيابة تابع بشكل كلي لوزارة العدل، وهذا يعني أننا كنا قاب قوسين من إدخال القضاء إلى دائرة تأثير السياسة. أقدمنا أيضا على خطوات مثيرة إلى الوراء. أثرنا النقاش حول جدوى اتخاذ الأحد يوم عطلة، وأعدنا خوصصة شركات في قطاع الاتصالات وعملنا على الحد من تنامي الضرائب المباشرة، وشجعنا، من حيث لا ندري، الارتقاء الأورليغارشي في هرم السلطة، وقلصنا المدة الزمنية المخصصة للمناقشات العمومية في البرلمان، وسرنا في اتجاه تقوية صلاحيات رئيس الدولة، كأننا نتجه نحو إقرار «نظام ملكي». إنها قرارات أرجعت فرنسا إلى الوراء. فكيف يمكن تفسير هذه الإجراءات التي يجوز أن نطلق عليها اسم «الإصلاحات المضادة»؟ نفي الحقائق يحق لنا أن نطرح بعد كل ما قيل السؤال التالي: أين الصدق في كلام الساسة؟ لكم أن تستنتجوا هذا بأنفسكم، من خلال هذه التصريحات التالية، التي أدلى بها الرئيس ساركوزي في مناسبات مختلفة: لن يكون هناك أي إجراء يقضي بتخفيض عدد مناصب الشغل لدى شركة «أفيرا». أؤكد لكم أن مصنع «غرانرانج» لن يقفل. ألتزم أمامكم بذلك. مارتين أوبري تتمنى بكل جوارحها أن يظفر فرانسوا هولاند برئاسة فرنسا. العمل التطوعي يصنع الرجال الحقيقيين. مصير مشروع الدستور الأوربي بين أيديكم، إن أردتم تبنيتموه، وإن شئتم أطحتم به عبر آلية الاستفتاء. لن يكون هناك مخطط بديل، على الأقل، إلى يوم تجتمع فيه القيادة الأوربية وتتدارس مسودة مشروع جديد. أنا ساركوزي، رئيس الجمهورية، وقد صوتت لصالح تحديد سن التقاعد في الستين. لقد شاركت في هدم جدار برلين. وقد أعيد بناء الرأسمالية على قواعد جديدة وأسس متينة، على نحو يجعل شكلها الجديد يقضي على المساوئ التي نتجت عنها في أوقات خلت. لماذا سنسحب جنودا من أفغانستان قبل الموعد المحدد لذلك، لأننا بكل بساطة ربحنا الحرب. دومنيك ستراوس كان هو الاقتصادي الكبير في صفوف اليسار، الذي لم تتعامل معه مارتين أوبري قط. الرئيس لا يخوض حملة انتخابية، وإنما ينشغل في الوقت الراهن بحل المشاكل الناجمة عن الأزمة. لم يسبق لفرنسا أن شهدت هذا الكم من الإصلاحات. فقدان القيادة سيكون بمثابة الطوفان؛ خسارة القيادة لن تكون كارثة. تعتبر البيئة طريقة مختلفة وأسلوبا جديدا لممارسة السياسة، شريطة أن يتم منح مقعد برلماني لنائب من الخضر بأساليب قديمة وغير أخلاقية. يمكن أن أبشركم بأنه، وبفضل السياسة التي انتهجناها، سيأخذ مؤشر البطالة في الأيام المقبلة في الانخفاض. التبشير بإمكانية السماح للمهاجرين بالمشاركة في الانتخابات سيكون مجازفة، والوقوف ضد هذا التوجه أمر غير منطقي. وإذا طرحنا السؤال السابق، سنجيب دون عناء بما يلي: «لا مكان للصدق في كلام الساسة». وماذا عن الأزمة؟ نتقدم قليلا في النقاش ونثير قضية الأزمة. الجواب يكون دائما كالتالي: نحن في أحسن حال. على الأقل، أفضل من غيرنا. الأزمة صارت وراء ظهورن وجزءا من ماضينا. بفضل معدل النمو الهام الذي حققناها، صار مؤشر البطالة قريبا من استئناف تراجعه، بعد أن سجل ارتفاعا في ظل الأزمة. لقد خرجت فرنسا من الأزمة أكثر قوة مقارنة مع أحوال شركائنا، بما في ذلك بعض الدول الأوربية الكبرى. تقارير الدولة منحت أيضا لساركوزي هدية ملغومة تتمثل في أرقام تفيد بأن الاقتصاد الفرنسي بات على وشك استعادة عافيته وتجاوز مخلفات الأزمة واستئناف تسجيل نتائج إيجابية على صعيد جميع المؤشرات، بما في ذلك معدل النمو. وعلى هذا الأساس، ينتظر الآن أن نخفض عجز الميزانية إلى 3 في المائة فقط من الناتج الداخلي الخام بحلول سنة 2013، ولبلوغ هذا الهدف، يتوجب علينا انتهاج سياسة صارمة، أو بالأحرى سياسة تقشفية. محظوظون، إذن، مواطنو هذا البلد، الذين تمكنوا بفضل 5 سنوات من الإصلاحات الكبرى من تحسين قدراتهم الشرائية في أوجه الأزمة الاقتصادية والمالية. «محظوظون» أيضا لأن مؤشرات الانحراف آخذة في الانخفاض، وحالات انعدام الأمن تتراجع أيضا، والأسعار أيضا مستقرة، وسلطات البرلمان تتوسع. فهل يحدث هذا في فرنسا؟ كل هذه الأقوال لا أساس لها من الصحة. فكيف يمكن تأكيد هذا الأمر؟ حقيقة الأزمة ما هي انعكاسات الأزمة؟ سؤال غالبا ما تتم الإجابة عنه من قبل ساركوزي بسؤال آخر: «أية أزمة». وكثيرا ما يضيف إلى هذا السؤال عبارة أقرب ما تكون إلى اعتراف ضمني بوجود الأزمة، حيث يردف قائلا: «لقد صارت وراء ظهورنا». فما هي السمات الأساسية للوضعية الاقتصادية الراهنة للجمهورية الفرنسية؟ لقد فتر النمو الاقتصادي، وصارت فرنسا تسجل، على غير عادتها، معدلات نمو مخيبة للآمال. مؤشر البطالة يواصل ارتفاعه، وهو الآن يقترب من دائرة الخطر. عائدات الضريبة المباشرة لم تعد كافية سوى لتغطية أقساط مديونية لا تكف عن التضخم، وليست أمامنا خيارات أخرى لتمويل هذه المديونية. ومن أجل إطفاء نار الغضب، التي يمكن أن تشعلها هذه الأوضاع المقلقة، بادرت حكومة ساركوزي إلى إغراق السوق بالسيولة المالية، ولا أحد فكر، على ما يبدو، في الأساليب الكفيلة بمواجهة الانعكاسات السلبية التي ستنجم لا محالة عن إغراق السوق المالية بالسيولة النقدية. أما «تسونامي» المديونية العمومية، فلا زلنا ننتظر ما ستخلص إليه القمم الأوربية المتعاقبة حول هذا الموضوع. ولا يبدو أن القادة الأوربيين سيفلحون قريبا في إيجاد حل نهائي لهذه المعضلة. وبخصوص عجز الميزانية، لا يتوقع، في ظل الأرقام المعلن عنها في أكثر من مؤشر اقتصادي، أن ينجح ساركوزي في كسب رهان تخفيضه إلى 3 في المائة من إجمالي الناتج الداخلي الخام، في حالة أبقته الانتخابات الرئاسية المقبلة في رئاسة الجمهورية بطبيعة الحال. أكثر من ذلك، ستكون المؤسسات الدولية مدعوة إلى إعادة النظر في توقعاتها الخاصة بالاقتصاد الفرنسي في السنة الجارية. ختاما، أؤكد أني لم أهدف في هذا الكتاب إلى رصد جميع الحالات التي باع فيها الساسة في فرنسا الوهم للرأي العام، وإنما رمت إثارة الانتباه إلى حالات تناقض صارخة في خطاب بعض السياسيين، حتى نميز الوعود الحقة من الأوهام. غير أنه يلاحظ أن الكذب في السياسة لا يتخذ شكلا واحدا، وإنما يتلون حسب السياسي وخصوصيات الظرفية التي تولى فيها تدبير شؤون البلاد. وعموما، غالبا ما تنطوي الصراعات السياسية على أوجه خفية. تماما مثل العملة الواحدة، يظهر منها وجه واحد فقط. وهذا كاف لتبين حقيقتها. غير أن وجهي الصراعات السياسية كلاهما ينطويان على كذب. إذا قيل مثلا: «من أجل فرنسا»، فاعلموا أن الوجه الثاني للخطاب، أي الوجه الثاني للعملة، هو «ضد الشعب». وإذا قيل «لننقد الأمل»، فأيقنوا أن الكلام يعني في وجهه الآخر: «لنسحق الوطنيين». وإذا رفع شعار «سياسة صارمة وشجاعة ومنصفة»، فاستعدوا ل«سياسة تقشف غير عادلة وغير قابلة للتطبيق». وهذا غيض من فيض، كذب شائع في خطاب السياسيين، الذين يعرفون كيف «يلعبون» بالكلمات، لينتجوا لكل ظرف خطابه، يضمن لهم بلوغ أهدافهم السياسوية. عن مجلة «ماريان»
ثلاثة رؤساء.. ثلاث كذبات وأحلام تتبخر كشفت جريدة «لوكنار أونشيني»، في عددها الصادر في 10 أكتوبر 1979، غداة سقوط الديكتاتور الإفريقي، أن هذا الأخير كان قد منح فاليري جيسكار ديستان ولم يصبح بعد رئيسا للجمهورية. وكان وقتها وزيرا للمالية، 30 قطعة من الماس قدرت قيمتها بنحو مليون فرنك فرنسي. وبعد شهر، خرج جيسكار ديستان بتصريح تلفزيوني قال فيه: «قبل أن تنتهي ولايتي، سأعمل على منح مجموع الهدايا التي منحت لي أثناء مزاولتي مهامي الوزارية للمتاحف، وقد أبذل بعضها لفائدة الأعمال الخيرية». فهل فعل ذلك؟ في سنة 1995، وعد جاك شيراك، الرئيس السابق، كذلك الفرنسيين بوعود كثيرة لا يتسع المجال لذكرها. لكن سرعان ما تبخرت وانقلبت وبالا على علاقة شيراك بالفرنسيين. وفي سنة 2011، أبدى الرئيس الحالي نيكولا ساركوزي تفهما كبيرا لمطالب أعضاء الحزب الأخضر الفرنسي حول الأنشطة النووية الفرنسية. ساركوزي ذهب أبعد من ذلك، وبدا مؤمنا بمبدأ المحافظة على البيئة، حتى إنه قال في مبالغة صارخة «الفرنسيون يستنيرون بضوء الشمعة». غير أن هذا الحماس سرعان ما فتر ولم يعد ساركوزي يلقي بالا لهذا الملف، بدعوى تكلفته على مستوى فقدان مناصب الشغل. أرقام تتحدث عن إمكانية خسارة مليون منصب شغل إذا تم تنفيذ ما يدعو إليه الخُضْر الفرنسيون.