لم يولدوا رؤساء. ولكنهم استطاعوا أن يجتازوا بنجاح كل المراحل ويتربعوا على عرش فرنسا. تعاقب على الجمهورية الفرنسية حتى الآن ستة رؤساء، بعضهم كان يحلم منذ صغره بأن يكون رئيسا للبلاد ومنهم من خطط مبكرا لتحقيق هذا الحلم وتمرن على «الرئاسة»، ومنهم من لم يحلم قط، لكن تنشئته وتكوينه أوصلاه إلى قصر الإليزي. أي علاقة بين شارل دوغول ونيكولا ساركوزي؟ وأي صلة بين فرانسوا ميتران، ابن سانتونج، الناشئ في كنف ثقافة عمادها الدين والأمة، وجورج بامبيدو، الاشتراكي اللائكي؟ أي قواسم مشتركة بين جيسكار ديستان، الذي كان جده وزيرا، وجاك شيراك، القادم من خارج دائرة السلطة إلى مركزها؟ الطموح هو القاسم المشترك بين كل هؤلاء. غير أن هذه الخصلة لم تبرز لدى هؤلاء جميعهم في السن ذاتها ولا بالطريقة نفسها، ولم تقف وراءها أسباب موحدة. كان التلميذ شارل دوغول أكمل بالكاد عامه الخامس عشر حين كتب مقالة عن «الحملة الألمانية»، وكان حينها القيصر الألماني غيوم الثاني يقوم بزيارة إلى مدينة طنجة المغربية، تنبأ فيها بأن حربا ضروسا ستجتاح القارة العجوز بحلول سنة 1930. عين الجنرال دوغول قائدا على 200 ألف رجل ونحو 500 مدفع. بسرعة البرق، أعد الجنرال الشاب خطة للتحرك، فقد كان يعلم هدفه جيدا ولم تكن الوسيلة تعوزه: إنقاذ مدينة نانسي، والتصدي للألمان لأن اجتياحه لفرنسا سيكون طاعونا ووبالا على الأمة. أكثر من ذلك، كان دوغول يعلم يقينا أنه يلعب الورقة الأخيرة للقارة الأوربية كلها في حربها ضد الألمان، وكان يدري تمام الدراية أيضا بأن أعين الأوربيين في تلك اللحظة كلها موجهة صوب مدينة ميتز، ففي ذلك المكان، سيبدأ حسم المعركة». أصبح دوغول، فعليا، جنرالا، ولم تتجاوز بعد سنه ال 15 ربيعا. وكانت لافتة قيادته لقوات النجدة التي تعبأت لإنقاذ الأمة الفرنسية من قبضة الألمان. وهذه أولى خطوات رجل ستبلغ شهرته الآفاق وسيأخذ بقلوب الفرنسيين بعد ذلك 35 سنة، حين وقف للهجوم النازي على فرنسا بالمرصاد. وفي المقابل، كان فرانسوا ميتران في سن الثالثة عشرة حريصا على الانعزال بعيدا عن الناس. كان ينزوي لوحده في ركن قصي بمنزل جده بمدينة توفون، وكانت محاكاة أسلوب الثوار في إلقاء الخطب لعبته المفضلة. يلقي لوحده، أمام أعين جماهير ربما كان يتخيلها، نصوصا شهيرة نقلت عن ثوار فرنسيين خلدوا أسماءهم في التاريخ الفرنسي. أبدى ميتران يومها عشقا ملفتا لنصوص ثوار عاشوا بين سنتي 1789 و1848، وهي الفترة التي كانت فيها فرنسا تعيش على إيقاعات الثورة. «من ركني القصي، ألقي خطبي وأعيد إلقاء نصوص تاريخية، ولم أكن أتردد في تغييرها وإدخال تعديلات عليها حسب مرجعياتي. أتقمص دور خطيب مفوه. وسرعان ما انتقلت إلى تأليف الخطب. كنت أبسط سيطرتي على العالم، وإن كنت أجهله. ومن هنا، تولدت لدي رغبة في الاسكتشاف تحولت في مرحلة لاحقة إلى إرادة في السيطرة» يقول فرانسوا ميتران، الذي أكد في أكثر من مناسبة أن حدسه كان ينبئه بأنه سيخلد اسمه في تاريخ فرنسا. في السن ذاتها، كان فاليري جيسكار ديستان يتابع دراسته في ثانوية جونسوة دو سايلي، وفاجأ أخته سيلفي ذات يوم بالاعتراف التالي: «عندما يكون الشخص رئيسا أو كاتبا كبيرا أو جنرالا، فإنه يتولى شؤون بلاده». ويبدو أن الحديث عن الرئاسة من قبل شخص تنتمي أسرته الصغيرة إلى النخبة الفرنسية كان بمثابة تمرين أولي على تولي مسؤوليات كبرى. وقد تحدث صديق فاليري في مرحلة الطفولة عن هذه المسؤوليات التي كان تحملها صديقه في رسالة بعث بها إلى خطيبته جاء فيها: «سيكون فاليري وزيرا في سن الثلاثين ورئيسا في الخمسين». صدقت نبوءة الصديق مع تعديل بسيط في سنوات تحققها. وعكس فاليري، كان الطفل نيكولا ساركوزي لا يجد أي نقص في التعبير عن رغبته الجامحة في أن يكون رئيسا للبلاد ذات يوم. يقول إنه حلم بهذا الأمر قبل أن يبلغ الحُلُم، في وقت كان الأطفال يحلمون بأن يكونوا إطفائيين أو لاعبي كرة القدم. وقد عبر ساركوزي عن هذه الطموحات بوضوح في سنة 1975، حين اعتلى منصة في أوج الحملة الممهدة للانتخابات الرئاسية بفرنسا، وأعلنها مدوية على مسامع مناضلي حزبه: «أمارس السياسة لأني أريد أن أبلغ أعلى الدرجات وأتقلد أرقى المسؤوليات». في السنة ذاتها، لم يتردد نيكولا في التعبير لرفاق عن عزمه الدخول إلى قصر الإليزي، ولا زال بضع هؤلاء الأصدقاء يتذكر الثقة التي نطق بها نيكولا العبارة التالية أمام اندهاش الجميع: «ذات يوم، سأصبح بكل تأكيد رئيسا للجمهورية». وبخلاف فاليري جيسكار ديستان لم يكن ساركوزي يستمد دوافع حلمه برئاسة الجمهورية من التاريخ، تاريخ الثوار، ولم يكن يحرص على اعتبار نفسه أمل فرنسا، بل إنه كان يؤكد بكل بساطة رغبته في إعادة الاعتبار لنفسه بعد الإذلال الذي عانى منه في طفولته. خطوة ساركوزي الأولى ذات سبت من مارس 1974، دلف نيكولا ساركوزي إلى مقر «اتحاد الديمقراطيين من أجل الجمهورية»، وكان يقع في زقاق هادئ بمدينة نولي. وجد الشاب نيكولا، وكان يبلغ حينها 19 سنة، المقر شبه مهجور. لم يكن في المقر وقتها سوى شخصين، هما رئيس الفرع المحلي للاتحاد وأحد المناضلين. كانت علامات الدهشة بادية على محياهما، لأنهما لم يألفا أن يفد عليهما شاب بكل عفوية دون أن توجه إليه دعوة للالتحاق أو يبذل مجهود لاستقطابه لصفوف الحزب. بعد أيام قليلة من هذا الحدث، وتحديدا في 2 أبريل الموالي، أنعي جورج بامبيدو للشعب الفرنسي. وما لبث الشاب ساركوزي، حديث الالتحاق بالحزب أن سجل حضورا قويا ولافتا للانتباه ومثيرا للدهشة في حملة الانتخابات الرئاسية بعد التحاقه بالعمل السياسي. كان نيكولا الأكثر توزيعا للمناشير، وخطف نشاطه الأضواء بمدينة نولي، غير أن مرشحه المفضل، جاك شابان دالماس، انهزم أمام جيسكار ديتسان، الذي تم تنصيبه رسميا رئيسا للجمهورية الخامسة. كان بديهيا أن يتلقى ساركوزي بعد نشاطه الكبير في تلك الانتخابات الرئاسية دعوات من أحزاب أخرى للانضمام إليها. وفي هذا السياق، وجه زعيم شباب حزب ديستان الدعوة لساركوزي من أجل الالتحاق بحزب الرئيس. غير أن الشاب ساركوزي رد قائلا: «جيسكار؟ لا يدخل في خانة السياسيين المفضلين عندي. أحبذ العمل الشعبي، الفرنسي الخالص، الدوغولي». وسرعان ما أصبح نيكولا ساركوزي شخصية وازنة في الفرع المحلي لاتحاد الديمقراطيين من أجل الجمهورية بمدينة نولي. ينظف المقر إذا اتسخ. يتولى بنفسه طلاء جدرانه إذا شحبت وبهتت. وبسرعة البرق، أصبح «الكل في الكل» في المقر. ينظم الاجتماعات، يؤطرها، يوجهها كيفما يشاء. كان ساركوزي يشتغل بنشاط ويتابع بذكاء آخر مستجدات حزبه، كيف لا يفعل ذلك، وقد وضع مفاتيح الإليزي نصب عينيه، وكان يملك مقدرة كبيرة على التكيف مع أي مستجد. فعلى سبيل المثال، لم يتردد في وصف جاك شيراك بخائن الحزب المتواطئ مع الاشتراكيين، لكنه تحول بسرعة البرق إلى مناصر لشيراك، غريم الأمس، بمجرد أن أحكم جاك شيراك قبضته على مفاتيح الإليزي. بعد ثلاث سنوات من التحاقه بالحزب، ترشح ساركوزي في الانتخابات البلدية وأصبح مستشارا ببلدية نولي. في تلك الأيام تلقى الشاب ساركوزي دفعة معنوية قوية من غريمه بالأمس جاك شيراك. ففي الوقت الذي نظم ساركوزي مهرجانا خطابيا استقطب 25 ألف شاب، وظل يهتف بأعلى صوته «شيراك رئيسا»، لم يتردد شيراك في الاعتراف بأن الشاب المفعم نشاطا وحيوية يمكنه أيضا أن يصبح ذات يوم رئيسا للجمهورية. وجه شيراك عينيه إلى ساركوزي وقال: «سأعينك وزيرا ذات يوم». تنشئة دينية على غرار دوغول وميتران، نشأ فرانسوا هولاند في مؤسسة دينية، وهي «سان جون بابتيست دولاسال»، بمدينة روون. قضى في هذه المدرسة سنوات عديدة من مرحلة الحضانة، ثم الروض، وفيها بقي إلى حدود السنة الثالثة من التعليم الابتدائي. وكثيرا ما أثنى مربوه ومعلموه على انضباطه ومواظبته على أداء الصلوات وحضور مختلف الطقوس الدينية. غير أن هذه التنشئة الدينية لم تخلف أثرا ووقعا كبيرا على شخصية هولاند. ويرجع مهتمون بحياة هذا الرئيس، وتحديدا طفولته، هذا الأمر إلى الاختلاف القائم بين أبويه على مستوى المعتقدات الدينية. فقد كان أبوه كاثوليكيا، وكان يناضل في صفوف اليمين المتطرف، في حين لم تكن أمه تبالي بالطقوس الدينية، وهو ما يعني أن هولاند ولج تلك المدرسة بناء على رغبة أبيه، لكن تأثير أمه عليه كان حاسما في جعله يبدو وكأنه لم يتلق أي تربية أو تنشئة ذات طابع ديني صرف في صغره. واصل هولاند دراسته غير متأثر بالتوجه الديني الذي طبع سنواته الأولى في الفصول الدراسية. كان حريصا على بذل مجهود كبير من أجل الحصول على أعلى الدرجات، غير أنه لم يستطع نيل شهادة الباكلوريا بميزة ممتازة، حيث اكتفى تماما، مثل شيراك نفسه بميزة مستحسن. ووحده جيسكار ديستان، من بين جميع الرؤساء المتعاقبين على حكم الجمهورية الفرنسية الخامسة، أفلح في الحصول على الباكلوريا بأفضل من هذه الميزة. وإذا كان الرؤساء: بومبيدو وجيسكار ديستان وميتران طبع الخجل سلوكاتهم في الصبا والشباب، فإن هولاند كان، خلافهم، يتمتع بمقدرة كبيرة على أخذ الكلمة وارتجال المداخلات. في سن السادسة والعشرين، ولج هولاند، الذي يوصف أيضا برجل التوافق، السياسة، ولم يهملها قط، تماما مثل نيكولا ساركوزي، الذي ولج عالم السياسة، وانغمس فيه بشكل كلي حتى صارت السياسة شغله الشاغل. ثمة أيضا علامة أخرى بارزة في المسار السياسي لهولاند. إنها علاقته بسيغولين روايال، التي سبق أن نافست، باسم الحزب الاشتراكي، الرئيس الفرنسي الحالي نيكولا ساركوزي في آخر انتخابات رئاسية على مفاتيح الإليزي. غير أن هذه العلاقات تحولت في لحظة سوء تفاهم إلى مجرد صفحة من ماضي القيادية الاشتراكية. وقد كانت روايال نفسها مرشحة لأن تصبح السيدة الأولى لفرنسا قبل سنوات عديدة من قرارها المنافسة على لقب الرئيسة. طفولة المتناقضات لم ينس فرانسوا بايرو مطلقا كيف كان أبواه يحرصان على أن يطالع جميع أفراد الأسرة كتبا متحلقين على مائدة الطعام. «كان جميع أفراد أسرتي يواظبون على المطالعة متحلقين على المائدة. وجب علي انتظار سنوات طويلة قبل أن أعلم أن هذا الأمر لم يكن شائعا بفرنسا. ورغم ذلك ليس ثمة أقرب إلى قلبي، حين آكل وحدي، من مطالعة كتاب» يقول بايرو. قضى بايرو جزءا كبيرا من طفولته في قرية صغيرة، تدعى بيرن. كان والدا بايرو، كلاكسيت وإيما، يعتبران فلاحين صغيرين، وكانت زراعة الذرة والتبغ نشاطهما المفضل. ويتذكر بايرو هذه المرحلة من حياته قائلا: «كان أبواي «ميسوري الحال». كانا ينشطان أيضا في التجارة، وكنا أول أسرة تتوفر على خط هاتفي في القرية كلها. غير أن أبواي لم يكونا يملكان المساحات التي كانا يتوليان زراعتها. اطلعت على دفتر الحسابات الخاص بوالدي وتبين لي أن رقم معاملات نشاطه الفلاحي كان يصل إلى 9 آلاف و600 فرنك. كان وضعنا الاقتصادي صعبا جدا، وإن كنت وإخوتي الأطفال لم ننتبه إلى ذلك إلا في وقت متأخر». التحق الطفل فرانسوا بالمدرسة، لكنه كان مضطرا للتوفيق بين العمل في الحقل ومراجعة دروسه وإنجاز واجباته المدرسية. مهمة لم يكن إنجازها عسيرا على فرانسوا، الذي زرع فيه أبواه حب المطالعة وعشق الكتاب مبكرا. وقد اعترفت أم فرانسوا، إيما بايرو، قبيل وفاتها، كيف أن ابنها كان يحيطها علما كل أسبوع بتفاصيل الأحداث السياسية التي تستأثر باهتمام الرأي العام وتحظى بالأولوية لدى صناع القرار بالعاصمة باريس. وعكس بعض الرؤساء، ولا سيما ساركوزي، لم يراود بايرو في صغره حلم الدخول إلى الإليزي وترؤس الجمهورية الفرنسية الخامسة. كان بايرو في مرحلة مراهقته يجد صعوبة كبرى في الحديث بطلاقة أمام العموم، ولم يتجاوز هذه المشكلة إلا بعد تلقيه في وقت لاحق دروسا في المسرح أثناء دراسته بالجامعة، وصار بذلك خطيبا مفوها، وهي إحدى الصفات التي عبدت له الطريق من قريته الصغيرة إلى قصر الإليزي بالعاصمة باريس.
بتصرف عن "لانوفيل أوبسيرفاتور"
هؤلاء حكموا الجمهورية الفرنسية الخامسة؟ وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وكان شارل دوغول بطل أبطالها في فرنسا. بات ينظر إليه على أنه منقذ فرنسا من جحيم الحرب ومنجد القارة الأوربية كلها من قبضة النازيين. تشكلت على الأثر، وتحديدا في سنة 1946، الجمهورية الرابعة في فرنسا. غير أنها لم تصمد كثيرا، حيث سرعان ما تهاوت أمام التحديات التي كانت تواجه دولة خرجت من حرب عالمية منهكة القوى. ولم يكن غريبا أن يضطلع دوغول البطل في أعين الفرنسيين وحلفائهم بدور هام في تشكيل جمهورية خامسة بهدف وضع البلاد على سكة التنمية. ولم يكن مفاجئا كذلك أن يكون دوغول نفسه أول رئيس لهذه الجمهورية، حيث تولى مقاليد سلطتها بداية من يناير 1959 إلى غاية استقالته من منصبه في 28 أبريل 1969. بعد أقل من شهرين، سيتسلم جورج بومبيدو مفاتيح قصر الإليزي في 20 يونيو 1969، وظل رئيسا لفرنسا إلى غاية وفاته في 3 أبريل 1974، علما أن الدستور الفرنسي كان حينها يحدد مدة الولاية الرئاسية في 7 سنوات، وهي المدة التي تقلصت في الولاية الثانية للرئيس السابق جاك شيراك إلى خمس سنوات فقط. تعاقب أربعة رؤساء على قصر الإليزي بعد بومبيدو، كان أولهم فاليري جيسكار ديستان من ماي سنة 1974 إلى الشهر نفسه من سنة 1981، ثم خلفه فرانسوا ميتران، الذي أفلح في التربع على عرش فرنسا ولايتين متتاليتين، أي نحو 14 سنة امتدت من 1981 إلى 1995، تاريخ وصول جاك شيراك إلى الرئاسة. هذا الأخير قضى بنفسه ولايتين رئاسيتين، دامت أولاهما 7 سنوات، وقلصت الثانية، بمقتضى تعديل دستوري، إلى خمس سنوات، ومع ذلك كرس قاعدة قدرة معظم رؤساء الجمهورية الخامسة على الصمود في الإليزي لولايتين، وهو أقصى ما يسمح به القانون، وهي القاعدة التي يوجه الرئيس الحالي، نيكولا ساركوزي، تحدي تأكيدها في الانتخابات الرئاسية المقبلة المتوقع تنظيمها في فصل الربيع المقبل.