إنها فضيحة كبرى ضربت اليمين الفرنسي بقوة وتنبعث منها رائحة كريهة للبعض، فيما يرى البعض الآخر أن الأمر لا يعدو كونَه مجردَ تصفية حسابات بين رجال اليمين، في إشارة إلى العداوة الشديدة التي لم تعد تخفى على أحد بين كل من دومينيك دوفيلبان، رئيس الوزراء السابق، ونيكولا ساركوزي، الرئيس الفرنسي الحالي. أما الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك فمعنيٌّ بشكل أقلَّ بتصفية الحسابات هذه، لكونه «فاقدا للذاكرة»، حسب تقرير أطبائه. يبدو أن «لعنة» الفضائح ما تزال تطارد كلا من الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك ورئيس وزرائه السابق دومينيك دوفلبان. فالاثنان متهمان، من طرف أحد مستشاري الرئيس الفرنسي الحالي، نيكولا ساركوزي، بتلقي أموال مشبوهة من زعماء دول إفريقية. وقد فتحت نيابة باريس، يوم الثلاثاء الماضي، تحقيقا أوليا للاستماع إلى المحامي روبير برجي، صاحب الاتهامات. ما يزال دوفيلبان وشيراك يتخبّطان في مشاكل قضائية أخرى. فشيراك ما زال يُحاكَم غيابيا، بسبب فقدانه الذاكرة، بتهمة «اختلاس أموال عامة» و«خيانة الأمانة»، بإساءة استعمال ما يناهز مليونَيْ أورو من أموال دافعي الضرائب في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، حيث استخدمها لتمويل حزبه السياسي. أما دوفيلبان فقد بُرِّئ للتو من طرف محكمة الاستئناف في قضية «قضية كليرستريم»، التي تعد قضية وشاية كاذبة تضمّنت تزوير قوائم مصرفية صادرة عن شركة الخدمات المالية «كليرستريم»، للإيحاء بأن عددا من الشخصيات، ومن بينهم ساركوزي، يملكون حسابات سرية في الخارج ومتورطون في قضايا فساد، بهدف النيل من سمعتهم قبل الانتخابات الرئاسية لسنة 2007. وقد وجّه المحامي الفرنسي، لبناني الأصل، روبير برجي هذه الاتهامات في مقابلة مع صحيفة «لو جورنال دو ديمونش»، الفرنسية، مؤكدا أن شيراك ودوفيلبان تلقيّا مَبالغَ مالية بلغت قيمتها 20 مليون دولار أمريكي، أُرسِلت إليهما في حقائبَ من قِبَل قادة وزعماء أفارقة بين سنتي 1995 و2005. وقد ذهب برجي إلى حد الاعتراف بأنه قام شخصيا بتسليم شيراك بعض «حقائب الأموال» تلك، والتي استُخدِمت بشكل جزئي لتمويل الحملات الانتخابية للرئيس الفرنسي السابق. «عن طريق وساطتي، دفع خمسة زعماء أفارقة، وهم عبدا لله واد، رئيس السنغال، وبليز كومباوري، رئيس بوركينا فاسو، ولوران غباغبو، الرئيس السابق لساحل العاج، ودنيس ساسو نغيسو، رئيس جمهورية الكونغو -برازافيل، وعمر بونغو، رئيس الغابون، حوالي 10 ملايين دولار للحملة الانتخابية لسنة 2002»، يضيف برجي في مقابلته. ورغم قرار شيراك ودوفيلبان رفعَ دعوى قضائية ضد برجي، فإن هذا الأخير أصرّ على أقواله، إذ أكد، في مقابلة ثانية مع صحيفة «لوبارزيان»، الفرنسية: «أُصِرّ على كل ما قلتُه في شأن هذه القضية. لقد تفاجأتُ بموقف شيراك. فبينما كان يشكو من ضعف الذاكرة في قضية الوظائف الوهمية في بلدية باريس، ها هو يسترجع، فجأة، ذاكرته ويرفع دعوى قضائية ضدي»... وأضاف برجي قائلا: «لكنّ هذا لا يهُمّني لسبب واحد، وهو أنني قلت الحقيقة، وأنا مستعد لأن أقف أمام أي قاض يريد الاستماع إلى تصريحاتي، فمثل هذه الممارسات توقفت بعد 2005، لأن الرئيس ساركوزي كان ضدها». توقيت الاتهامات لماذا اعترف المحامي برجي بهذه الجريمة في هذا التوقيت بالذات؟ هذا هو السؤال الذي طرحه أكثر من متتبع للسياسة الفرنسية. فرض التساؤل عن سر التوقيت الذي تم اختياره لنشر مثل هذه الأخبار نفسَه لكون ذلك يأتي قبل أيام فقط من بدء المداولات في قضية محاكمة شيراك بشأن الوظائف الوهميّة في بلدية باريس، وقبل أشهر قليلة من الانتخابات الرئاسية لعام 2012، والتي أعلن دوفيلبان عن نيته الترشحَ إليها. وكان رئيس الوزراء السابق قد علّق على الاتهامات بقوله: «إن مثل هذه القضايا لن تمنعني من لعب دور سياسي هامّ في الأشهر المقبلة». وحين سؤاله، من طرف وسائل الإعلام الفرنسية، عن أسباب تصريحاته المثيرة والمتأخرة، أكد المحامي أنه «لا علاقة لها مع محاكمة جاك شيراك ومحاكمة كليرستريم» وتابع قائلا «إن ضميري هو الذي أملى عليّ أن أتكلم». وبعد أن لعب دورَ «ناقل الحقائب»، يؤكد روبرت برجي، الآن، أنه يريد «فرنسا نظيفة في اليمين واليسار»... وليس دومينيك دو فيلبان وجاك شيراك وحدَهما، حسب برجي، من استفادا من «سخاء» الزعماء الأفارقة، ومن بين أبرزهم الرئيس السابق الغابوني عمر بونغو. «فقد قال لي جاك فوكار (رجل العلاقات الإفريقية الفرنسية في عهد الجنرال ديغول) إن هذه الممارسات كانت موجودة في زمن السيد بومبيدو، في زمن السيد جيسكار ديستان، بل وحتى في زمن السيد ميتران»، يقول برجي. ووفقا لهذا المحامي، فقد كان جاك شيراك ملقبا ب«دافين»، بينما لُقِّب ودومينيك دو فيلبان ب«مامادو». وفضلا على حقائب الأوراق المالية، أكّد برجي أنه نقل «هدايا» من قادة أفارقة إلى شيراك ودوفيلبان، مضيفا: «أتذكر الصولجان الإمبراطوري الذي أهداه موبوتو»، الرئيس الزاييري السابق، كما ذكَر برجي ساعة «منحها» بونغو لشيراك و«كان فيها على الأرجح 200 ماسة». ردة الفعل الإفريقية والفرنسية تبعت سلسلة من التكذيبات الاتهامات الخطيرة للمحامي برجي، من اثنين من الدول الإفريقية الخمس المتهمة بإرسال الحقائب المالية، وهما السنغال والغابون. وقد نفى سيرين مْباكي نْغاي، الناطق الرسمي برئاسة الجمهورية في السنغال، ما ذكره برجي حول تقديم الرئيس السنغالي، عبد الله واد، مَبالغَ مالية لتمويل الحملة الانتخابية للرئيس الفرنسي السابق شيراك سنة 2002. ومن جهتها، اعتبرت الرئاسة الغابونية أنها «غير معنية» بما ورد في تصريحات المحامي برجي. وقال مصدر مُقرَّب من الرئيس علي بانغو، الذي خلف والده عمر بانغو: «إن الرئاسة الغابونية الحالية بدأت من العام 2009، وبالتالي لا ترد إلا على الوقائع التي حدثت ابتداء من هذا التاريخ». وفي تعقيبه على ردود الأفعال هذه، قال المحامي برجي إن عمليات تسليم الحقائب توقفت في سنة 2007، حين صرّح دوفيلبان، بعفوية، قائلا «إن أموال كل الأفارقة تنبعث منها رائحة الكبريت»... أما في الداخل الفرنسي، فقد ندّدت المعارضة، التي تستعد لاختيار مرشّحها إلى الانتخابات الرئاسية المقبلة في ربيع 2012، بما سمته «فضيحة». واعتبر رئيس الوزراء السابق لوران فابيوس أنه «إذا كانت تلك الوقائع صحيحة، فإنها تعتبر من أكبر فضائح اليمين منذ عقود»، بينما دعا مانويل فالس، المرشح الاشتراكي للانتخابات التمهيدية، إلى تشكيل «لجنة برلمانية» وتحدث عن «رائحة كريهة»... واعتبرت زعيمة الحزب الاشتراكي، مارتين أوبري، أن ثمة تصفية حسابات في الحزب الرئاسي «الاتحاد من أجل حركة شعبية» وقالت: «أنتظر كلمة العدالة». من جانبه، قال الوزير السابق باتريك ديفيجيان، الذي ينتمي إلى الأغلبية إن «في كل الحملات الانتخابية ثمة روائح كريهة تنبعث من كافة الاتجاهات». «كليرستريم» وحرب الرجلين منذ أن كان دومينيك دوفيلبان يشغل منصب رئيس الوزراء في عهد الرئيس السابق جاك شيراك، وعلاقته متوترة بوزير داخليته، الجريء والطموح آنذاك، نيكولا ساركوزي. وقد تَحوّل التنافس بين الرجلين إلى عداء صريح وشديد، كان تجسيده عبر فضيحة «كليرستريم»، التي اتُّهِم فيها دوفيلبان بمحاولة تشوية سمعة ساركوزي وتدمير طموحه للرئاسة. وقد قدمت للمحكمة قوائم مصرفية من غرفة المقاصة في لوكسمبورغ -كليرستريم، بعدما جرى التلاعب فيها للإيحاء بأن عددا من الشخصيات، ومن بينهم ساركوزي، يملكون حسابات سرية وتلقوا رشاوى في صفقة بيع أسلحة. واتهم محامي ساركوزي دوفيلبان بالوقوف وراء هذه الحملة. وطلبت النيابة العامة السجن 18 شهرا مع وقف التنفيذ في حق دوفيلبان، إضافة إلى غرامة 45 ألف أورو. وصرح دوفيلبان، في اليوم الأول من المحاكمة قائلا: «أنا هنا بإرادة رجل واحد، أنا هنا بتحريض من رجل واحد.. هو نيكولا ساركوزي (...). سأخرج من هنا حُرّا وبريئا باسم الشعب الفرنسي». ولم يتردد ساركوزي، الذي ندد البعض بكونه «طرفا مدعيا خارقا»، في مقابلة تلفزيونية، في وصف المدّعَى عليهم بأنهم «مذنبون»، قبل اتخاذ المحكمة قرارَها. غير أن دوفيلبان، الذي أكد أنه ينتظر الحكم «بطمأنينة»، لم يحاول، في الأشهر الأخيرة، إخفاء طموحاته الرئاسية في انتخابات 2012، وقال: «مهما حصل، سأواصل سعيي». كما لم يعد دوفيلبان يُخفي عداوته الشديدة لساركوزي وأصبح يجد أريحيّة في مهاجمته عبر وسائل الإعلام، حيث صرّح، في حوار مع «فرانس 24»، أن «الرئيس نيكولا ساركوزي «مشكلة» بالنسبة إلى فرنسا وليس حلا لمشاكلها»، واصفا إياه بالرئيس الذي «أضاع الطريق»، مضيفا أن ساركوزي «لا يملك الحظ في الدفاع عن ألوان الغالبية الحالية في الانتخابات الرئاسية المقبلة في 2012 ما لم يُغيِّر سلوكه». وقد أعلن دوفيليبان هزيمة حزب ساركوزي في الانتخابات الإقليمية وعن انسحابه من حزب «الاتحاد من أجل حركة شعبية»، الحاكم، الذي يرأسه ساركوزي، وتأسيس حزب سياسي جديد ينتمي إلى يمين الوسط، أطلق عليه اسمه «الجمهورية المتضامنة». وقد ألقى دوفيلبان في باريس الخطاب «التأسيسي» لحزب يريد منه أن يكون «حرا ومستقلا ومنفتحا على الجميع يوم 25 من مارس 2010»، و«فوق كافة الانقسامات الحزبية». ولم يختر دوفيلبان هذا الموعد صدفة، حيث إن ذلك جاء غداة الذكرى السبعين للنداء الذي دعا فيه الجنرال ديغول، من لندن في 18 يونيو 1940، إلى مقاومة الاحتلال النازي لفرنسا. وقد علقت صحيفة «لوموند»، الفرنسية، على ذلك بقولها: «إنها طريقته في المقاومة» من داخل اليمين وفي مواجهة الرئيس ساركوزي، الذي يتهمه بتقسيم الفرنسيين، وهو بالتالي يعرض نفسه كمدافع على المصلحة العامة. شيراك يتهجّم على ساركوزي «إنه عصبي المزاج، يتفجّر طموحا، مطلق الثقة، لاسيما في نفسه»، يقول جاك شيراك عن ساركوزي. وقد جاء هذا «الهجوم» في الجزء الثاني من مذكرات شيراك، التي صدرت بعد أربع سنوات من اعتزاله السياسة، والذي كان بعنوان «الزمن الرئاسي». وقد فاجأ شيراك قرّاءه بالثناء على زعيم الحزب الاشتراكي السابق فرانسوا هولاند، الذي يعتقد كثيرون في أوساط اليسار أنه أفضل من يستطيع أن يتحدى ساركوزي في الانتخابات الرئاسية في السنة المقبلة، بعد فضيحة دومنيك ستروس كان، الجنسية، في نيويورك. وقد انتظر شيراك أكثرَ من 15 سنة ل«الانتقام» مما يعتبره سلسلة خيانات ارتكبها ضده ساركوزي، الذي احتضنه وأحاطه برعايته وربطتْه علاقة غرامية بكلود، ابنة الرئيس السابق. وحين أعلن ساركوزي، الشاب، نيتَه الترشح لرئاسة فرنسا، قيل إن زوجة شيراك، برناديت، صرخت: «يا الهي.. هذا الرجل شاهدنا بملابس نومنا»!... وتعود العداوة بين الرجلين إلى الحملة الانتخابية الرئاسية لسنة 1995، عندما حجب ساركوزي، الشاب الطموح، تأييده عن شيراك لصالح منافسه إدوار بالادير. وفاز شيراك بالرئاسة، ليحكم 12 سنة، لكنه أُرغِم على الاعتراف بشعبية ساركوزي وتعيينه في مناصب وزارية أساسية، بينها تسليمه حقيبة وزارة الداخلية. ومنذ انتخاب ساركوزي في ماي 2005، التزم شيراك جانب الصمت بوقار إزاء خصمه، حتى نشر الجزء الثاني من مذكراته الآن. ويثني شيراك في الجزء الثاني من «الزمن الرئاسي» على طاقة ساركوزي وعلى حسّه التكتيكي ومواهبه الإعلامية، التي جعلته «من أكثر سياسيي جيله موهبة»، لكنه يضيف أنه رفض تعيين ساركوزي رئيسا للحكومة، لأنه لا يعتبره «موثوقا فيه أو مخلصا بما فيه الكفاية». وكتب شيراك، أيضا، أن ساركوزي يمينيّ بإفراط، سياسيا واقتصاديا، و«أمريكي بإفراط». وانتقد قدرة ساركوزي على «تأجيج التناقضات وإلصاق التّهَم وتأليب فئة ضد أخرى». ويندّد شيراك بتهديد ساركوزي سكانَ الضواحي الباريسية من المهاجرين ووصفه شبانها ب«الحثالات»، مفجّرا مظاهرات ومواجهات امتدت أسابيعَ طويلة في كافة أنحاء فرنسا. ويقول شيراك إنه لم يشارك ساركوزي رؤيتَه لفرنسا. ويلمح الرئيس السابق إلى أن ساركوزي خاض حملة «قذرة» ضده ويقول إنه جُرِح بتعليقات مهينة أطلقها ساركوزي عن شغفه المعروف بمصارعة «السومو»، اليابانية. وعلى النقيض من ساركوزي، فإن هولاند يتمتع بالقدرة على التصرف «كرجل دولة حقيقي»، حسب شيراك. من هو روبير برجي؟ محامٍ فرنسيٌّ من أصل لبناني، من مواليد 1945 في السنغال، التي كانت حينئذ تحت السيطرة الفرنسية. من أسرة لبنانية شيعية. درس روبير برجي القانونَ، قبل أن يُعيَّن مدرّسا في أبيدجان. لكن، حسب صحيفة «لبِراسيون» الفرنسية، فإن القانون لم يكن يهُمّ برجي بالقدْر الذي كان يحبّ السياسية ودواليبها ونفوذها. يعتبر هذا المحامي نفسَه الابن الروحي لجاك فوكار، الذي توفي في 1997، بعد أن لعب دورا محوريا في العلاقات الفرنسية -الإفريقية، سواء في عهد الجنرال ديغول أو في عهد غيره من الرؤساء الفرنسيين. وقد كان فوكار مقرّباً من محمود برجي، والد روبير، الديغولي، إلى حد النخاع، والذي كان يعمل تاجرا للنسيج في داكار. عمل برجي مستشارا لشيراك سنة 1983، ثم لدوفيلبان، بين 1986 و1988. وتقول التقارير إنه انضمّ إلى فريق الرئيس الفرنسي الحالي نيكولا ساركوزي في 2005، والذي قلّده وسام الاستحقاق في 2007، وإنْ كان شخصيا ينفي أن يكون عمِل مستشارا لساركوزي. لعب برجي دورا بارزا في ما يمكن تسميتُه «السياسة الفرنسية الموازية»، وكانت تربطه علاقات جيدة مع زعماء أفارقة عديدين، لاسيما الرئيس الغابوني عمر بونغو.