يشير إيغال سلطة الاستبداد في الحل الأمني وتأكيد وزير داخليتها على المضي «في الكفاح والنضال لتطهير التراب السوري من رجس المارقين والخارجين على القانون» إلى أن التغيير أضحى حاجة ملحة لسورية، لذلك من المهم محاولة رؤية محتوى ومضامين ومستويات هذا التغيير وصوغ أسئلته. فقد عقد الشعب السوري العزم على أن يخرج من حياة العبودية، التي تخبط في أوحالها وظلماتها أكثر من 40 سنة، ويعود حرا كما ولدته أمهاته. فما الذي ينبغي تغييره؟ وما الذي ينبغي الإبقاء عليه؟ وكيف نضمن التطورات المستقبلية؟ وماذا نفعل بالثقافة السلطوية القديمة؟ وهل التغيير يحدث من تلقاء نفسه أم لا بد من إدارته؟ وما هي الفترة التي ستستغرقها عملية التحول؟ وهل يمكن لثقافة بكاملها أن تتغير لتحل محلها ثقافة أخرى؟ والسؤال الرئيسي هو: كيف يمكن أن يتحقق الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية في سورية؟ أي كيف يتم تفكيك النظام الشمولي والدولة الأمنية؟ وكيف يعاد إنتاج النظام السياسي على نحو يؤسس لديمقراطية تشكل أساسا للتغيير بكل مستوياته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، بما يفرضه ذلك من إعادة بناء الدولة السورية الحديثة؟ لا شك أن تحديد الأولويات ومراجعة الأهداف المزمع تحقيقها ضرورة ملحة في سورية، ليتم التركيز على متطلبات تكريس القواعد الديمقراطية وبناء المؤسسات الدستورية ومعالجة المشاكل المعيشية وتحديث الهياكل والبنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتحقيق التنمية والارتقاء بمستويات القدرات السورية. ففي دولة حولتها السلطة الأمنية من فضاء عام لكل مواطنيها إلى فضاء خاص لأهل الولاء، حيث سلطة الدولة لا تستند إلى شرعية دستورية وغير خاضعة لأية مؤسسات رقابية حقيقية، بل بوجود مراتبية تلعب فيها الأجهزة الأمنية الدور الأهم في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، تقرّب أهل الولاء وتنفّر أهل الكفاءة، في دولة من هذا النمط من المؤكد أن تكون أسئلة الدولة والمواطنة من أهم إشكالياتها، فعلى امتداد العقود الأربعة الماضية هيمن نمط من الأجهزة الأخطبوطية على مجمل نواحي الحياة السورية، بحيث تم ابتلاع كل المظاهر الأولية لوجود المجتمع المدني السوري، بل إن المجتمع السياسي نفسه لم ينجُ من سيطرة هذه الأجهزة، حيث «قُضمت» الدولة وأُرغمت على إخلاء الساحة للسلطة الأمنية. كما أن للحالة السورية الراهنة أسبابها العميقة: تفاقم غير مسبوق للفقر والبطالة وفشل السياسات التنموية والخدمات ونظام الامتيازات الاجتماعية والفساد الإكراهي الذي تديره الأجهزة الأمنية بصورة خاصة. وهكذا تجمعت لدى أغلبية الشعب السوري مؤشرات تظهر أن هذا النظام بات محنطا وعصيا على الإصلاح، لأسباب عديدة، منها الخلل العميق في تركيبته الداخلية نفسها، وطريقة فهمه لدوره وموقعه من الدولة السورية ولطبيعة الهياكل التي أنشأها انسجاما مع تلك التركيبة وهذا الفهم؛ فقد ثار السوريون في وجه الدولة الأمنية التي استبدت في كل مجالات عيشهم، وقرروا أنه لا بد من التغيير على كل المستويات الوطنية، في ظل علاقة قائمة على القناعة والثقة والتفاعل الحر، علاقة مقننة في إطار عقد اجتماعي جديد يوفر الشفافية والمؤسسية والقانون. إن سورية أحوج ما تكون إلى الدولة الديمقراطية القادرة والعادلة والفاعلة، دولة الحق والقانون والمؤسسات الدستورية والتنمية الشاملة المستدامة، حقوق المواطنين فيها هي واجبات الدولة، بما هي دولة الكل الاجتماعي، هي دولة كل مواطنيها بلا استثناء ولا تمييز، يشارك فيها الأفراد والفئات الاجتماعية مشاركة فعلية من خلال المؤسسات. والحل المجدي الوحيد يكمن في قيام الدولة، التي عمادها المواطنة الكاملة القائمة على دستور عادل لا يميز بين المواطنين، على أساس ديني أو مذهبي أو قومي. ولعل مسألة الديمقراطية هي من أهم الدروس التي يمكن أن نستخلصها، فقد أدى إضعاف دور المواطن وتقليص المشاركة الحقيقية في العملية الإنمائية إلى ضعف الإنجازات التنموية الحقيقية، إذ إن التقدم الشامل لا يمكن تحقيقه واستمراره في ظل غياب التغيير السياسي، والاستناد إلى قاعدة ديمقراطية أوسع وتمتع فعال بالحريات السياسية والفكرية؛ فقد صارت الديمقراطية ضرورة لا غنى عنها واختيارا لا مفر منه، فهي معيار صلاحية الاختيارات الأخرى على صعيد السياسة والمجتمع والاقتصاد والثقافة، إنها ما يمنح هذه الاختيارات جميعها بعدها الإنساني. ولا يمكن تمثل هذه التحولات بعمق إلا في إطار الدولة الحديثة التي تقوم على أسس ثلاثة: فصل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، ورقابة المجتمع على سلطة الدولة، وخضوع سلطة الدولة نفسها للقوانين التي تسنها. ومن غير الممكن تصور سورية لكل مواطنيها بمعزل عن عودة الروح إلى المجتمع المدني، وضمان مؤسساته المستقلة عن سلطة الدولة، كي يسترد المجتمع حراكه السياسي والثقافي، بما يخدم إعادة بناء الدولة السورية الحديثة. إن الدولة التي لا تستمد مشروعيتها من مجتمعها المدني، وليد مفاهيم السياسة المدنية والعقد الاجتماعي، تكون هشة وضعيفة مهما ادعت القوة. وفي كل الأحوال، وطالما أن كرامة وحرية الإنسان هي التي تشكل أساس تطور أي مجتمع، فإنّ الرقابة المُمَأسسة، التي تمكّن من وضع الإنسان السوري المناسب في المكان المناسب، تشكل أحد أهم الشروط لتحقيق الانتقال من الاستبداد إلى الدولة المدنية الديمقراطية التعددية بأقل الخسائر، واستئصال شأفة العنف من العلاقات الاجتماعية والسياسية. إن عملية التحول الديمقراطي تقتضي إعادة صياغة القيم السائدة وتغيير أنماط السلوك من خلال مجموعة كبرى متكاملة من التحولات، من أهمها: التغيير من مناخ اليأس والقدرية إلى مناخ الثقة بالذات والقدرة على التحكم في المصير، والانتقال من القدرية التي يسيطر عليها الماضي إلى التوجهات المستقبلية؛ كما أنها تقتضي القطيعة مع ثقافة سياسية شعاراتية، خالية من أية مضامين عملية ذات صلة بالسياسات المعاصرة، كما كان واضحا في كلمة مندوب سلطة الاستبداد في مجلس الأمن مؤخرا. وفي هذا السياق لا ينبغي توجيه طاقات الشعب السوري لتصفية الحساب مع الماضي وإهمال تحديات الحاضر وتأجيل التفكير في آفاق المستقبل، لأن تصفية الحساب مع الماضي ينبغي، استعانة بخبرات الدول الأخرى التي انتقلت من السلطوية إلى الديمقراطية، ألا تؤدي في النهاية إلى تفكيك الدولة ذاتها إلى مكوناتها المتنوعة. والتحدي الكبير هنا لا يقتصر على إصلاح التخريب الإنساني والوطني الذي تسبب فيه الاستبداد، بل يتعداه إلى ظهور الإنسان الجديد، الفرد مستقل الضمير والعقل. فما هو قادم لا يزال كبيرا، ولا يقل عن ثورة دائمة في أشكال وتعبيرات سياسية وثقافية وإنسانية مختلفة؛ ففي المرحلة الجديدة لن يقبل السوريون بعدم المشاركة في صياغة مستقبلهم، بل سيتصرفون انطلاقا من حقهم الطبيعي في الكرامة والعدالة والمساواة التامة في وطنهم، وهذا سيعني اعتبار الوطن ملكا لجميع مكوناته وليس لفرد أو حزب أو أقلية. وفي سياق الثورة السورية من أجل التغيير، فإن القوى الحقيقية، التي تنزل إلى الشارع وقدمت الشهداء من أجل الحرية وإعادة الكرامة إلى الشعب، بلغت بسقف مطالبها ضمان الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية، مع المطالبة بمحاكمة رأس السلطة ومسؤولي الأجهزة الأمنية وقادة الشبيحة. وهي تتبنى، بشكل واضح، تصورا مستقبليا لسورية: ديمقراطية، دولة كل مواطنيها، ودولة قانون وحريات عامة وفردية تنبذ العنف والطائفية. وتبقى أسئلة المرحلة هي: هل يكون النظام الانتقالي مفتاحا لتوافق سوري عام على محتوى التغيير المقبل، وفسحة لانتقال سلمي وهادئ نحو نظام جديد في سورية؟ وهل ينقل الرئيس سلطاته إلى واحد من أهل النظام الذين لم يلوثوا أيديهم بالفساد والجرائم ضد الشعب، مع إعلان فوري لوقفٍ تام لاستخدام السلاح والشبيحة ومنع الاعتقال، وإطلاق سراح جميع معتقلي الرأي والضمير، وإعلان عفو عام عن جميع المحكومين السياسيين والمبعدين خارج البلاد وعودتهم دون قيد أو شرط، مع الدعوة إلى مؤتمر وطني عام تشارك فيه كل المكونات الوطنية الناشطة والفاعلة تحت إشراف نزيه، تنتج عنه حكومة انتقالية مكونة من كفاءات وطنية مستقلة، تعمل على متابعة وضمان الانتقال السلمي للسلطة، وصياغة دستور جديد يؤسس لدولة مدنية مبنية على الحرية والعدالة والديمقراطية تتداول فيها السلطة سلما، ويؤصل لإصدار قانون للأحزاب السياسية يؤسس لحركة سياسية مدنية ديمقراطية تداولية، وانتخابات برلمانية حرة؟ إن الإجابة بحاجة إلى كثير من التمعن والترقب لما ستحمله الأيام القليلة القادمة، على ضوء التفاعلات التي سيفرزها القرار الذي سيصدره مجلس الأمن الدولي؛ كما أن تماسك أهل النظام لا يعني بالضرورة تجانس مكوناته، فالمستجد الذي أفرزه الحراك الثوري والجيش السوري الحر استطاع خلخلته، وهو ما سيفرض التغيير ورحيل سلطة الاستبداد. فإذا استمرت عملية توريط الجيش في تمشيط المدن والبلدات السورية، فإن انقسامه، خاصة على مستوى الرتب العليا، سيصبح مسألة وقت، وربما في النهاية يتخذ الكثير من قياداته قرارا بحماية المتظاهرين، كما فعل أفراد وضباط الجيش السوري الحر، مما سيدخلها في صراع مع الأجهزة الأمنية وكتائب الفرقة الرابعة بقيادة ماهر الأسد. إن الشعب السوري، الذي تجاوز حاجز الخوف، منذ 15 مارس 2011، وانتفض في وجه الاستبداد متحديا قبضته الحديدية التي أمسكت بالمجتمع طيلة العقود الأربعة الماضية، يستحيل أن يقبل حكم سورية بالطريقة القديمة واحتكار السلطة من قبل أية جهة سياسية أو فئة اجتماعية تحت أية ذريعة أو شعارات؛ فقد رأينا، خلال الأشهر العشرة الماضية للثورة، سورية أخرى فيها طلاب حرية وكرامة ومواطنة بمئات الألوف، وفيها أناس يستشهدون ويُعتقلون ويتعرضون للتعذيب من أجل سورية الجديدة التي تتجاوز الأطر السياسية الجامدة الضيقة المفروضة عليه بالقوة منذ عقود. عبد الله تركماني