بعد أن يئس الشعب السوري والمعارضة الديمقراطية من استجابة السلطة، التي ورثت العهد القديم في عام 2000، لدعوات الإصلاح التدرجي والشامل، وبعد أن لاحقت الأجهزة الأمنية الناشطين واعتقلت المئات منهم طوال عقد من الزمن، انتقلت الحركة الشعبية إلى تبنّي خيار التغيير الديمقراطي والتكتل والعمل معا من أجل إنجاز هذا الخيار، بالضغط السياسي والنشاط الميداني السلمي، متأثرة بأنموذجي الثورتين التونسية والمصرية. فانطلقت المظاهرات الشعبية منذ 15 مارس الماضي وما زالت مستمرة حتى الآن، بعد تقديم ما يزيد على 400 شهيد وآلاف الجرحى في مختلف المحافظات السورية. وهكذا، فإنّ سورية مقبلة على تغيير مؤكد، ففي دولة استبدادية اهتمت سلطتها كثيرا ببناء الرموز (أصنام حافظ الأسد وابنه باسل وصور بشار) واعتنت بتنميق الشعارات، ونحتت لغة سياسية ذات مفردات تعبوية، فإنّ أول وربما أخطر استحقاق يواجهها يدور حول «هيبة سلطة الدولة»، وهي ليست مجرد مسألة رمزية وإنما مشكلة عملية أيضا، إذ كيف سيحافظ حكام سورية على صورتهم قوية في نظر مواطنيهم وهم الذين أمروا بإطلاق الرصاص الحي على شعبهم؟ إنّ أغلب المشكلات التي تواجه سورية في المجال الداخلي هي من ثمار النهج الذي اتبعه الحزب الحاكم خلال وجوده في السلطة منذ عام 1963 في إقامة نظام استبدادي استئصالي، حين حوّل سورية إلى دولة فئوية تقودها نخبة من أصحاب الامتيازات الذين يرفضون المساواة بين السوريين. كما أنّ مجتمع الحزب الواحد أشاع حالة من السلبية والعزوف عن الانخراط في النشاط العام، إذ غابت لدى غالبية الأفراد والجماعات المبادرة الذاتية والتفكير المستقل، وحصلت حالة من القطيعة بين أغلبية أفراد المجتمع والنخبة السياسية، بعدما بطشت السلطة بقوى المعارضة وأماتت أي تعبير أو مؤشر على حياة سياسية طبيعية. ويعود كل ذلك إلى الدولة الأمنية، كبنية مستترة خلف بنية الدولة الرسمية المعلنة، بما فيها مجلس الشعب الذي ظهر كسيرك أثناء خطاب الرئيس أمام أعضائه، مما يحيل على حقل دلالي خاص بعمل الأجهزة الأمنية وتسلطها الشامل على البلاد والعباد، وفرض سيادتها التي تنزع كل سيادة أخرى. فعلى امتداد السنين، هيمن نمط من الأجهزة الأمنية الأخطبوطية، التي يبلغ عددها سبعة عشر جهازا، على مجمل نواحي الحياة السورية، بحيث تم ابتلاع كل المظاهر الأولية لوجود المجتمع المدني السوري، بل إن المجتمع السياسي نفسه لم ينجُ من سيطرة هذه الأجهزة، حيث «قُضمت» الدولة وأُرغمت على إخلاء الساحة ل»الدولة الأمنية»، مقابل «أمن الدولة». لقد اعتادت السلطة، منذ عقود، على مصادرة المجتمع وإخضاعه كليا، وأقامت في سبيل ذلك منظماتها الشعبية كامتداد لسلطتها، بحيث لم يعد من الممكن الحديث عن دولة ومجتمع بالمعنى الحديث. ومرد كل ذلك هو النظام السلطوي الذي حكم البلاد والعباد، والذي تميز بالتماهي بين الدولة والسلطة والمجتمع والحزب، واندمجت كلها في شخصية الحاكم، بعيدا عن أية مؤسسات رقابية حقيقية، بل بوجود تراتبية تلعب فيها الأجهزة الأمنية الدور الأهم في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، تقرّب أهل الولاء وتنفّر أهل الكفاءة. وقد أدى كل ذلك إلى تعطيل الحياة السياسية السليمة، وحدَّ من إمكانية الإدارة العقلانية للموارد الاقتصادية والبشرية، كما أدى إلى تهميش قطاعات اجتماعية وثقافية عديدة. إنّ آليات السيطرة، التي تجذرت منذ انقلاب حافظ الأسد على رفاقه سنة 1970، شكلت الغطاء للفساد العام والركود الاقتصادي على مدى سنوات عديدة، وعطلت انطلاق مبادرات المجتمع السوري الذي يتميز بالحيوية، ودفعت بالأزمات المتتابعة نحو الأمام متوهمة التخلص منها، إلى أن تراكمت ووصلت إلى حالة المأزق الذي تعيشه سورية حاليا. وبما أن إدارة الأزمات بدل التعاطي المجدي معها قد تولدت عن البنية الاستبدادية للدولة السورية، خاصة منذ ثمانينيات القرن الماضي، فمن الطبيعي أن يكون التغيير شاملا لكل ميادين الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية بتناغم واضح في ما بينها. إن التعاطي المجدي مع الأخطار والتحديات، التي يطرحها الحراك الشعبي السوري على جدول الأعمال السوري، تتطلب البحث عن أسباب المأزق الداخلي الحالي ومعالجته جديا للنهوض بالقدرات الكامنة إلى مستوى التطورات الجديدة والتعامل معها على أساس من التكافؤ والاقتدار في الميادين المختلفة، مع العلم بأن مصدر القوة الحقيقية لأية دولة هو التناغم والتكامل والتوازن بين سلطة الدولة ومجتمعيها المدني والسياسي. إن التغيير الشامل في سورية، بعد سبعة أسابيع من الحراك الشعبي المتواصل الذي تتسع قاعدته الاجتماعية وبعد مئات الشهداء وآلاف الجرحى، أصبح مهمة إنقاذية لا تقبل التردد ولا التأجيل، وأية محاولة إلى إفراغه من محتواه الحقيقي أو محاولة تقزيمه إلى إصلاح جزئي أو تغيير أشخاص بآخرين أو تلميع صور عتيقة، لن تفعل إلا أن تفاقم سوء الأوضاع وتضع سورية على حافة المجهول. ولا شك أنّ التغيير لا بد أن يكون ديمقراطيا في أدواته ووسائله، يُبنى على مبادئ الحوار والاعتراف المتبادل ويقوم على نبذ العنف خلال الحراك الشعبي والعمل على منعه وتجنبه بأي شكل ومن أي طرف كان. إن حالة الاحتقان التي تتعرض لها سورية، في حجمها وجديتها وأيضا في تنوعها وشدة تواترها، يضعها أمام خيار هو الأسلم، بل الأفضل لحاضر سورية ومستقبلها، لكنه الأصعب على أهل النظام ومصالح بعض المتنفذين بينهم، يقوم على تعاطٍ عقلاني مع الواقع القائم واتجاهات تطوره، تحسبا من أن تصل الأمور إلى حافة الهاوية، وتاليا استثمار مساحات الوقت الضائع، ليس من أجل الركون إلى أوراق ضغط الحلفاء الإيرانيين وإلى منطق القوة الأمنية، بل لاتخاذ قرار تاريخي وجريء بنقل مركز الثقل وبؤرة الاهتمام السياسيين صوب الداخل، والسير قدما نحو التحول الديمقراطي الحقيقي الشامل، بما يعنيه من تفكيك الدولة الأمنية ويعيد صياغة الشرعية السياسية على أسس جديدة: الحرية فورا لجميع معتقلي الرأي والضمير في سورية من خلال تبييض السجون، وعودة المنفيين السوريين إلى وطنهم من بوابة المواطنة وليس من البوابة الأمنية، وفتح الملف الإنساني للمفقودين في السجون وإقامة دولة الحق والقانون الديمقراطية الدستورية. إنّ التغيير أضحى حاجة موضوعية كي لا تتأخر سورية عن التعاطي المجدي مع التحديات المطروحة عليها، وبالتالي فإن تعثر تلبية مطالب التغيير هو مجازفة خطيرة بمستقبل الدولة والمجتمع في سورية. فالحاجة ملحة إلى إعادة بناء السلطة على أسس جديدة تعطي الدولة طابعا آخر يوحد المطامح الوطنية العامة ويؤسس لفاعلية جديدة تستوعب عناصر المجتمع كافة. إننا بحاجة إلى ديمقراطية حقيقية توفر الإمكانية لاستيعاب المتغيّرات العميقة في الحياة الإنسانية المعاصرة، مما يستوجب مأسسة الفاعلين السياسيين والاجتماعيين والحقوقيين من خلال شرعنة وجود أحزاب وجمعيات علنية تقبل التسويات التاريخية والحلول المعتدلة وتعتمد الأسلوب السلمي للتغيير والتقدم. إن نجاح أي مشروع للتغيير في سورية، من داخل السلطة أو من خارجها، مرتبط بإجراء إصلاح سياسي شامل، مقدماته الضرورية تقوم على الانتقال من النظام الاستبدادي إلى النظام الديمقراطي، بما ينطوي عليه ذلك الانتقال من إلغاء كل القيود على الحريات الديمقراطية وعلى الدعوة إلى استقلال القضاء وسيادة القانون، بما يضمن قيام دولة حق وقانون عادلة وقوية، دولة المواطنين الأحرار. من خلال صياغة معادلة جديدة في الحياة الداخلية تأخذ بعين الاعتبار تعاظم التحديات، في ظل علاقة بين السلطة والمجتمع قائمة على القناعة والثقة والتفاعل الحر، علاقة مقننة في إطار عقد اجتماعي جديد يوفر الشفافية والمؤسسية والقانون، هي وحدها الكفيلة بوضع سورية على أولى درجات الإصلاح والتغيير المنشودين، وإلا فإننا أمام حالة إعادة إنتاج الماضي بكل مآسيه. ومما لا شك فيه أنّ تحديد الأولويات ومراجعة الأهداف المزمع تحقيقها ضرورة ملحة في سورية، ليتم التركيز على تكريس القواعد الديمقراطية وبناء المؤسسات الدستورية ومعالجة المشاكل المعيشية وتحديث الهياكل والبنى الاقتصادية والاجتماعية وتحقيق التنمية والارتقاء بمستويات القدرة السورية على الانفتاح على العالم، والتعامل معه من موقع الشراكة، في ظل توجهات العولمة التي لم يعد هناك مجال لتجاهل آثارها السلبية والإيجابية على كل بلدان العالم. فهل يعي الحكم السوري ذلك قبل فوات الأوان ويتجاوز استجاباته البطيئة للأحداث، بعد أن حملت في الآونة الأخيرة طابع ردود فعل متوترة وعقيمة، عنوانها الحل الأمني الذي يهدف إلى شل حراك ناشطي الشأن الوطني العام من السوريين، حين أقدمت سلطة الاستبداد على تصعيد نوعي وخطير حين نشرت شبيحتها وقناصتها على سطوح بنايات المدن واستخدام الرصاص الحي ضد الشعب، بهدف إدامة ثقافة الخوف وإسكات أي صوت معارض وإعادة المجتمع السوري إلى زمن الصمت؟ أم ينتقل إلى مقاربة جديدة تقوم على المبادرة، تقطع الطريق على الأخطار بإزالة ركائزها الذاتية، من خلال الدعوة إلى مؤتمر وطني عام يعيد صياغة أسس الحياة السياسية الجديدة التي تنقل سورية من الاستبداد إلى الديمقراطية؟ إنّ سورية أمام تحديات حقيقية تستوجب تفعيل الخيارات الممكنة، من خلال إرادة سياسية لرجال دولة عقلاء وإدارة مجدية لكل إمكانياتها المتوفرة، بهدف التعامل مع المطالب الشعبية بإيجابية، فليس من الواقعية والعقلانية أن تغمض سورية عينيها عن مختلف الخيارات والقدرات التي يمتلكها شعبها. عبد الله تركماني