كشف نظام الاستبداد عن وجهه السافر في طريقة تعامله مع الحراك الشعبي السوري من أجل التغيير الديمقراطي، ففي الوقت الذي كان فيه شعبا تونس ومصر يرسمان طريق المستقبل الديمقراطي، قامت السلطات الأمنية السورية بمحاصرة المدن السورية ومداهمتها واستخدام الرصاص الحي ضد الشعب. من بين اليافطات الساخرة المحمولة التي شاهدناها في مظاهرات الأيام الماضية واحدة تقول: «نرجو من الأمن السوري أن يستخدم الرصاص المطاطي مثل الجيش الإسرائيلي». حيث لا صوت الآن يعلو في سورية فوق صوت الدبابات ورصاص قناصي شبيحة هذا النظام، وخير مثال عليهم رامي مخلوف، ابن خال الرئيس، الذي صرح، في مقابلة نشرتها صحيفة «نيويورك تايمز»، بأن النظام السوري «لن يستسلم بسهولة وسيقاتل حتى النهاية»، مما أودى بحياة 850 شهيدا وآلاف الجرحى واعتقال 8000 من المتظاهرين والناشطين المعنيين بالشأن العام والمناهضين لسلطة الاستبداد. إلا أن الحل الأمني، الذي اختارته وصاية نظام الاستبداد، يعاني اليوم حالة انكشاف واضطراب جراء ثورة الاتصال والمعلوماتية وامتلاك الشباب السوري لتقنياتها وآليات عملها، وارتقاء وعي السوريين بعد أن صاروا يتحسسون جيدا وزنهم ويستشعرون الدوافع الحقيقية وحسابات المصالح الضيقة التي تقف وراء دعوات احتكار الوطنية من قبل السلطة وادعاء التصدي لجماعات سلفية جهادية، الأمر الذي يحث الغيارى على سورية ومستقبلها على استمرار الحراك الشعبي من أجل التغيير الوطني الديمقراطي، من خلال تواصل الحراك السلمي ذي الطابع الوطني الشامل لتحقيق المواطنة التي يكون الإنسان السوري مركزها وغايتها، تبدأ بأوجاعه وهمومه وتسعى إلى حقوقه ومصالحه، بعيدا عن التسلط والهيمنة، محطمة الجدار المصطنع بينه وبين السياسة، ممتدة في منظورها المجتمعي نحو الحريات وحقوق الإنسان وتطوير المؤسسات المدنية واحترام الكفاءات، بما في ذلك تعرية وكشف ما يعيقه أو يكبله من قيود، لتصل إلى إرساء مناخ صحي يثق بالناس ويمنحهم الفرصة من الأمان والحرية كي يأخذوا دورهم الحقيقي في المجتمع، كذات حرة واعية لمثلها وقيمها وأهدافها، قادرة على تحمل مسؤولياتها بحرية وطواعية بعيدا عن القسر والإكراه. وتأسيسا على ما سبق، فإن الوطنية السورية الحقيقية تتعلق بتنامي شعور المواطنين بقوة انتمائهم إلى وطنهم وبمدى اعتزازهم بهذا الانتماء واستعدادهم للدفاع عنه والتضحية من أجله، فقوة المجتمع ووحدته تتأتى من قوة أبنائه الأحرار المتساوين المتحدين، ومناخ الحرية هو ما يبعث في النفوس الحب الحقيقي للوطن وصدق الانتماء إليه. وبالتالي لن ينعم مجتمعنا بلحمة وطنية صحية إلا في حال البدء بتحرير السياسة من السيطرة الشمولية للسلطة، من الوصاية والنمطية، ومن سيادة الرأي الواحد والصوت الواحد والحزب الواحد، وتفكيك منظومة الدولة الأمنية للقطع مع الاستبداد بكل تجلياته، وإدراك «المستوى السياسي» خطورة ارتهانه إلى «المستوى الأمني»، بما يعني الاستعداد لخطوات جريئة على صعيد حقوق المواطنة والعدالة وسيادة القانون، والقبول بالتعددية والاختلاف كمقدمة لا غنى عنها لصياغة عقد اجتماعي جديد، يضمن للجميع حقوقهم على قدم المساواة في المشاركة السياسية وإدارة الشؤون العامة، بعد أن حلت الأجهزة الأمنية المتنوعة مكان المؤسسات ذات الشأن بقضايا المواطنين. وقد عبّر الأستاذ مصطفى سعيد خير تعبير عن مشاعر المواطن السوري، إذ قال: «منذ ولادتنا وحتى يومنا، ورجل الأمن ضيفٌ مقيت في حياتنا، أي موظفٍ في سورية لرجلِ الأمنِ يدٌ في توظيفه، فصلُ أي موظفٍ لرجل الأمن يدٌ في فصله، ترقية أي موظف لرجل الأمن يدٌ في ترقيته، أي مسؤولٍ في الدولة لرجل الأمن يدٌ في تزكيته، كل عضوٍ في مجلس الشعب لفروع الأمن فضلٌ في عضويته، أعضاء ومديرو الأندية الرياضية والعمالية والطلائع والشبيبة معظمهم يتم اختيارهم من قبل رجل الأمن، معظم شوارع الوطن أصبحت محلات تجارية مخالفة بدعم رجل الأمن، كل مخالفة بناءٍ عشوائي تتم بحماية رجل الأمن، معظم بسطات الدخان والبضائع المهربة والأكشاك المنتشرة والمظاهر غير الحضارية بحماية رجل الأمن، معظم الجمعيات السكنية والقروض البنكية تيسّرُ بأيدي رجل الأمن، كل قادمٍ وخارجٍ من وإلى الوطن يمر جيبه بكفِ رجل الأمن، كل معتدلٍ يتعاطى بإيجابية مع النظام أصبح معارضا شرسا والفضل لممارسات رجل الأمن، كل شيوعي أو علماني يصبح سلفيا وعميلا فقط في تقرير رجل الأمن، كلُ متطرفٍ يُصبح مقاوما بطلا بمباركة رجل الأمن، كل شريف وغيور على الوطن يصبح خائنا فقط في تقرير رجل الأمن..»، ونضيف أن ال36 مطلوبا للعدالة من مجموع ال40 «وجيها» من حلب الذين قابلهم الرئيس للاستماع إلى مطالبهم الإصلاحية، كانوا بتزكية من رجال الأمن. وفي هذا السياق، كان رد فعل النظام، منذ بداية الحراك الشعبي في 15 مارس الماضي، ارتكاب أعمال عنف لا تقل وحشية عن أفعال القذافي في ليبيا. على الرغم من عدم ظهور أي انتحاري تابع لتنظيمات جهادية، بل مواطنين يطالبون بأن تلحق بلادهم بركب التقدم في القرن الواحد والعشرين، شأنهم شأن جميع المواطنين في مختلف دول العالم. ويبدو أن أسلوب النظام في مواجهة الغضب الشعبي كمن يريد إطفاء النار بالزيت، ومع ارتفاع النيران فإنّ التعنت وعمى البصيرة يدفعان بالنظام إلى إلقاء المزيد من الزيت، مما يزيد لهيب الاحتجاجات عنفا وتصميما وإصرارا، بحيث يمكن استنتاج أن النظام، في معالجته الأمنية للحراك السلمي، يريد للحراك الشعبي السلمي والوطني أن يتحول إلى ثورة مسلحة وفتنة طائفية. وهكذا، يبدو أيضا أن السلطة المستبدة مستميتة لحرف الاحتجاج السلمي إلى أي شكل من أشكال المواجهة المسلحة، لتتحول الصورة من ضحايا مسالمين طلاب حرية وكرامة إلى جناة قتلة مجرمين، بما ينطوي عليه ذلك من فتنة عمياء تتداخل فيها الخطوط وتنقلب إلى معركة غير متكافئة بين طرفين مسلحين، مما يجعل مهمة السلطة في الاستمرار في تحريض القوات المسلحة وتوريطها ليست بالعسيرة. إن جريمة السلطة الأمنية في سورية مضاعفة عندما تطلق تهمة السلفية على هذا الشباب الثائر، الطامح إلى الحرية والكرامة له ولكل المواطنين السوريين، والتخلص من الإنتاج الذاتي للعبودية في مملكة الصمت التي تشكل سلطتها أكثر نماذج الحكم شؤما وعقما في العالم. إن الأمر الذي يعطي المجتمع السوري مخرجا واحدا من الأزمة، هو استعادة المبادرة وعقلنة استراتيجية التحرك في الفترة القادمة حول محاور عدة: - القدرة على إدخال كل الفئات الاجتماعية والمكونات القومية والمدن إلى ملعب التغيير الديمقراطي السلمي، عبر توضيح التخوم بين حق الشعب وباطل السلطة، خاصة وقد عادت السلطة إلى خطاب الضرورات الأمنية في تلكلخ بعد درعا واللاذقية وحمص وبانياس. - التفكيك العقلاني لسقف الخيار الأمني وشجب العنف من أي طرف كان. - بلورة برنامج انتقال سلمي، عملي ومنطقي، قادر على الرد على طروحات السلطة التي تربط بين الحراك الشعبي والفوضى وغياب الاستقرار. - مباشرة مشروع التضامن المواطني مع المناطق المحاصرة في درعا وحمص وبانياس، هذا المشروع الذي يبدأ بالتوثيق لجرائم العقوبة الجماعية، وينتهي بإعادة البناء كمهمة مجتمعية لا تنتظر قرارا من أي طرف حكومي أو خارجي وتعتمد على إمكانيات الشعب السوري نفسه. إن ما يحدث في سورية يؤكد فشل الحل الأمني، وبات البحث عن حلول سياسية أنفع للقيادة السورية والمعارضة معا، لهذا لا بد من البحث عن مخارج مرضية. ورغم كل ما حدث ويحدث ما تزال لهذه المخارج مساحة في المعادلة السورية، انطلاقا من حل يبدأ بوقف إطلاق النار على المتظاهرين، والسماح بالتظاهر السلمي، والإفراج عن المعتقلين الذين وصل عددهم إلى الآلاف، وكف يد قوات الأمن، ومحاسبة المتسببين في نزف الدماء، وإعلان الحوار الوطني الشامل بهدف الاتفاق على عقد سياسي جديد، يستجيب لمعايير الشرعة الدولية للديمقراطية وحقوق الإنسان. وفي المقابل، فإن السيناريو الأخطر يتمثل في تصاعد دوامة القمع والتحول إلى الاستقطاب على أسس الهويات الفرعية ما قبل الوطنية، مما قد يفضي إلى حرب أهلية ممتدة. لذلك تبدو القضية الرئيسة ليست هزيمة قوى الأمن للشعب السوري المطالب بالحرية والكرامة، ولكن ما إذا كان الخيار الأمني للسلطة يمكن أن يدوم من دون عقد سياسي واجتماعي جديد. فالشعب السوري قال كلمته حين خرج وهتف «ما في خوف بعد اليوم» لن يقبل بأن يعود الزمن إلى الوراء، لن يقبل أن يعيش مجددا في حالة الرعب والخوف والكبت والقهر والذل التي مورست عليه على مدى أكثر من أربعين عاما.