يؤمن المفكر الفلسطيني ساري نسيبة بأن هناك إمكانية للتعايش بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لذلك قرر إيقاف الحرب على إسرائيل، كما يقول، من أجل فسح المجال للكلمات والحوار، اللذين يساهمان في إرساء قيم الحرية والكرامة والعدالة، وهي القيم التي يقول ساري إنها حفزت الشباب على القيام بالثورات العربية، بعد أن تشبعوا بها، في غياب أي أثر للأنسقة الفكرية أو الدروس الفلسفية في هذه الثورات. في الفكر الفلسطيني (السياسي منه والثقافي)، يتبوأ ساري نسيبة مقاما مميزا. فهو أحد المفكرين الفلسطينيين العضويين، الذين يتعاملون مع السياسة كفكر لا كلحظة عابرة تتلاشى بتلاشي الحدث. فالسياسة يجب أن تكون مدعومة بقاعدة فكرية، كما تستلزم مسافة مع الحدث، مع التاريخ ومع الفاعلين. كما تتطلب المزيد من المسافة الزمنية لتفكيك الآليات التي تحكم وتتحكم في الأوضاع وفي سلوكات الفاعلين. لذا تتعارض نظرته للوضع الفلسطيني بما يكتنفه من تعقيد وثراء مع نظرة السياسي الذي تنحصر مقاربته لما هو آني أو فوري. وقد ولد ساري نسيبة عام 1949 بدمشق وهو سليل عائلة فلسطينية من القدس. بعد أن درس في جامعتي أكسفورد وهارفارد، عمل أستاذا للفلسفة في جامعة النجاح في نابلس شمال الضفة الغربية وحصل على الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية من جامعة هارفارد. وكان بين عامي 2001 و2002 مسؤولا عن ملف القدس في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية. يشغل اليوم منصب بروفيسور في الأدب القديم بجامعة القدس، وهي الجامعة العربية الوحيدة في القدسالشرقية. يسير على الخطى الفكرية لمحسن مهدي وعقلانية الفارابي وابن سينا. وقد حصل على جائزة ليو-كوبليف للسلام. ويناضل منذ عام 1980 من أجل إيجاد حل سلمي للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. وسبق أن أصدر سيرة ذاتية تحت عنوان: «كان لي موطن اسمه فلسطين». صدرت له هذا الأسبوع دراسة مترجمة عن الإنجليزية بعنوان : «عود ثقاب لا يساوي كل فلسفتنا. نظرة جديدة لمستقبل فلسطين». صدر البحث عن منشورات فلاماريون. في التصدير كتبت المؤرخة والسناتورة عن حزب البيئيين بمجلس الشيوخ الفرنسي إستير بن باسة ( وهي من أصول يهودية وإحدى المساندات للقضية الفلسطينية في الساحة الفرنسية)، بأن اللقاء مع ساري نسيبة هو دائما حدث مميز بآثار طيبة. ويخامر القارئ لنصوصه نفس الشعور. فكتاباته تترجم رؤية حكيم يحمل فوق أكتافه تاريخ الفلسطينيين، صراعهم من أجل الحرية والاستقلال. وهو تاريخ حافل بالموتى، بالدموع والدم. ساري نسيبة رجل تضرب أعماقه في جذور أرض امتلكتها عدة أياد. من سلطة العثمانيين، انتقلت إلى البريطانيين ثم الإسرائيليين والتي نحت السكان العرب هويتها الفلسطينية عبر تقلبات التاريخ. بعدها دخل الإسرائيليون والفلسطينيون في كشف لانهائي لحساب عذاباتهم. وتم تسخير هذه الآلام بكل الأشكال، إلى أن أصبحت في الأخير مكونة من هوية كل طرف على حدة. على أي فإن كل ما يتعلق بالشرق الأوسط إلا وهو مثخن بجراح آتية من غابر الأزمان، وتحديدا منذ نشأة ديانات التوحيد التي استحوذت رمزيا على الأمكنة لترصيعها برموزها وعلاماتها المقدسة جاعلة من القدس عاصمة لها. يؤثر هذا الثقل الديني على هذه المساحة الضيقة من الأرض. كما يسيل الكثير من الحبر والدم. منذ عقود، لا يوجد صراع شبيه بالصراع الواقع بين الإسرائيليين والفلسطينيين. ولا يحظى أي صراع بمثل الاهتمام الذي يحظى به هذا الصراع. في الوقت الذي تشحذ فيه النزعة الوطنية الإسرائيلية كامل قواها من حول الإبادة والمحرقة، وفي الوقت الذي نصب فيه المستعمرون الإسرائيليون أنفسهم قوة تعمل لصالح يوطوبيا تبشيرية، يتآكل الفلسطينيين صراع داخلي وخارجي ويحاولون جاهدين الحصول على مكاسب على أرضية الرموز وذلك في غياب الحصول على مكاسب ملموسة. على أي فإن النزعات الوطنية، تقول إستير بن باسة، أثرت بشكل سلبي على تاريخ الشعبين. شرق أوسط متطور وديمقراطي ساري نسيبة الذي عمل مستشارا شخصيا للرئيس الراحل ياسر عرفات، رجل مثقف، ومتشبع بالمعارف الغربية والمحلية، قرر إيقاف الحرب ضد إسرائيل، بمعنى الحرب التي لا هوادة فيها، لاستعمال الكلمات، تلك التي لا تقتل بل تلك التي تقرب بين الناس. ولمدة شهر حل ساري نسيبة ضيفا على كرسي المدرسة التطبيقية للدراسات العليا في باريس لإلقاء سلسلة محاضرات وتبادل الحوار والفكر مع الحضور. ولربما نجح في المجال الذي أخفقت فيه النزعات الوطنية. وكانت المناسبة بالنسبة للمحاضر لترسيم يوطوبيات للتعايش بين الفلسطينيين والإسرائيليين كطرحه إقامة كونفدرالية لحل المشاكل العالقة والمطروحة على السلام. واقترح في السياق نفسه توسيع هذه الكونفدرالية إلى باقي دول المنطقة وذلك بخلق شرق أوسط متطور وديمقراطي. وقد قام ساري نسيبة بجولة في التاريخ القديم والحديث إلى أن وصل إلى ثورات الربيع العربي. وقد قاسم بذلك الجمهور شغف ورغبة تجاوز المشاعر الوطنية والأحزاب لإلقاء نظرة هادئة على الوضع بالمنطقة وآفاق الحلول الممكنة. أين هم الفلاسفة؟ ليس الفلاسفة هم من وقف وراء الثورات العربية أو من مهد لها. بل شباب ملتزم ومنخرط في الحراك الاجتماعي والسياسي. واتكأت الدوافع التي قادت هذه الثورات على قيم يمكن لأي فيلسوف أن يتبناها أو يعمل بها، أهمها قيم الحرية، الكرامة، العدالة. وهي أفكار متضمنة في الكتب المدرسية. ولربما حفظ الشباب الذي ساهم في الثورة هذه القيم. المهم يقول ساري نسيبة، ليست الأنسقة الفكرية ولا الدروس الفلسفية في الجامعات هي التي كانت وراء هذه الثورات. بل كان وراء اندلاعها عود ثقاب أوقد النار في شمال إفريقيا، هذه المنطقة التي شهدت قبل أشهر، نقل جثمان الفيلسوف المغربي، محمد عابد الجابري، الذي ساهم بقوة في تحرير العقل العربي، إلى مثواه الأخير. لكن تم دفن الجابري من دون بهرجة ولا ضجيج، يشير ساري نسيبة. هل كان للرجل ولنتاجه، بمحض الصدفة، بعض التأثير على الأحداث التي وقعت فيما بعد يتساءل المفكر الفلسطيني، هل كان له تأثير تربوي وليس تأثيرا ثوريا؟ ويمكن توسيع السؤال إلى نطاق أرحب: هل للفلسفة وللفلاسفة من دور في المجتمع العربي الإسلامي؟ ثم هل كان للفلاسفة من دور يذكر؟ ثم ما هو وزن الفلسفة أمام جسامة حدث مثل إحراق محمد البوعزيزي لنفسه؟ الشيء الذي يدفعنا أيضا إلى التساؤل: ما هي الفائدة الأيديولوجية للفلاسفة؟ ظاهريا، تبدو أعلام فلسفية مثل الجابري وكأنها لم تؤثر على الحدث مثلما أثر عليه الألم، الفقر، الإهمال، والاستنكار والثورة العفوية للشعب التونسي. إلى درجة أن البعض يطرح السؤال: أليس عود الثقاب بنفس قيمة الفلسفة؟ إن فكرنا في حالة محمد البوعزيزي بعبارات سياسية فإن الجواب قد يكون ب«نعم». هل يعني بأن الفلاسفة لا علاقة لهم بمجتمعاتهم؟ لقد كان مشروع الجابري الذي اتكأ على العقلانية الرشدية ( نسبة لابن رشد)، منشغلا بموضوع «المعضلة العربية»، التي يعرفها عبد الله العروي ب«التأخر التاريخي». أما الفيلسوف المصري حسن حنفي فيتحدث عن «الداء العربي». وهذا الداء هو القلب الابستمولوجي لأغلب بل لمجموع المشاريع الفلسفية العربية. حتى المرحوم محمد أركون بحث في أشكال تحرير العالم العربي من حالة الجمود التي يعاني منها عن طريق التخلص من الماضي. عرف حسن حنفي الكوجيتو العربي بأنه فعل التحرر، خلافا للكوجيتو الغربي، المقابل للعقل. أنا حر إذن أنا موجود. وينسب حنفي كل المشاريع الفلسفية الحديثة، وطنية، عروبية، ماركسية، إسلامية، إلى هذا المشروع التحرري. فرينش كونكشون الحدث الذي خلق صدمة الممارسة لدى المثقفين العرب، يبقى بلا مجادل هو غزوة نابليون لمصر. وقد قيل وكتب الكثير في الموضوع. المهم أن العالم العربي، يقول ساري نسيبة، احتضن فلاسفة ومثقفين من كل الاتجاهات بعضهم كانوا أعلاما سياسيين مثل مهدي عامل الذي اغتالته أيادي غاشمة، أو الليبرالي سعد الدين إبراهيم الذي عرف السجن، فيما مات بعضهم الآخر في عزلة تامة مثل عبد الرحمان بدوي. وما بين هذه الحالات ثمة أعلام حظيت ببعض الشهرة مثل محمد عابد الجابري، و»الذي كان تأثيره السياسي في العالم العربي أقرب إلى الصفر». ويوجد مثقفون من صنف آخر صب عليهم الفيلسوف اللبناني علي حرب جام انتقادهم من أمثال إدوارد سعيد ويعرفهم ك «أشباه سياسيين» من أمثال بيار بورديوه أو ناعوم شومسكي. بصفته مثقفا يدافع هذا الصنف الأخير عن العمل الشعبي، اللانخبوي. يعيب علي حرب على كل من بورديو وشومسكي استغلالهما لشهرتهما الثقافية في المجال العمومي لإعطاء وزن لتصريحاتهما ومطالبهما الاجتماعية. يعتبر علي حرب بأن مواقفهما تبقى طوباوية ومثالية، بل يمكن أن تكون وخيمة لأنها تخلق آمالا وهمية وكاذبة. لكن هذا الموقف ليس بالموقف المشترك والمهيمن في المجتمعات العربية. فالمثقف لما يتدخل في المجال العمومي ويزن بكامل ثقله فإنه يقوم بذلك من باب المسؤولية. فالدور الذي قام به إدوارد سعيد يندرج في هذا السياق. كما أن الدعوة التي رفعها 150 جامعيا إسرائيليا لمقاطعة جامعة آريال اليهودية التي تم تشييدها بالضفة الغربية احتجاجا على الاحتلال الإسرائيلي هو عمل يدخل في خانة المسؤولية والقيم الأخلاقية. يبقى «الوازع الأخلاقي» محكا.
غياب لاستشراف الثورات يبدو أن عود الثقاب لم يحرق محمد البوعزيزي وحده بل أشعل النار كذلك في قسم كبير من العالم العربي. لربما وجب توجيه اللوم للمفكرين والباحثين في العلوم الاجتماعية العربية لعدم تنبؤهم بقيام هذه الانتفاضة الشعبية بنفس الدرجة التي وجب بها انتقاد علماء الاقتصاد والمنظرين الغربيين الذين لم يتنبؤوا بالأزمة المالية العميقة التي هزت العالم الغربي منذ سنوات خلت. أو لربما وجب الغفران للمفكرين والمثقفين العرب لعدم عثورهم على دواء الداء الذي يعاني منه العالم العربي واللف الدائم بحثا عن هذا الدواء كما أشار الفيلسوف فؤاد زكريا. أما مشاغل وشواغل المثقفين الفلسطينيين فتبقى جد مختلفة. فالمثقف الفلسطيني الذي يلخص جميع الأمراض والآفات في آفة واحدة ألا وهي إسرائيل. بشكل متناقض وبسبب الشتات، فإن غياب دولة فلسطينية، وبسبب الاستحواذ على الأراضي والتشويش على وسائل العيش وهزيمة 1967 والتي وضعت ما تبقى من الأراضي العربية الفلسطينية تحت سيادة إسرائيل، كان هؤلاء المثقفون أكثر نجاعة فيما يخص اختيار مصيرهم مقارنة بالمثقفين العرب. كان البعض منهم مثقفين ملتزمين. فيما انخرط البعض الآخر في مهنهم الجامعية أو رحلوا إلى المنفى. وقد لعب مثقفو الدياسبورا دورا كبيرا في الاختيارات السياسية إلى غاية منتصف الثمانينيات ليأخذ المشعل مثقفو الأراضي المحتلة. الالتزام هنا يعني التزام المجموعة الثقافية وليس التزام مثقفين معزولين أو فرديين. البعض من هؤلاء المثقفين الملتزمين، شعراء، كتاب أو دكاترة، سقطوا في مشوار النضال فيما تلقى البعض الآخر ألغاما من طرف الموساد. وللإبقاء على هذا التميز، دعا ساري نسيبة الفلسطينيين إلى التخلص فكريا من «الحقيقة الوحيدة» والانفتاح على الحقيقة بصيغة الجمع.