«من قال إن المفكر المغربي محمد عابد الجابري قد مات؟ إنه مازال حيا معنا، بفكره ومواقفه الجريئة في الفكر والسياسة والأخلاق».. بهذه الكلمات، استعاد منتدى أصيلة، خلال جلسة حميمية، ذكرى رحيل المفكر والفيلسوف العربي محمد عبد الجابري الذي فارق الحياة، تاركا وراءه مشروعا فكريا أثار جدلا واسعا داخل الأوساط الفكرية والثقافية. كان الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة، محمد بنعيسي، أول المتحدثين، حيث اعتبر أن استعادة ذكرى الجابري إنما هي استعادة لمساره الفكري والفلسفي الذي كان، في نظره، مؤثرا وغنيا بالعطاء وبالمصنفات الفكرية والفلسفية في إعادة قراءه التراث الفلسفي والفكري العربي الإسلامي. وأشار بنعيسى في مداخلته إلى الدور الكبير الذي لعبه الجابري في تأسيس الدرس الفلسفي في الجامعة المغربية وتطويره، وإلى مبادراته الرائدة في مجال تدريس الفلسفة وتخريج أفواج من الفلاسفة الجدد داخل المغرب وخارجه. وتحدث المفكر المغربي، كمال عبد اللطيف، عن سيرة الراحل وقال إنه ما زال حيا وسيظل حيا في ذاكرة المجتمع المغربي، نظرا إلى موروثه الفكري الذي خلَّفه بعد وفاته، والذي جعله يحتل مكانة متميزة في الفكر العربي. وأشار أستاذ الفلسفة في جامعة محمد الخامس في الرباط إلى أن الراحل كان يمارس العمل السياسي من منظور ثقافي، حيث كان يعبر عن عدم اقتناعه بالعمل السياسي الذي لا يعير القيمَ والمبادئ وزناً. وتميز خطاب الجابري، حسب كمال عبد اللطيف، بالتنوير في مجمل مشاريعه الفكرية، خصوصا في ظل تزايد المد النصي والقطعي والسلفي في المجتمع، يضيف المتحدث. ودعا عبد اللطيف إلى ضرورة إتمام المشاريع التي بدأها الراحل وإلى إبداع أنماط فكرية أخرى متحررة ومنفتحة وغير مقيَّدة... من جهته، ذكر المفكر اللبناني علي حرب، ثلاث سمات منحت الجابري الشهرة على المستوى العربي والدولي، أولها أن الجابري افتتح حقبة جديدة في الفكر الفلسفي العربي، تمثلت في المشاريع النقدية فكان أول من فكر بتوجيه النقد إلى العقل نفسه، تماشيا مع ما أسسه الفيلسوف الألماني كانط، الذي كان أبرزَ فلاسفة التنوير الأوربي. أما ثاني هذه السمات، حسب المفكر اللبناني، فهي أن الراحل يندرج ضمن موجة جديدة للحداثة، حيث خرج أهلها من معاقلهم الأكاديمية و«ثاروا» على مدرستهم الجامدة، فهجروا اللغة المتحجرة التي تتناول مسائل ما ورائية بعيدة عن الواقع، لكي يتناولوا قضايا حية ومصيرية، كقضايا الهوية والحرية والديمقراطية. أما ثالث السمات التي أدخلت الجابري إلى عالم الشهورة، حسب علي حرب، فهي أنه استفاد من عصر الإعلام والصورة، من خلال المشاركة في الندوات الفكرية والمؤتمرات والحوارات التلفزيونية وانخراطه أيضا في الكتابة في الصحف اليومية. من جهته، اعتبر ولد باه، من موريتانيا، أن الأعمال الموسوعية التي أنتجها الجابري غيرت جذريا مجرى الفكر العربي المعاصر فكان دون ريب، يقول المفكر الموريتاني، أكثر المفكرين تأثيرا في هذا الفكر (الفكر العربي) خلال الخمسين سنة الأخيرة. من جانبه، قال أستاذ الفلسفة في جامعة محمد الخامس في الرباط، عبد السلام بنعبد العالي، إن الراحل الجابري كان يدرك أن الصراع حول التراث ليس تضاربا في التأويلات واختلافا حول المعاني، وإنما هو كذلك صراع حول النص التراثي ذاته، ويؤكد الأستاذ الجامعي أنه «ما لم نتبيَّنْ هذا الأمر فإننا سنظل عاجزين عن تبرير الكيفية التي يقدم بها الجابري مؤلفاته مثقلة بالاستشهادات». ويضيف الباحث المغربي أن الجابري كان ينحو هذا المنحى في الكتابة، بهدف سياسي هو تحقيق ما يمكن أن يسمى «شيوعية التراث»، التي تهدف إلى الحفر في النص التراثي وعليه، لوضعه أمام الجميع وتيسير إدراكه وتقريب المسافة الزمنية والمكانية التي تفصلنا عنه. وتابع قائلا: «على هذا النحو، ينبغي أن نقول إن الجابري خلَّص التراث من أسره وجعله في متناولنا وأعطى لكل واحد منا الحق ليس في الاقتراب منه ومباشرته وإنما قراءته وتأويله»... وتطرق الروائي والكاتب المغربي أحمد المديني، في حديثه عن الجابري، إلى علاقته بالراحل وارتباطه به داخل جريدة «المحرر»، عندما كان يكتب افتتاحيتها، كما تحدث عن الجانب السياسي للمفكر المغربي، خصوصا بعد خروجه من «الاتحاد الاشتراكي»، وقال إن الراحل لم يغادر قط السياسية، لكنه كان يرسمها، بطريقته الخاصة.. ومن جهته، تطرق نجل المفكر المغربي الراحل، عصام الجابري، في موضوع حول «تحدي الحداثة»، إلى إسهامات والده الذي «أسس مشروعا فكريا نهضويا ينتج آفاقا تحليلية جديدة»، وكذا بلورة فكر عربي جديد ينفتح على عالم معاصر، دون أن يسجن في تراثه. وقال عصام الجابري إن تعامل محمد عابد الجابري مع التراث ينطلق من هاجس الارتقاء بطريقة التعامل معه إلى مستوى المعاصرة، من خلال ابتكار وسائل وآليات جديدة أكثر انفتاحا على النص التراثي.وتميزت هذه الندوة، التي حضرها عدد من المثقفين والمفكرين، بتكوين لجنة لتدوين سيرة وأعمال ومشاريع الراحل محمد عابد الجابري، حيث سيتكلف منتدى أصيلة بإخراجها.كما أن الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة وعد بأنه سيقترح على المجلس البلدي لأصيلة الذي يرأسه، إطلاق اسم المفكر المغربي محمد عابد الجابري على أحد شوارع أصيلة.