يحيل العقل، في ما يتجاوز ملكة التفكير المجرد، وفي ما يتجاوز المنهج العقلاني في بعديه الفلسفي والعلمي، وفي ما يتعدى الإيديولوجية العقلانية التي ما هي إلا نتيجة لتحويل العقل إلى قيمة ثابتة واستخدامها في السجال الفكري، إلى منظومة المفاهيم الراسخة والمترابطة التي تنظمها المجتمعات والثقافات وتعمل على ترتيبها وفق أولويات ومراتب، سعيا منها لاستيعاب واقعها الموضوعي وتمثله وتنظيمه. وبقدر ما تنجح في هذا التنظيم وتتحقق من فاعليته في تغيير الواقع وتكييفه مع حاجات الجماعة ومصالحها، تتأكد قوة النظام العقلي أو نظام العقل واتساقه ومصداقيته. غير أن الحديث عن «النظام العقلي أو نظام العقل» باعتباره مجموعة المفاهيم المترابطة والمتفاعلة فيما بينها، والتي لا يمكن فهمها إلا من خلال شبكة العلاقات العامة التي تربط فيما بينها، والتبادل الذي تقيمه داخل الكلية النسقية والوظيفية التي توحدها، لا يعني اعتماد مفهوم بنيوي مغلق للعقل يفصله عن شروطه الاجتماعية والتاريخية، وإنما النظر إلى العقل كنظام مركب ومكتسب؛ أي كخلاصة لتجربة تاريخية وحضارية. فهو مرتبط من جهة، بثقافة تعكس الشروط الاجتماعية والتاريخية التي أنتجتها والإشكاليات التي صاغتها، كما أنه متصل من جهة ثانية، بمبادئ التفكير العقلي المشتركة بين سائر الحضارات. وتبعا لذلك، فإن ظهور حضارة جديدة أو بالأحرى تطور الحضارة عادة ما يؤدي إلى تغير مفهوم العقلانية.. وبقدر ما تنجح هذه الحضارة في أن تكون سائدة، تظهر العقلانية التي تحملها وتعبر عنها كنموذج للعقلانية الحقة، وتضفي على مفهوم العقل أو نظامه السابق صورة العقل المتأخر عديم الاتساق. والواقع أن الحديث عن الشروط الاجتماعية والتاريخية لتشكل نظام العقل لا يهدف إلا إلى كشف أن العقلانية ليست مطلقة ولا حيادية؛ فهي تعكس تنظيم الجماعة لواقعها على مستوى بنيتها الذهنية، عبر إعادة تركيبه في قضايا ومقولات كبرى وإشكاليات قابلة للحل في ظل شروط تاريخية محددة. وهو ما يجعل من نظام العقل تأسيسا للمعقولية في كل مجتمع، بقدر ما يجعل المعقولية تمثل الشرط الحاكم لنشوء الفكر وتحققه كوظيفة بانية للوعي.. كما تمثل مصدر الترابطات الممكنة بين الأفكار ومصدر تبلور النظريات والتيارات المختلفة التي تسمح للجماعة بتوجيه حركتها وضبط نشاطها وإعطائه أهدافا واضحة، أي مصدر تحققها كجماعة فاعلة في التاريخ. فالعقل بهذا المعنى، يعبر عن أفق كل تفكير بالنسبة إلى كل حضارة، وهو يمثل في الوقت عينه حدود هذه الحضارة ويرمز إليها. أما وظيفة «نظام العقل أو المعقولية» فتتجلى في الكشف عن الاتساق في الواقع كشرط لاستيعابه والتعامل معه وهو ما تحيل إليه العقلانية. وبناء على هذا التحديد الوظيفي، فإن للعقل إستراتيجيته الخاصة التي لابد أن تختلف باختلاف الواقع الذي يسعى إلى تنظيمه أو بث الانسجام فيه. فإذا كان هناك مبدأ كوني للعقل، أي لاشتغال العقل، فليس هناك معقولية خارج الحضارة والمجتمعات التي تصدر عنها. الأمر الذي يعني أن الواقع، في صلته القوية بالمرجعية الحاكمة، هو المحدد الحاسم لكل عقل وعقلانية.. فحينما يتغير الواقع بشكل جزئي، في إطار نفس المدنية، فإن نظام العقل عادة ما يعمد إلى ترتيب مفاهيمه أو تحويرها حتى يحتفظ بالمطابقة بين العقل والمعقول. لكن إذا طرأ تغيير جذري وشامل على الواقع، أي تبدلا عميقا في الحضارة، فإن هذه المطابقة تغدو متعذرة دون إحداث تغييرات جوهرية في تنظيم مفاهيم العقل وطرائق عمله. أما إذا أضحت المطابقة مستحيلة فإن الواقع سرعان ما يفقد عقلانيته في مرآة الوعي ويغدو محض فوضى. وبالمقابل يصبح نظام العقل؛ بفعل عجزه عن إيجاد الاتساق اللازم في الواقع، متجاوزا بالنظر إلى العقلانية السائدة.