كان قراري أن أدوّن بصدق كل الأحداث التي عشتها، وعلى الأخص تلك المتعلقة بالفترة الممتدة من سنة 1971 إلى سنة 1984 (ثلاثة عشر عاما) لصيقاً بالعقيد معمر القذافي، إذ كنت طبيبه الخاص. تلك الفترة التي أدخلتني قصوراً ودهاليز لم تتح لغيري، وحضرت لقاءات واطلعتُ على أسرارٍ لم يكن من المفروض على مثلي حضورها أو معرفتها. هذا الكتاب يهتم بتسجيل جزء هام من هذه المرحلة، وهي على سبيل التحديد، فترة ثلاثة عشر عاما من حياة القذافي، بما أثار من تساؤلات عن شخصيته وتصرفاته وأُسُس وأهداف سياسته. كان القذافي يتميز بتصرفات غريبة، ولو أنه سينعت بالبلاهة أو بالجنون والأمثلة عليها كثيرة: - لبس قفاز أبيض في يد واحدة كما فعل في مؤتمر القمة الذي عقد بالمغرب. - بناء خيمة كلفت مليوني دينار (ما يعادل 6.6 ملايين دولار أمريكي) ليقابل فيها الزعماء. - اصطحاب خيمة معه أثناء سفره، خصوصا إلى أوروبا والولايات المتحدة. - أخذ ناقة معه ليشرب حليبها حيثما ارتحل خارج بلاده. - التأخر عن مواعيد لقاء الرؤساء في بلده أو في الخارج. - لبس أزياء مزركشة وغريبة عليه وعلى قومه وعلى العالم، مما جعله حديث المجتمعات والندوات ووسائل الإعلام المختلفة. لدرجة أن شمعون بيريز (الرئيس الإسرائيلي ) نصحه بعد أن قام الشعب ضده بأن يتنحى ويعمل عارض أزياء. - إنفاق الأموال يمينا ويسارا على رؤساء وملوك أفريقيا من أجل تنصيبه «ملك الملوك». - أبقى رتبته العسكرية (عقيد) وَمَنَحَ رتب عميد ثم لواء. وكان العمداء والألوية يؤدون التحية العسكرية له. - تخفيض رتب أبوبكر يونس جابر ومصطفى الخروبي والخويلدي الحميدي دون ذنب ارتكبوه، ثم رفعها فجأة إلى رتب متجاوزة. - من التصرفات الغريبة التي لا يتوقع ارتكابها من رئيس دولة أنه في ثلاث جلسات مختلفة، أولاهما في واغادوغو، عاصمة فولتا العليا سابقا وبوركينا فاسو حاليا، وثانيتها في القيروان في تونس وثالثتها في مطار الكويت وكانت هاته التصرفات على النحو التالي: -الأولى: في طريق عودتنا من لومي، عاصمة توغو، هبطنا في واغادوغو، ذلك البلد الفقير، حيث الشوارع الرملية، وكان هناك شارع واحد معبد. وصلنا إلى القصر الجمهوري، الذي كان عبارة عن منزلٍ متواضعٍ، وبدأ الاجتماع بين العقيد ورئيس الجمهورية، الذي كان الحاج أبوبكر لاميزانا. بعده دعينا إلى مأدبة الغداء، فجلس العقيد وأبوبكر على رأس الطاولة، وجلست بمكان ليس بعيداً عنهما. وكعادته، في كل البلاد، لا يأكل العقيد، فلديه عادة تسمى «المواكلة»، فهو ينبش في الأكل بواسطة الشوكة. لم يعجبني منظر البلد، ولم أطمئن لمستوى النظافة، فركزت على طبق الفواكه الموجود أمامي، وخصوصا فاكهة المانجا. تناولت ثلاث حبات. فجأة نهض العقيد، فنهض الجميع وخرج من القاعة، وعندما مر بالقرب مني، التفت وقال لي: «دير كم حبه في جيوبك» فقلت له: «رد بالك راهو يعرف العربية». ضحك وأكمل السير. في الطائرة سألني أين المانجا، وبدأ يشرح للوزراء أنانية الدكتور خالد وأنني أكلت كل المانجا ولم أفكر في إحضار واحدة له. -الثانية: في القيروان سنة 1975، عندما ذهبنا بدعوة من الحبيب بورقيبة لحضور احتفالات المولد النبوي، فدعينا إلى وجبة غداء خاصة. كنا أربعة، العقيد والحبيب بورقيبة وطبيب الحبيب وأنا. لم أتناول الطعام بحرية، فلاحظ العقيد ذلك، وبصوت عال قال لي: «كل يا دكتور راهو التوانسة حسبوها علينا»، فعلق الحبيب بورقيبه قائلا: «يعيشك راك أنت والدكتور في بلادكم». -الثالثة: في سنة 1981 وأثناء عودتنا من إثيوبيا اتجهنا إلى الكويت، وفي مطار الكويت عقد اجتماع بين الوفد الليبي، حضره وزير الخارجية علي التريكي، ومن الجانب الكويتي كما ذكرت حضر الأمير الشيخ جابر، وولي العهد الشيخ سعد، ووزير الخارجية آنذاك (الأمير حاليا) الشيخ صباح الأحمد. وبعد الاجتماع، دعينا إلى مأدبة الغداء، وكان الحاضرون من الكويت الثلاثة الكبار، ومن الوفد الليبي العقيد، والتريكي وأنا. لم أجد الجو مريحا، ولم أتناول الطعام كالعادة، فلاحظ العقيد هذا وقال بصوت واضح: «كول يا دكتور راهو الكويتيين حسبوها علينا». - في الكرملين، وفي إحدى الزيارات، كانت صفية ترافقنا ومعها أصغر أبنائها آنذاك هانيبال، استدعيت إلى جناح العقيد، وكان هناك ممر كبير وعريض يؤدي إلى الغرف داخل الجناح الرئاسي. هذا الممر مفروش بالسجاد الفاخر. وأثناء مروري بالممر، لاحظت أن هانيبال يتمرغ على الأرض وفي حالة مزرية من النظافة بشكل لا يليق بابن رئيس دولة. لما قابلت العقيد، ذكرت له هذا واقترحت أن يرسل أحداً ليحضر هانيبال إلى داخل الجناح، فكان رد العقيد في منتهى الغرابة: «يا دكتور هدول أولاد بدو، خليه يتمتع شوي». أعتقد أن هذه من الصفات العقيدية التي لا يتمتع بها زعيم آخر. استغلال السلطة المخولة له
كان يستغل هذه السلطة للسيطرة على زملائه ومن حوله. ومن أغرب ذلك الاستغلال ما حصل للرائد مختار القروي أثناء حفل زفافه. ومثال آخر إصدار حكم بسجن الرائد الخويلدي في كل نهاية أسبوع ولمدة طويلة. والأغرب من هذا أن الرائد الخويلدي كان ينفذ الأمر ويذهب للمبيت في السجن يومي الخميس والجمعة ليعود يوم السبت إلى مقر عمله. لم أصدق هذا الخبر في بادئ الأمر، ولكن بعد أن خَبرتُ الأمر بنفسي أصبحت أميل إلى التصديق، حيث تعرضت شخصيا لمثل تلك التصرفات الغريبة، ففي فترة من الفترات، لاحظت أنني أُستدعى في الساعة الثامنة صباحا وأبقى في انتظاره ساعات وساعات دون جدوى، يقدم لي الأكل والفواكه والمشروبات كما أشاء، وكلما طلبت من سكرتيره الخاص إبلاغه بوجودي، كان يجيبني: «حاضر»، وفي آخر النهار كنت أُبَلغ: «شكراً يا دكتور.. من فضلك ارجع في الغد». تكررت هذه الحكاية عدة أيام دون أن أقابله. لم أفهم الأمر في أول المطاف. ولكن ما وقع لي شخصيا أكد لي ما كان يحدث مع الخويلدي. ما حصل هو أنني استدعيت على عجل في الساعة الحادية عشرة من مساء يوم جمعة بالصيف، ولما سألتهم أين هو، أُبلِِغتُ أنه في بنغازي، فسألت كيف الوصول إليه الآن، فأبلغت أن طائرة نفاثة مدنية ستقلني من مطار أمعيتيقة العسكري إلى مطار بنينة في بنغازي. توجهت على الفور إلى المطار، فوصلت إلى مقر العقيد في الساعة الواحدة صباحاً. طلبت من المرافقين إبلاغه بأنني وصلت، فأُبلغتُ بأنه غير موجود، وأنه ذهب لحضور حفل زفاف أحد الضباط. انتظرت عودته، وكانت الساعة الثالثة صباحاً. طلبت منهم إبلاغه بوجودي، فأُجِبْتُ بأنه يتناول طعام عشائه. انتظرت نصف ساعة، وكررت الطلب، فأُبْلِغْتُ بأنه يشاهد شريط فيديو صور أثناء الحفل. كانت الساعة الرابعة صباحا، فأبلغتهم بأنني سأنام، وأن عليهم إبلاغي عندما يطلبني. استيقظت في اليوم التالي على الساعة العاشرة صباحا، وبمجرد أن تناولت فطوري، حضر نادله سعد خميس وطلب مني دواء للصداع، وطلب مني الاستعداد للمغادرة فوراً إلى مدينة سرت. لم أفهم هذا التصرف. غادرنا براً إلى مدينة سرت (المسافة 600 كم)، وتوقفنا في الطريق للاستراحة في مدينة البريقة. لم يطلبني، بل طلب مزيدا من حبوب علاج الصداع. وصلنا سرت في العاشرة مساء. وفي صبيحة اليوم التالي وعلى الساعة العاشرة صباحاً، استدعاني وقال لي: «يا دكتور، أنت مهملني ومش سائل فيا، أنت مهتم بعملك، بارك الله فيك إحنا آسفين عطلناك»، وطلب من حارسه في تلك الوهلة- كان مسعود الزغرات- أن يجهز أفضل سيارة لديهم لإعادتي إلى مدينة طرابلس. ملخص ما حصل هو أنني في منتصف الليل أخذت جوا على عجل مسافة 1050 كم (المسافة بين طرابلس وبنغازي) ثم براً مسافة 600 كم في الصحراء الحارقة (المسافة بين بنغازي وسرت) ثم براً مسافة 450 كم (المسافة بين سرت وطرابلس)، لا لشيء إلا عقوبة على الجرم الكبير الذي اقترفته (عدم سؤالي عنه أو مقابلته لمدة أيام). لم أفهم الأمر للوهلة الأولى، ولكن تكرار استدعائي دون مقابلته يومين أو ثلاثة، وحكاية الخويلدي، ثم هذه المرة التي كانت الأمور فيها واضحة تمام الوضوح، كل هذا حل ذلك اللغز واكتشفت أنه كان يسجنني طيلة تلك المدة عقابا لي. استدعيت مرة بطلب من العقيد، فتوجهت إلى المستشفى الخاص به، حيث أعلمت بأنه ينتظرني هناك. وجدت وزير الصحة الأستاذ الدكتور مراد لنقي، والدكتور سالم الحضيري عميد كلية الطب، جالسين معه. كان يشكو من وعكة بسيطة، فقمت بفحصه، كتبت الوصفة، وأعطيتها للصيدلي المناوب. في هذه الأثناء وبينما نحن في انتظار الدواء، طلع العقيد بإحدى أفكاره الغريبة، حيث أفتى «المفروض أن الطبيب يشخص المرض فقط، ثم يتولى الصيدلي تحديد الدواء». هلل كل من مراد لنقي وسالم الحضيري وكبرا إعجابا بالفكرة. استدركتهم فوراً قائلاً: «رويدكم. كيف هذا؟ إن وصف الصيدلي الدواء، من المسؤول عن المضاعفات والآثار الجانبية (فهو لا يعلم ما لدى المريض من أمراض أخرى ومشاكل صحية، ثم من المسؤول عن متابعة الحالة وتقدمها أو تأخرها، وزدت على هذا قائلا: اسألوا الصيدلي المناوب من عَلَمه (الصيدلة العيادية) Clinical Pharmacology. إنه تلميذي، فكيف يكون هذا؟». استوعب العقيد الموقف وتراجع عن اقتراحه. هذه الأحداث هي التي أدت بالعقيد لأن يحتقر رأي من حوله من مساعدين لعلمه بأنهم جهلة أولاً ومنافقون ثانيا. في أحد احتفالات عيد الثورة (الفاتح من سبتمبر) وفي الساحة الخضراء، ألقى العقيد كالعادة خطابا مطولا على مدى عدة ساعات أذيع على الهواء مباشرة. وأهم ما قاله في ذلك الخطاب أنه رجل ثوري، وليس رجل حكم، ولذا يطلب من مصر وسوريا بدء المباحثات الفورية من أجل الوحدة، وإن رفض طلبه سيترك ليبيا ويتطوع جنديا مقاتلا مع الفلسطينيين واللبنانيين في جنوب لبنان. انتهى الخطاب، وأُبلِغتُ بأننا سنتوجه إلى منزله. هناك عانقت العقيد وهنأته وشكرته على الحس الثوري والاندفاع لتحقيق الخير للأمة. كان في ذلك الوقت يزوره ملك التونغا، وأذكر يومذاك أنني مازحت العقيد قائلا: «كيف أأتمن ملكا على نفسه منك ليزورك في دارك، أنت لا تؤتمن على الملوك» قهقه، وذهب لتغيير ملابسه المبتلة ولمقابلة الملك. تناولت العشاء في منزل العقيد، ثم بعد انتهاء الزيارة الملكية، اتجهنا إلى غابة جودايم في الطريق المؤدي إلى مدينة الزاوية. هنا وقعت المفاجأة العقيدية. اللقاء كان من اللقاءات السريةً جداً، ولا يحضره إلا نخبة النخب من أعوانه قواد اللجان الثورية والطلبة الثوريين.لم يكن مسموحا لأي وزير أو أي أجنبي «سواي»، وكما قلت، فهي الثقة العمياء أولاً والفوضى ثانيا، حيث لا يستطيع مرافقوه تنظيم متى أحضر ومتى لا أحضر، فلا أحد منهم يعلم ما الذي سيحصل، زد على هذا أنه لديهم تعليمات بأن أتبعه إلى أي مكان حتى البحر. هناك ألقى العقيد خطابا آخر، أهم ما قاله هو أنه نهى الثوريين عن التحدث مع البعثيين أو حتى لقائهم. فهذه الفئة (حسب قوله) فئة ضالة، خائنة متحزبة. شتان ما بين الموقف الحالي وموقف الساحة الخضراء. دعوة (على الملأ) للوحدة الفورية مع سوريا البعثية، يتبعها بعد ساعة (في السر) تهديد ووعيد لمن يتعامل أو يتصل بالبعثيين. حقاً إنها تصرفات عقيدية. أستاذ أمراض القلب والطبيب الخاص لمعمر القذافي سابقا