سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
وزير الدفاع اقترح علي أن أضع على جبهة العقيد خلا وزيتا وثوما ليشفى من مرضه طلبت من الليبيين أدوية بمليوني دولار فوافقوا ووضعوها رهن إشارتي لكن ياسر عرفات أراد ثمنها نقدا
كان قراري أن أدوّن بصدق كل الأحداث التي عشتها، وعلى الأخص تلك المتعلقة بالفترة الممتدة من سنة 1971 إلى سنة 1984 (ثلاثة عشر عاما) لصيقاً بالعقيد معمر القذافي، إذ كنت طبيبه الخاص. تلك الفترة التي أدخلتني قصوراً ودهاليز لم تتح لغيري، وحضرت لقاءات واطلعتُ على أسرارٍ لم يكن من المفروض على مثلي حضورها أو معرفتها. هذا الكتاب يهتم بتسجيل جزء هام من هذه المرحلة، وهي على سبيل التحديد، فترة ثلاثة عشر عاما من حياة القذافي، بما أثار من تساؤلات عن شخصيته وتصرفاته وأُسُس وأهداف سياسته. من الطرائف والسخافات التي تعرضت لها طوال تلك الفترة، وتعاملت معها بمنتهى السخرية، أنه لما طال أمد مرض العقيد، بدأ كل الأحباء والمنافقين بإبداء آرائهم واقتراحاتهم وهو يرفض ويقول لهم: «ثقتي بالدكتور خالد لا حدود لها ولن أوافق على طلب أي مشورة طبية بدون موافقته». أبلغتهم أن الأمور تسير في المسار الطبيعي وأنني لست بساحر وأن الوقت سيثبت صحة أقوالي. كان أطرف ما سمعت من تعليقات من المقدم أبو بكر يونس، حينما اقترح عليَّ أن أضع على جبهة العقيد خلا وزيتا وثوما، وهذا كفيل بأن يعالج المرض. أجبته «بالك يا مقدم أبوبكر راك نسيتي بعض الشيء البصل والطماطم والخبز، راهو هادي غادي تولي سلاطه وتبي لها زردة». قهقه العقيد. أما الرائد عبد السلام فقد اقترح الاستعانة بطبيب إنجليزي لإبداء الرأي، وقلت له فورا: «يا رائد عبد السلام، خليك في شغلك هادي مش دبابة ولا مدفع بيش تفهم فيها وتقترح». بمرور الوقت، تحول الضغط إلى وزير الصحة، الذي طلب مني أن أستدعي طبيباً من بريطانيا لنخرج من هذه الدوامة. فعلا استدعيت طبيبا من مستشفى «برمبتون» قام بمراجعة الملف كاملا وما تم عمله والعلاج الموصوف ثم فحص العقيد وقال: «أوافق تماما على ما توصل إليه الدكتور خالد وليس لديَّ ما أضيف». على الفور علق العقيد: «ريتوا، بس فضحتوا فينا» والتفت نحوي مخاطبا: «بالك تزعل يا دكتور، راني قلت لك هادوا ناس متخلفين». في نفس السنة، بعد أن تم عقد اتفاق بين وزارة الصحة وكوريا الجنوبية، توجهت والدكتور عبد الوهاب الشلي، نائب رئيس قسم التوظيف في الوزارة، إلى سيول من أجل التعاقد مع ممرضات للعمل في مستشفى القلب بأقسامه الأربعة (قسم الباطنة قلب، قسم الجراحة والعمليات، قسم قلب الأطفال والحوامل مرضى القلب وقسم الكلية الصناعية). لبعد المستشفى عن مدينة طرابلس (12 كلم)، ومن أجل تسهيل الحركة وتقليل الوقت الضائع، اقترحت في بداية الأمر على الوزير بناء مساكن للممرضات والعاملين لدينا بالقرب من المستشفى. وافق الوزير وشرع بالبناء وانتهى العمل في وقت قياسي بالنسبة لليبيا. تقرر تخصيص جزء من تلك المساكن للممرضات الكوريات. بدأنا في إجراءات شراء الأثاث والمعدات اللازمة لتلك المساكن، دخلت الإجراءات في دوامة الروتين وفوضى وكسل الموظفين والمورد المواطن (حيث تقرر شراء المتطلبات من السوق المحلي لكونها أشياء معتادة). في ظهر يوم من الأيام، أبلغني السفير الكوري الجنوبي أن الممرضات الكوريات وعددهن 200 سيصلن بالطائرة في الغد. وقعت أنا في أزمة، إذ لم يتم تجهيز أماكن إقامتهن. اتصلت بالدكتور محمد افحيمه (رئيس قسم الصيدلة والمعدات في وزارة الصحة آنذاك) وأبلغته بالأمر، فقام بدوره بمكالمة المورد المحلي الذي كنا قد اتفقنا معه، وقد وعد بمحاولة توفير المطلوب في أقصر وقت ممكن (شهر أو شهرين). ضربت أخماسا في أسداس، ولم يكن أمامي من بد إلا اللجوء إلى الطرق الثورية (التي لا تعترف بالروتين والقوانين واللوائح). قمت بزيارة الرائد الخويلدي الحميدي (الذي أصبح المسؤول عن تجييش المدن والشعب المسلح) في مقر عمله، وشرحت له المأزق والكارثة التي أمر منها. ابتسم بمنتهى السعادة، طلب الشاهي، وعلق: «ما أحوجنا لأطر من نوعك في كل مكان. لا عليك، بينما أنت تحتسي كأس الشاي ستنتهي المشكلة». طلب مساعده وأمره بتلبية كل متطلباتي فورا ودون أي تعطيل إجرائي. ما إن عدت إلى المستشفى حتى بدأت تتقاطر الشاحنات العسكرية محملة بما نحتاج. تم تأثيث كل المساكن من ألفها إلى يائها بمنتهى السرعة. في اليوم التالي، وعند وصول الممرضات، نامت كل منهن في غرفتها وعلى فراشها المقرر. ذكرت هذه الحادثة للإيضاح والتأكيد على صفاء وإخلاص وتفاني بعض من شباب الثورة، ولأبين أن السبيل الوحيد للعمل كان عن طريق الإجراءات الثورية (غير العادية). تكررت مثل هذه الأمور أكثر من مرة. لا بد من الذكر هنا تعاون المهندس جمعة الأربش، وزير الكهرباء ومحافظ مصرف لييبا المركزي، اللذين لم يألوا جهدا، كل فيما يخصه، بدعم المستشفى وتلبية متطلباتنا التي كانت في بعض الأحيان أكبر من صلاحياتهما. من المعلوم أن ياسر عرفات قام بجولات مكوكية بين القاهرةوطرابلس، محاولاً إصلاح ذات البين وتجنب الصدام المسلح، بعد أن وصلت الأمور إلى حدها. قبل تلك الجولات، وقع صدام كبير في جنوب لبنان بين إسرائيل والفلسطينيين، مما دعاني، بصفتي رئيساً لفرع الهلال الأحمر الفلسطيني في ليبيا، إلى الاتصال بالمسؤلين الليبيين وطلبت منهم دعما طبياً (أدوية ومواد طبية وجراحية) فأمر وزير الصحة بفتح مخازن الوزارة، وسمح لي باختيار ما أتصور أنه يصلح للمقاتلين. بنفس الحماس، ساعدني الموظفون والعمال الليبيون وتمت تعبئة شاحنتين كبيرتين. طلب مني ممثل منظمة التحرير في طرابلس (سليمان الشرفا – أبو طارق) تسلمهما، فرفضت، وأبقيتهما في مرأب وزارة الصحة الليبية تحت حراسة الإخوة الليبيين لعدم ثقتي في مسؤولي منظمة التحرير، إلى أن وصلت الطائرة التي ستشحن عليها الأدوية. أشرفت شخصيا على تحميلها لضمان سلامة الشحنة ووصولها إلى الهلال الأحمر الفلسطيني في بيروت. وبسبب استمرار الاشتباكات، توجهت لمقابلة الشيخ محمود صبحي (أمين جمعية الدعوة الإسلامية آنذاك وأستاذي في مرحلة الدراسة الثانوية)، رجل فاضل ووطني صالح. طلبت منه دعماً للهلال الأحمر الفلسطيني قائلاً: «يا أستاذي، الهلال الأحمر في حاجة ماسة لأدوية، ولقد قام الدكتور مفتاح بعمل أكثر مما يمكنه، أريد منك المزيد. لا أريد نقوداً، فلن أستطيع علاج مصاب بدولار أو دينار، أنت تمثل مؤسسة عظيمة، أرجوك وفر لي ما أمكنك». نهض الشيخ عن مكتبه، وطلب مني الجلوس مكانه، وقال: « أكتب لي ما تحتاج ولا تبخل، فإن شاء الله نحن من الفاعلين». كتبت له قائمة بالأدوية واللوازم الجراحية، وقلت له: «ربما يصل ثمن هذه القائمة إلى مليوني دولار»، قال: «لا عليك، أين التسليم؟». قلت «هذا سؤال عسكري، دعني أذهب وأسأل ياسر عرفات، فهو القائد العام ولديه الجواب». كان ياسر عرفات في ذلك الوقت يقيم في دار الضيافة القريبة من مقر جمعية الدعوة الإسلامية. توجهت لمقابلته، فوجدته في اجتماع مع السفير السوفياتي. كتبت له رسالة «لقد وافق الشيخ محمود صبحي على التبرع لنا بأدوية بمبلغ مليوني دولار، وطلب مني تحديد مكان التسليم». رد علي َّكتابةً «يطلب تسليم المبلغ نقديا». أسقط في يدي ولم أعد إلى الشيخ خجلاً من هذا الطلب الذي يدل على الكثير مما وراءه من حقائق. في إحدى جولاته المكوكية، دعانا للاجتماع (أعضاء مجلس إدارة فرع الهلال الأحمر الفلسطيني: أنا، والمرحوم الدكتور محمد الريس، والمرحوم الدكتور فتحي اللولو، والحاج محمد اسكيك، ومحمود الفاخوري والدكتور يعقوب الهواش). عندما وصلنا إلى دار الضيافة حيث كان يقيم، أُبلغنا أنه يتناول طعام العشاء وأن علينا الانتظار الذي دام ما يقارب ثلاثة أرباع الساعة. أطل علينا ياسر عرفات مسرعا يرافقه المهندس طه الشريف بن عامر، وعندما لمحني قال لي بلهجته المصرية المعتادة: «معقوله دي، أنا يوصلني أدوية من الشيوعيين ومن كوبا وأنت ما تبعتليش ولا أمبول بنسلين!»». أجبته فوراً «لقد أرسلت لك شاحنات من الأدوية، ليس مني، بل من الغلابة دول (مشيراً إلى المهندس طه الشريف بن عامر)، شحنت على طائرة أنتم من اختارها. إن لم تصلك، فسيكون إما أخوك فتحيسرقها أو باعها وإما أبو طارق وجه الطائرة إلى وجهة أخرى، وكذلك فإن الشيخ محمود صبحي وافق على تزويدنا بأدوية بمليوني دولار وأنت طلبت المبلغ نقدا. لم يتوقع مني هذه الجرأة وأُحرج أمام المهندس طه الشريف فقال: «طيب طيب، أنا مسافر لمصر دلوقتي، ولما أرجع حنتفاهم». كانت مفاهمة ياسر عرفات أن أصدر فرماناً بتوقيع القائد الأعلى، أقال فيه مجلسنا وأحالني على التحقيق. رددت عليه بإغلاق مقر الهلال الأحمر الفلسطيني لمدة أربع سنوات. أبلغت الرائد الخويلدي بما حصل، فقرر إقامة حراسة دائمة على مقر الهلال خوفا من أن يقتحمه زبانية ياسر عرفات، الذي لقبه الإخوة الليبيون «ياسر عرفناك» بمعنى «كفى لقد عرفناك» كما لقبوا أبوطارق، مندوبه في طرابلس، ب«أبو سارق». د. الإدريسي الخيري خالد - أستاذ أمراض القلب والطبيب الخاص لمعمر القذافي سابقا