كان قراري أن أدوّن بصدق كل الأحداث التي عشتها، وعلى الأخص تلك المتعلقة بالفترة الممتدة من سنة 1971 إلى سنة 1984 (ثلاثة عشر عاما) لصيقاً بالعقيد معمر القذافي، إذ كنت طبيبه الخاص. تلك الفترة التي أدخلتني قصوراً ودهاليز لم تتح لغيري، وحضرت لقاءات واطلعتُ على أسرارٍ لم يكن من المفروض على مثلي حضورها أو معرفتها. هذا الكتاب يهتم بتسجيل جزء هام من هذه المرحلة، وهي على سبيل التحديد، فترة ثلاثة عشر عاما من حياة القذافي، بما أثار من تساؤلات عن شخصيته وتصرفاته وأُسُس وأهداف سياسته. في غشت 1980 مرضت الأخت الكبرى لمعمر، الحاجة سالمة، بسبب ذهابها إلى مكان عين ماء ساخن واغتسالها به، فأصابها التهاب رئوي، وهي في الأصل كانت تشكو من مرض الأزمة الصدرية وانتفاخ الحويصلات الرئوية. أدخلت إلى العناية الفائقة في مستشفى القلب بتاجوراء، وقدمت لها العناية اللازمة تحت إشرافي. وبقيت مدة طويلة لم يزرها العقيد، مع العلم أنها كانت في مقام والدته، وهي التي اعتنت به طيلة طفولته. بسبب تكرار سؤالها عن عدم زيارة العقيد لها، وانقضاء كل المبررات التي كانت لديَّ، اتصلت بالرائد الخويلدي الحميدي، وشرحت له الموضوع، وطلبت منه أن يقوم بزيارتها، ففعل. مع مرور الوقت، زاد مرضها واضطررنا إلى وضعها في جهاز التنفس الصناعي، فتحسنت حالتها إلى درجة كبيرة، لكننا اكتشفنا بأنها لا تستطيع الاعتماد على ذاتها والتنفس التلقائي، إذ كلما حاولنا إيقاف جهاز التنفس الصناعي كانت حالتها تسوء. بعد التشاور مع وزير الصحة، أبلغت العقيد بأننا سنرسل الحاجة سالمة إلى سويسرا، فلربما لديهم خبرة أكبر من أطباء التخدير الموجودين في مستشفى القلب، فوافق. جهزت طائرة إسعاف ذات محركين مروحيين ونقلت الحاجة سالمة إلى المطار وأشرفت بنفسي على نقلها إلى داخل الطائرة. تم كل شيء على ما يرام. كنت قد اخترت أحد أكفأ أطباء التخدير لدينا يدعى الدكتور وائل عبد الحميد لمرافقتها والإشراف عليها حتى وصولها إلى سويسرا. ودعت الحاجة وهبطت إلى أرض المطار.صعد الطيار ومساعده، وتبعهما طبيب التخدير. فجأة استغاث معلنا أن قلب المريضة توقف. هرعت إلى الطائرة فاكتشفت أن الأنبوب الموصل للهواء للمريضة مغلق. فعل هذا، عن طريق الخطأ، الطيار أو مساعده لضيق الطائرة. عُمِلَ الإسعاف اللازم، وعاود القلب العمل، لكن تلك الحادثة قضت على أي أمل في شفاء الحاجة، إذ كانت القشة التي قصمت ظهر البعير، ومن ثم وزارة الصحة بالكامل. وصلت المريضة إلى سويسرا لِيُعْلَنَ عن وفاتها بعد 48 ساعة. وشى البعض للعقيد بأن سبب الوفاة تأخر وزير الصحة في اتخاذ القرار وإهماله أمورا تخص العقيد، حُمّلَ وزير الصحة وزر وفاة الحاجة سالمة، فنُحِّيَ عن وزارة الصحة وعيّن وزيراً مسؤولاً عن أمور العقيد الداخلية (أمين الاتصال الداخلي). فيما عيّن الدكتور مراد لنقي، أستاذ جراحة العظام وعميد كلية الطب جامعة قاريونس، وزيرا للصحة. بدأ حال وزارة الصحة بالانهيار السريع، اجتماعياً وأخلاقياً، علماً وعملاً . إذ شتان بين مفتاح الأسطى عمر ومراد لنقي من ناحية الاهتمام بالعمل والتفاني فيه. أوكل الدكتور مراد العمل لصغار الموظفين الذين كانوا غاية في التسيب. وبهذا انتهى العهد الذهبي لوزارة الصحة، وبدأت الخدمات تتهاوى الواحدة تلو الأخرى. وما هي إلا سنوات قليلة حتى عاد وضع الخدمات الصحية في ليبيا إلى ما كانت عليه سنة 1972. بدأ المرضى الليبيون يغزون أوروبا، تارة بريطانيا، وأخرى ألمانيا وسويسرا ثم النمسا، ومن بعد الأردن وتونس ومصر. بسبب الانهيار هذا، وعدم اهتمام أي كان بتدارك الأمر، وبالرغم من تكرار شكواي وتنبيهاتي للمسؤولين، بدأت أفكر في ترك ليبيا. وفي إحدى رحلاتنا إلى سبها، رافقنا عبد المجيد القعود، أمين الاتصال الخارجي، فأبلغته بأن هذه الرحلة هي الأخيرة لي إلى الصحراء معهم، وأنني سأتفرغ لعملي العلمي. يومذاك أسدى لي نصيحة، كان لها أكبر الأثر في قراري، قال: «إن قررت الخروج من هذه الدائرة – يقصد دائرة العقيد- عليك ترك ليبيا، فلا أمان لك خارج هذه الدائرة». بدأت أضع خطة لمغادرة ليبيا. كنت متأكداً أنني إن تركت ليبيا فجأة، فإن العقيد سيقتص من أسرة والدي. أقنعت الوالد والوالدة بالمغادرة والاستقرار في عمان، وأشرفت على رحيلهما وتسهيل كل المعاملات اللازمة، وما أكثرها وأعقدها. في سنة 1982، أُصيب الدكتور مفتاح بجلطة قلبية، فأصررت على أخذه إلى لندن لإجراء عملية جراحية قام بها الجراح جون باركر. وانتقلنا إلى شقة في لندن من أجل النقاهة. كانت ترافقنا زوجته وسليمان الغماري وزوجته. كان سليمان من أخلص معاوني الدكتور مفتاح، حيث كان يعمل مديرا للمختبرات الطبية في مدينة البيضاء، وبدعم مفتاح له غير المحدود ، رقي إلى مدير للخدمات الطبية، ثم ممثلاً لليبيا في منظمة الصحة العالمية، وأخيراً عُينَ وزيراً للصحة في التسعينيات. في إحدى الجلسات في لندن قال لي سليمان: «خذ نصيحة من واحد يحبك. اترك ليبيا بأسرع ما يمكن، فالقائمون على الأمر لا أمان لهم وسيتخلون عنك لأتفه الأسباب». كان ذلك على مسمع من الدكتور مفتاح، الذي لم يعلق بأي كلمة، ولكن عينيه اغرورقتا بالدموع. انتقلنا إلى سويسرا لاستكمال النقاهة. وبعد أيام، عدت إلى طرابلس وكلي إصرار على ترك ليبيا، ولكن كيف؟ وما الحجة التي سأقدمها للعقيد وأنا أعامل معاملة لم يحظ بها أي من أبناء ليبيا ولا وزرائها؟. في أواخر شهر غشت سنة 1984، زار الرئيس حافظ الأسد ليبيا وكانت زيارته إلى مدينة البيضاء. استدعيت لمقابلة العقيد، فأبلغني أنه علم بنبأ استقالتي، واستفسرني عن السبب. لم أستطع إبلاغه بأن الأمور بسبب أفكاره وإدارته التي لم تعد تحتمل، فوجدت مبرراً آخر، وهو أن مستوى العمل في وزارة الصحة ومستشفى القلب تدنى لدرجة غير محتملة. استدعى سكرتيره أحمد رمضان وأعطاه أمراً بالاتصال بالأخ جاد الله أمين اللجنة الشعبية العامة (رئيس الوزراء) وإبلاغه بتنفيذ ما يطلبه الدكتور خالد لبعث الحياة في وزارة الصحة، وإن لزم الأمر إجراء تغيير فيها ابتداءً من الوزير إلى الفراش. شكرت العقيد وغادر حافظ الأسد، ورجعنا إلى طرابلس. في يوم 28 غشت 1984 التقيت بالأخ جادالله وقلت له: «الموضوع كبير، خلينا نفوتو أعياد الفاتح وعيد الأضحي وناكلو الحولي ومن بعد نهذرز» فوافق على رأيي. كنت قد قررت السفر إلى الإمارات للالتحاق بعملي وشحنت كل أمتعتي وأخذت كل حقوقي المالية. حجزت للسفر إلى زيورخ على الطائرة السويسرية في يوم 3 سبتمبر. وفي مساء يوم 2 سبتمبر 1984 ذهبت من قبيل الاحترام والصداقة لمقابلة صديقي الدكتور مفتاح لأُبلغه بما عزمت عليه. تأثر كثيرا وقال لي: «ابق في سويسرا ما شئت وعلى حسابنا، وسأكلم السفير هناك ليقوم بالواجب». شكرته وقلت له: «لا داعي لدي ما يكفيني من المال». غادرت ليبيا بينما المسؤولون والجميع مشغولون في أعياد الفاتح وأكل «الحولي». في ديسمبر من نفس العام، اتصل بي أحمد رمضان يلومني ويطلب مني العودة إلى طرابلس للتفاهم وحل كل المشاكل. اعتذرت له وقلت: «أنا الآن موظف صغير ذو مسؤولية كبيرة ولا أستطيع مغادرة أبوظبي وقت ما أشاء، كما كنت أفعل أيام عملي في ليبيا». بعد أسبوع هاتفني الدكتور مفتاح وأبلغني بأنهم على استعداد لطلب الإذن لي من الشيخ زايد وإرسال طائرة خاصة على عجل، فاعتذرت. علمت بعد ذلك بأن والد العقيد كان مريضا وتوفي. على أغلب الظن أن مهاتفة الدكتور مفتاح كانت بأمر من العقيد. أستاذ أمراض القلب والطبيب الخاص لمعمر القذافي سابقا