لم يكد رئيس الحكومة، عبد الإله بنكيران، يتحرر من ربطة عنقه «الرسمية» ويستأنس بأول اجتماع مع فريقه الحكومي، حتى بدأ في تلقي أولى الرسائل المتعلقة بالتحديات والعقبات التي سيجدها أمامه. الرسالة الأولى التي وصلت إلى بنكيران، عبر البريد العاجل والمضمون، لم تكن من المعارضة الاشتراكية التي حنت إلى ضرب الطاولات بعد سنين عديدة من «التورط» في التسيير، ولا كانت من تحالف «جي 8، ناقص واحد» بعد أن هجرته الحركة الشعبية التي لم تستطع مقاومة إغراء كراسي الحكومة الوثيرة وفضلت مشاركة الإسلاميين الحكم على البقاء في تحالف ولد مشوها.. «البيان رقم 1» الذي تلقاه بنكيران كان من مدينة تازة التي انتفضت يوم الأربعاء قبل الماضي، وشهدت مواجهات عنيفة بين الأهالي -الذين خرجوا لمساندة أبنائهم من المعطلين- ورجال الأمن والقوات المساعدة، خلفت إصابات متفاوتة في صفوف الطرفين. رسالة تازة إلى رئيس حكومة الدستور الجديد كانت واضحة وصريحة، رغم اختلافي مع طريقة ديباجتها والأسلوب الذي عبرت به عما يختلج في صدور أصحابها، إذ إن المطالبة بالحقوق الاجتماعية والسياسية، في نظري، يجب أن تكون عن طريق الاحتجاج السلمي دون عنف ومس بحقوق الآخرين أو تخريب للممتلكات العامة أو الخاصة.. إنها تذكر بنكيران بعنوان وضعه المراقبون لبداية عهد الملك محمد السادس، حين بدا واضحا أن الملك الجديد سيعتمد نهجا مخالفا لأسلوب حكم والده الذي كان يولي أهمية قصوى للسياسات الخارجية على حساب تدبير الشأن الداخلي.. وهو: «تازة قبل غزة». تازة -التي قال وزير الشؤون العامة والحكامة، نجيب بوليف، أول أمس، إن «أولويات رئيس الحكومة» تمنعه من زيارتها- تصرخ اليوم في أذن بنكيران بطريقتها لتثير انتباهه إلى «مغرب الهامش» حيث تعيش مناطق عدة في عصور أخرى، وفي شبه عزلة عن العالم الذي يسعى زعيم «البيجيدي» إلى طمأنة كباره بأنه لا خوف على مصالحهم واستثماراتهم من حكومته «الملتحية».. تازة تذكر بنكيران بأنها «قبل غزة» وبأن هناك مغربا عميقا عمق الجراح التي تنخر دواخل أهاليه الذين يعيشون البطالة والحرمان والعوز، ويعانون في صمت.. مغرب آخر لا تعنيه «الشعارات المترفة» لمناضلي المركز أو هي، على الأقل، ليست من أولوياته.. فلا هو يدعو إلى ملكية برلمانية أو «اقتسام حقيقي للسلطات»، ولا تهمه مناقشات محللي الصالونات المخملية حول «حكومة الظل» أو «حكومة الشمس»، ولا معارضة القاعات المكيفة التي تتربص بالبرنامج الحكومي أيا كان مضمونه أو أهدافه.. مغرب همه الوحيد هو تأمين لقمة العيش التي يسد بها أفواها مفتوحة في بيته، دون أن يراق ماء وجهه أو تمتهن كرامته.. مغرب لا يضطر فيه كسبُ القوت بعضَ أبنائه إلى مذلة السؤال، ولا بعض بناته إلى بيع شرفهن من أجل إطعام بطون يطحنها الجوع، الذي لا يذهبه زوال وزارات السيادة، ولا يسده تقليص عدد التقنوقراط في الحكومة. رسالة تازة ومثيلاتها تحمل عنوانا وحيدا هو: «الشغل من أجل الخبز والكرامة».. وهمّ أصحابها الأول هو أن يجد أبناؤهم عملا شريفا يضمن لهم حياة كريمة، حتى لا يضطر أحدهم يوما إلى دفع عربة يصادرها عون سلطة متهور بعد أن يعمد إلى صفع صاحبها، فيكون الحل/الانتقام هو عود ثقاب وقنينة بنزين، قد لا يكتفيان بجسد ذلك الشاب... تازة وشقيقاتها من مدن المغرب تتفهم أولويات حكومة بنكيران، ومستعدة للصبر على برنامجه الحكومي حتى يخرج إلى الوجود.. وهي واعية تمام الوعي بأنه ليس ب«إمكان الحكومة التحرك أو الفصل في أي ملف قبل تنصيبها رسميا من طرف البرلمان»، كما قال السيد نجيب بوليف، لكنها تطلب من بنكيران شيئا واحدا ألا ينساها كما نسيها الذين سبقوه، وتركوها غارقة في بؤسها، في انتظار يوم أربعاء تشب فيه النيران ولا تجد من يخمدها. هذه، إذن، أولى الرسائل إلى بنكيران، فكيف ستتم قراءتها؟