لم تعد إسبانيا كما تعودنا عليها من قبل.. لقد أصبح المواطنون الإسبان يسيرون في الشوارع هائمين على وجوههم جراء الأزمة الاقتصادية التي بدأت تزداد تفاقما مع وصول الحزب الشعبي اليميني المحافظ، بقيادة ماريانو راخوي. تقليص كبير لميزانيات عدد من القطاعات الحيوية، إلغاء أكثر من 50 ألف بطاقة للتغطية الصحية للمواطنين الإسبان بعد تسريحهم من العمل، تقليص فظيع لميزانية التعليم العمومي، بلديات تسرح موظفيها وأخرى تعجز عن أداء مستحقات العاملين في مكاتبها وعن تسديد دينها لبعض الأبناك، قضايا الفساد المالي لبعض المسؤولين تطفو على السطح وتصل إلى ردهات المحاكم، وهي القضايا التي لم يسلم منها صهر العاهل الإسباني خوان كارلون، حيث استدعاه القضاء للمثول أمامه للبدء في محاكمة المتواطئين في قضية «نوس».. بهذه العناوين تطالعنا الجرائد اليومية الإسبانية كل يوم تقريبا، حيث أصبحت رائحة الفساد المالي والأزمة وأرقام البطالة -التي تشير إلى ما يفوق الخمسة ملايين ونصف المليون معطل- تزكم أنوف الإسبان كل يوم. لقد سقط الثور الإسباني، الذي اعتدنا رؤيته متبخترا فوق قمم الجبال الأندلسية، صريعا بفعل ضربة سيف الأزمة الإسبانية، حيث خرّ مضرجا في دماء الفساد المالي لأبرز المسؤولين الإسبان، الذين ينتسب بعضهم إلى الحزب الشعبي الحاكم وبعضهم الآخر إلى الحزب الاشتراكي السابق. سقطت أسطورة الرخاء المالي الإسباني، ليعود المواطنون إلى لف سجائرهم على غرار ما كان يفعل أجدادهم إبان حقبة الدكتاتور فرانكو، بعدما بلغ سعر علبة السجائر حوالي 50 درهما، ووصل سعر قنينة غاز البوطان إلى 170 درهما، ناهيك عن الارتفاع الكبير الذي عرفته أسعار المواد الغذائية والمحروقات والضرائب. «النكبة» الإسبانية لم تستثن أي قطاع، إذ وصل لهيبها إلى قطاع الإعلام ليتم تسريح أكثر من 300 صحافي من يومية «أ.ب.س»، وآخرين من يومية «إلموندو»، فيما أعلنت يومية «بوبليكو»، التي تنتمي إلى مؤسسة «بريسا»، عن اعتزامها تسريح 160 صحافيا وتقنيا يشتغلون لديها، كما لم تستبعد إغلاق أبوابها، في قتل للنفس على طريقة «الهاكيري» الانتحارية اليابانية، وهي انتحار الشخص ببقره لبطنه. إسبانيا تئن في صمت، ومواطنوها لا يستوعبون ما يجري.. هل هو لعنة الموريسكيين أم انتقام الدولار الأمريكي من الأورو الأوربي؟ فالحكومة الإسبانية الجديدة قررت تقليص ميزانية التلفزة العمومية الإسبانية، حارمة إياها من 200 مليون أورو، مما سيؤثر بشكل كبير على مردودية هذه القناة التي كانت تعرف بكونها القناة الأكثر مشاهدة واحتراما للمهنية. واعتبارا لذلك، قرر المجلس الإداري لهذه المؤسسة العمومية العودة إلى بث الوصلات الإشهارية بعدما كان قد قرر إلغاءها في السابق، وذلك بهدف تغطية نفقات القناة، في الوقت الذي فضلت فيه قنوات خاصة أخرى إلهاء المواطنين ببرامج الصحافة الصفراء، على مدى 12 ساعة يوميا تقريبا، متحدثة عن حجم صدر المغنية فلانة، وسبب انفصال أخريات، وقصص غرام آخرين؛ وأصبح المواطنون الإسبان يلجؤون إلى هذه القنوات في محاولة منهم نسيان مشاكلهم المادية وتهديدات المؤسسات والمصارف البنكية لهم بحجز شققهم بعدما عجزوا عن تأدية أقساطها الشهرية؛ أما مهاجرونا المغاربة هنا في إسبانيا فلم نعد نرى لهم أثرا سوى في طوابير بعض المستشفيات الإسبانية وعلى أبواب بعض الكنائس والمساجد والمؤسسات الخيرية الإسبانية. أما المدينتان المحتلتان سبتة ومليلية فأصبح مصيرهما المالي في كف راخوي، إذ تشكلان عبئا ماليا ثقيلا على الحكومة المركزية بفعل المساعدات المالية التي تضخ في ميزانيتهما كل وقت وحين، وهو ما اعترف به خوان فيفاس، رئيس حكومة سبتة.. سبتة ومليلية مدينتان تعيشان فقط بفضل التهريب، فلا مصانع ولا معامل ولا استثمارات، الأمر الذي أصبح يهدد مصيرهما الاقتصادي والسياسي. لو أدرك المواطنون الإسبان حجم المبالغ المالية التي تضخ على شكل مساعدات في صناديق هاتين المدينتين لخرجوا إلى الشوارع يقولون «اللهم إن هذا منكر»؛ لكن بفضل التعتيم الإعلامي الشديد وجهل أغلبية الإسبان بالامتيازات المالية التي تمنح لساكني سبتة ومليلية تستطيع المدينتان الاستمرار في العيش في ظل هذه الظروف المالية الصعبة.