أكثر الناس الذين يتم استقطابهم لحزب الاستقلال هم إما من المقربين من أعضاء في الحزب أو هم من عائلات فاسية أو مقربين منها، أو هم من العائلات السلطوية التقليدية التي تجمع ما بين الجلباب وربطة العنق، وهو الحزب الذي يعاني من انفصام فظيع في الشخصية، حيث يطالب زعماؤه بالتعريب، بينما هم وأبناؤهم درسوا في جامعات أجنبية، ويتحدثون في ما بينهم بالفرنسية ولا فرق بينهم إطلاقا وبين النخبة المتغرّبة في البلاد» «حزب الاستقلال ليس حزبا سياسيا بتمام الكلمة، إنه أشبه بالعائلة، والولاء فيه يقترب من درجة تقديس الزعيم، والطاعة فيه تكاد تكون عمياء، وهناك غموض يسود دواليبه، وأكثر الناس الذين يتم استقطابهم إلى هذا الحزب هم إما من المقربين من أعضاء في الحزب أو هم من عائلات فاسية أو مقربين منها، أو هم من العائلات السلطوية التقليدية التي تجمع ما بين الجلباب وربطة العنق، وهو الحزب الذي يعاني من انفصام فظيع في الشخصية، حيث يطالب زعماؤه بالتعريب، بينما هم وأبناؤهم درسوا في جامعات أجنبية، ويتحدثون في ما بينهم بالفرنسية ولا فرق بينهم إطلاقا وبين النخبة المتغرّبة في البلاد». هذه بعض الأفكار التي يحملها الناس العاديون عن أول حزب سياسي في المغرب، والذي تأسس من أجل المطالبة بالاستقلال، ولا يزال بعد أزيد من 50 عاما بعد الاستقلال واحدا من أقوى الأحزاب في البلاد، بل إنه يقود الحكومة الحالية في شخص زعيمه عباس الفاسي، على الرغم من كل ما يقال حول واقع الأحزاب وقوتها الحقيقية في بلد تحكمه الملكية المطلقة. تقاليد العائلة الأفكار العامة والنمطية التي يحملها الناس عن حزب الاستقلال ليست بعيدة عن الصواب، إن هذا الحزب يحمل الكثير من تقاليد الحزب – العائلة، وهو يشبه إلى حد ما تلك التجمعات السياسية العائلية في بلدان أوروبية معروفة بمثل هذه التقاليد، لذلك فإن أية استقالة داخله تعتبر حدثا في حد ذاتها، وعندما أعلن محمد العربي المساري، وزير الاتصال الأسبق، استقالته من اللجنة التنفيذية للحزب احتجاجا على خرق القانون الداخلي الذي لا يسمح بتجديد ولاية الأمين العام أكثر من مرتين، فإن ذلك أصاب قيادة الاستقلال بالقشعريرة. إن الأمر يشبه استقالة عضو من أعضاء الجسد. إنها واحدة من نقاط قوة هذا الحزب، وهي أيضا واحدة من نقاط ضعفه القاتلة. استقالة المساري أعادت إلى الأذهان استقالات سابقة، كان الحزب يقف أمامها إما ب«لا» مطلقة أو بما يشبه المؤامرة الجماعية من أجل التخلص من أشخاص لم يعودوا يسايرون النمط التقليدي لهذا الحزب العتيق الذي يتطور باستمرار داخل جرّة من طين. وعندما أعلن عبد الكريم غلاب، قبل حوالي أربع سنوات، استقالته الثانية من مسؤولياته الحزبية، بعد استقالة 1989، فإن بيانا أصدرته اللجنة التنفيذية للحزب وصف غلاب بأنه «أحد الزعماء التاريخيين للحزب ورمز من رموز الفكر الاستقلالي». بل إن اجتماعا على درجة كبيرة من الأهمية تم عقده عشية إعلان غلاب الاستقالة، والذي ترأسه الأمين العام شخصيا، ولم يتغيب عنه أي عضو من اللجنة التنفيذية، ورفضوا تلك الاستقالة «اعتبارا لمصلحة الحزب العليا»، في الوقت الذي تفهموا فيه انسحابه من جريدة «العلم» التي أدار دواليبها لمدة أربعة عقود، وهي التي كانت السبب في استقالته بعد أن نشرت مقالا يدافع عن الزعيم النقابي عبد الرزاق أفيلال من دون علم المدير المسؤول، الذي هو غلاب طبعا. والمثير في تلك الاستقالة أن اللجنة التنفيذية اتفقت بكامل أعضائها على التوجه إلى منزل غلاب «من أجل مناشدته التراجع عن استقالته من هيئات الحزب». من يقرأ ذلك يعتقد أنه أمام حالة لزاوية دينية في القرن الثامن عشر وليس حزبا سياسيا في القرن الحادي والعشرين. أفيلال.. قضية مختلفة وبما أن الشيء بالشيء يذكر، فإن قضية عبد الرزاق أفيلال قضية مختلفة تماما. إنه الاستثناء الذي يكرس القاعدة، لقد تواطأ الحزب على إبعاد أفيلال، وهو أحد الأبقار المقدسة في الحزب، كما يعبر الإسبان عن الشخصيات السياسية التي لا يمكن المس بها. لكن أفيلال وجد نفسه فجأة أمام تيار عارم يطالب باستقالته من قيادة النقابة، فغادر النقابة والحزب وتهم الاختلاس تطارده، وهو إلى اليوم لم يمثل أمام المحكمة ويدلي في كل مرة بشواهد طبية تبرر ذلك. عبد الرزاق أفيلال كانت إقالته تشبه مؤامرة جماعية، ليس لدى الحزب أية مشكلة في التخلص من أعضاء يراهم قد تعفنوا ولم يعودوا ينسجمون مع حركة سير الدماء في جسد حزب يحاول أن يغير دماءه باستمرار.. لكن دائما تحت جلبابه العتيق. ربما من مزايا حزب الاستقلال أنه ظل لمدة طويلة قادرا على امتصاص محاولات الانشقاق. وقبل الانتخابات التشريعية ل27 سبتمبر 2002، تحركت مجموعة من الساخطين على تدبير الشؤون الانتخابية وتم إعلان عدد من الاستقالات أو تجميد العضوية، بعد أن تم حرمانهم من وضعهم على رأس اللوائح الانتخابية، لكن الحزب امتص تلك المحاولة بسرعة وأعلن عن فصل عضوين وشرب الباقي. وقبيل انتخابات سبتمبر 2007، كان الحزب على شفا انشقاق عارم بعد استقالة عدد من أطره الذين أسسوا حزبا جديدا اسمه «الوحدة والديمقراطية». كانت أسباب تلك الاستقالة واضحة، وهي، حسب ما أعلنه «المنشقون» وقتها، «تحكّم الصلات العائلية في اختيار المناصب داخل هياكل التنظيم وغياب الديمقراطية والشفافية داخل الحزب وهيمنة فكر العائلة على العلاقات البينية للقيادات والأعضاء»، حسب ما صرح به وقتها جلول الجريسلي، أحد الذين قادوا عملية التمرد. المظاهر العائلية لهذا الحزب تظهر بوضوح في الحكومة الحالية، فعباس الفاسي، بعد تعيينه وزيرا أول، على اعتبار أنه زعيم حزب نال أكبر عدد من المقاعد في انتخابات سبتمبر 2007، لم يتردد في تعيين أقرباء له داخل الحكومة، مثل زوج ابنته نزار بركة، أو قريبته ياسمينة بادو، أو تنصيب أبناء قادة شهيرين في الحزب في مناصب وزارية. هذا الحزب لا يخفي نزعته العائلية، بل حتى إنه لا يخفي أيضا نزعته الفاسية، مع ما في ذلك من إمكانية خسارة تعاطف عدد كبير من سكان مدن أخرى لا تضمر لفاس الكثير من الود. ومن مظاهر النزعة العائلية أو نزعة الولاء، هو أن وزير الإسكان حاليا، توفيق احجيرة، لم يخف في حوار سابق أجراه قبل حوالي سنتين، ولاءه الشخصي والسياسي لعباس الفاسي، ليس لأن هذا الأخير زعيم استثنائي، بل لأنه كان له دور كبير في مساعدته على إتمام دراسته في الخارج. إن التصور الذي حمله الكثيرون لمثل ذلك التصريح هو منظر شخص ينحني ليقبل يد كبير العائلة لأنه الحكيم المطلق، وهو الذي يساند الجميع حين يحتاجون إليه. وعباس الفاسي نفسه هو بطل تلك الصورة الشهيرة وهو يقبل يد الأمين العام السابق للحزب، امحمد بوستة، الذي منحه بركته لكي يصبح أمينا عاما جديدا. الوافا والأبقار المقدسة ويتذكر مناضلو الحزب ما حدث مع القيادي الاستقلالي محمد الوافا، الذي بدأ يتململ داخل الحزب، فصدر قرار «مولوي» سريع بتعيينه سفيرا في الهند، فتخلص الجميع من ضوضاء محتملة. ربما يكون اختيار الهند مدعاة للسخرية، لأن الوافا سيشاهد هناك الأبقار المقدسة رأي العين، وسينسى الأبقار المقدسة في حزبه وباقي الأحزاب السياسية المغربية. الحزب في أدبياته يقول إنه يهدف إلى تمكين المناضلين من المشاركة الواسعة والفعلية في بلورة واتخاذ القرار السياسي، لكن هذا الحزب هو نفسه الذي يحاول اليوم الانقلاب على قاعدة المناضلين والانقلاب على قوانين الحزب ومبادئه ومحاولة تمكين عباس الفاسي من ولاية ثالثة، وهو الأمر الذي سيؤدي مستقبلا إلى استقالات أخرى، ولن تكون استقالة العربي المساري سوى بدايتها. محللو الشؤون الحزبية في المغرب يقولون إن حزب الاستقلال هو أكثر الأحزاب عرضة للانشقاق، لأن باطنه يتوفر على كل عوامل الانفجار، لكن الذي يحدث هو أن الحزب هو أقل الكائنات الحزبية تعرضا للانشقاق. ومنذ ذلك الانشقاق الكبير، والضروري أيضا، الذي حدث سنة 1959 وظهور الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، فإن الاتحاد ولد أكثر من مرة أحزابا ولدت بنفسها أحزابا أخرى بدءا بالاتحاد الاشتراكي وليس انتهاء ب»الوفاء للديمقراطية». غير أن حزب الاستقلال استطاع استيعاب كل التفجيرات الداخلية، وعوض أن تتفرق شظايا التفجيرات في الخارج، فإنها تتجمع في الداخل ويخرج الدخان من فم الحزب، لكن الحزب ينكر باستمرار أن تكون في بطنه نار. ضريف: النزعة العائلية للاستقلال نسبية.. والحزب أمام خيارين في أيامه المقبلة النزعة الفاسية للحزب أو النزعة العائلية يعتبرها المحلل السياسي محمد ضريف مسألة نسبية، «لأن حزب الاستقلال ليس وحده الذي تبدو فيه هذه المظاهر»، ويقول: «أعتقد أن مسألة النزعة الجهوية أو العائلية للحزب ينبغي النظر إليها بنسبية لأنها ستكرس طابع الانقسامية، لأنه بعد الانقسام الشهير لسنة 1959، قيل إن حزب الاستقلال يؤطر النخبة الفاسية، بينما الاتحاد الوطني للقوات الشعبية يؤطر النخبة السوسية»، ويضيف ضريف: «الروابط العائلية موجودة في كل الأحزاب وحتى داخل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية نفسه، وسبب صمود حزب الاستقلال أمام التصدعات والانشقاقات هو بنيته التنظيمية وخطابه المرن الذي جعله خارج إطار الأحزاب الإدارية، على الرغم من أنه يساند الحكومة حين تحتاجه، أو ينتقل إلى المعارضة حين تتطلب الظروف ذلك». ويعتبر ضريف أن حزب الاستقلال ظل بمنأى عن التصدعات الكبرى التي عرفتها أحزاب كبيرة لأن القيادة التقليدية للحزب ظلت ممثلة في اللجنة التنفيذية، في حين تم إحداث المجلس السياسي الذي استوعب النقابة وأعضاء جيش التحرير، وأن محاولات الانشقاق كانت تأتي من المجلس السياسي وليس من اللجنة التنفيذية. ويضيف ضريف أن النواة الصلبة لحزب الاستقلال ظلت قائمة وهو ما جنبه الانشقاقات، وأن مفتشي الحزب لعبوا دورا أساسيا في حماية الحزب من التصدعات وفي احتواء كثير من الخلافات. هناك مسألة أخرى يراها ضريف أساسية في صمود حزب الاستقلال أمام التصدعات الداخلية، وهي طبيعة خطابه وإيديولوجيته، فهو حزب محافظ يتكيف مع جميع الأوضاع ومختلف المستجدات، ويمنح دعمه للسلطة حين تحتاج إلى ذلك، لكنه ينتقل بسرعة إلى المعارضة، وقبل تحالفه مع حزب الاتحاد الاشتراكي في سنوات الثمانينات وما بعدها، فإنه تحالف سنة 1970 مع الكتلة الوطنية، وبعد ذلك كان ضمن الكتلة الديمقراطية أوائل التسعينيات، وهو ما جعل مختلف شرائح اليسار تتساءل عن سر وجود حزب الاستقلال داخلها. ويشير ضريف إلى سبب آخر يستغله الحزب في حماية نفسه من التصدعات، وهو وجود شبكة واسعة تشتغل مع الحزب في فترة الانتخابات، وهذا نتيجة حنين المغاربة إلى خطاب يرتكز على كل ما هو وطني، وكل ما توحي به كلمة استقلال، وهذا ما يؤدي بالحزب إلى الحصول على نتائج جيدة في الانتخابات. وبالنسبة إلى استقالة محمد العربي المساري، فيرى ضريف أنه تنبغي العودة قليلا إلى الماضي عندما تم انتخاب امحمد بوستة أمينا عاما للحزب سنة 1974 بعد وفاة الزعيم التاريخي علال الفاسي. «لقد بقي بوستة أمينا عاما إلى سنة 1998 عندما خلفه عباس الفاسي على رأس الأمانة العامة للحزب، وهذه الفترة، فترة ولاية بوستة، عرفت رجات تنظيمية كان منها إعلان عبد الكريم غلاب استقالته سنة 1989، وهي الاستقالة التي تذكرنا اليوم باستقالة العربي المساري». ويرى ضريف أن الأيام المقبلة تضع حزب الاستقلال أمام خيارين لا ثالث لهما، الأول هو تجاوز القانون الداخلي الذي تم إقراره في المؤتمر الاستثنائي لسنة 1998، والذي يمنع تجديد ولاية الأمين العام لأكثر من مرتين، وهذا يعني تعديل هذا القانون بعد عشر سنوات فقط من إقراره، وهذا التعديل سيكون ضربة لمصداقية الحزب وامتحانا لمدى احترام قوانينه الأساسية، والاحتمال الثاني هو تمديد ولاية عباس الفاسي بطريقة استثنائية من دون تعديل القانون.