بعض البرامج السياسية تحظى بقبول واستحسان الشارع المغربي لملامستها متطلبات المرحلة، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وتتضمن خططا وتصاميم ودراسات واقعية يمكن التعامل معها، منها الرفع من مستوى الدخل الفردي ومواكبة النموالمتدرج للناتج الداخلي الخام وتحصين الاقتصاد الوطني من الأزمات، بالإضافة إلى تحقيق طموح طبقة اجتماعية واسعة من المجتمع المغربي، وهو كل ما تستطيع الحكومة تحقيقه من برنامج سياسي واقعي في ظل الأزمة القائمة، إذا تعاملت مع الوضع الراهن بمنهج عقلاني وبادرت إلى تنفيذ خطة الإصلاح وعقلنة الإنفاق. على مدى سنين-ونحن نسمع هذا الكلام- لم نر شيئا يتحقق على أرضية الواقع، وكأن الوعود الحكومية دعاية سياسية مسبقة، تتحسب المستقبل السياسي للأحزاب، فالحكومة التي تعد كل مرة ولا تفي بوعودها تفقد مصداقيتها، وبسبب التسويف والمراوغة، تدفع المواطن إلى فقدان الثقة في اللون السياسي الذي يقودها. فبعد مرور خمس سنوات، وفي آخر أنفاس الولاية الحكومية، يكشف المستور السياسي، وتبدأ التصريحات الرسمية تناقض بعضها البعض، بل تبدأ حرب الاتهامات المباشرة وغير المباشرة عملها وكشف ما خفي من فواتير الإنفاق الحكومي غير المبرر والغامض، في الوقت الذي تشكو الحكومة المنتهية صلاحياتها خصاصا ماليا كبيرا، ليس آخره توفير ميزانية دعم المواد الأكثر استهلاكا. في لقاء إبان الحملة الانتخابية الأخيرة بمدينة بوزنيقة، صرح مسؤول حكومي كبير في وزارة المالية بأن المغرب لا يعيش الأزمة الاقتصادية مثل باقي بلدان العالم؟ فتساءلت بتعجب، كيف يصدق الناس كلام هذا الرجل، وكيف يكون البلد الأكثر هشاشة في الجانب الاقتصادي والاجتماعي بعيدا عن الأزمة الاقتصادية؟ ففهمت أن الخطاب الرسمي انتهى فعليا إلى الفشل؛ انهيار صندوق الموازنة والإحجام عن دعم الطبقة المتضررة اجتماعيا، وعدم توفير الشغل للعاطلين، وتضرر البرامج التنموية والاجتماعية والصحية، وتراجع المشاريع الاقتصادية، ونكوص القطاع السياحي، وارتفاع تكلفة المعيشة، وتناقص القدرة الشرائية للمواطنين، وركود حجم الاستثمارات، وارتفاع حجم المديونية والتضخم، كلها مؤشرات لم تقنع حكومة عباس الفاسي للجهر بالحقيقة والمكاشفة الصريحة في جو يطبعه التواضع والمسؤولية، بدل خطاب إقصاء العقل ونفي الموضوعية، وبالتالي تحقير الذات بفرض لعبة الاستغباء على الآخرين وكأننا لا نعيش في هذا الكوكب. في العالم القروي، أقدمت الحكومة، عن طريق وزارتها في الفلاحة، على تدشين ما سمي برنامج المغرب الأخضر، في حين تعتبر فلاحتنا الأفقر من بين بلدان البحر الأبيض المتوسط، وأعدت لنا عن طريق نفس الوزارة، مخططا أزرقا يتعلق بالبحرين، المتوسط والأطلسي، في حين تستغل ثروتنا السمكية من قبل الغرب، ولا تجد الحكومة مناصا من التفاوض الموسمي مع الاتحاد الأوروبي حول الصيد في المياه الإقليمية، بل إن قرار الاتحاد الأوروبي بوقف سريان الاتفاقية لأسباب بليدة، خلف استياء كبيرا لدى المسؤولين المغاربة، بدل الفرح والتهليل لتحرير جزء من مخزون الثروة الوطنية، الذي يذهب في مقابل حفنة من الأورو سنويا (46 م أ)، تجني من ورائها إسبانيا عدة ملايير وتسد بها ثغرة واسعة في قطاع الشغل، الذي تنهار مقوماته يوما بعد يوم. أما بالنسبة لملف التعليم، فإن التخبط الذي عرفه هذا القطاع منذ أربعة عقود لم يعثر على مقاربة موضوعية صالحة لاعتماد برنامج تعليمي وتربوي ناجع، وبدا أن هذا القطاع أقرب إلى حقل تجارب علمية متفاوتة المستوى، لم تعط أي نتيجة تستحق الاهتمام. فالمشروع المتعلق بالخطة الاستعجالية للرفع من مستوى أداء المدرسة العمومية ظهرت عيوبه سريعا وانكشف الطابع الترقيعي الذي ميزه، وصارت المقاربة الأصح تتلخص فقط في سياسة انفتاح السوق، التي سببت الفوضى العارمة في هذا القطاع. تلك هي الملفات التي تشكل صعوبة حقيقية أمام حكومة بنكيران، علاوة على ملفات أخرى تستحق من الحكومة اهتماما بالغ. *دكتور علم الاجتماع السياسي والاقتصادي ملف تنامي ظاهرة الفقر والهشاشة في المدن والقرى على حد سواء. ملف محاربة ظاهرة الفساد والرشوة ونهب المال العام. ملف استرجاع القطاع العمومي، الذي تم بيعه للخواص، عن طريق مراجعة اتفاقيات الإدماج والشراكة الاقتصادية ومساءلة ومحاسبة المؤسسات الأجنبية، التي استحوذت على رؤوس أموال المؤسسات العمومية الوطنية ولم تف بوعودها، حسب دفتر التحملات، سواء في التشغيل أوالإنتاج أواستغلال خبراتها الدولية في تسويق المنتوج الوطني، مستعملة كل طاقاتها لاستغلال السوق الداخلي الوطني وترويج السلع والمنتوجات المصنعة خارج الوطن. ملف إعادة الاعتبار للبنية الصناعية المنتجة، التي تعتبر موردا هاما للثروة بالنسبة للبلاد. ملف تدهور أداء المقاولة الوطنية بسبب تراجع مستوى المنافسة والإنتاج، والملف الاجتماعي المتعلق بالتعثرات المالية والتقنية لأداء هذا القطاع. ملف الوحدة الترابية الذي تعتبر الصحراء المغربية في قلب اهتماماته، بالإضافة إلى باقي المناطق والجزر التي تخضعها إسبانيا لسيطرتها. الملف الجبائي الذي يعتبر من أهم ملفات الإصلاح والتطهير. وهناك مشاريع كثيرة جمة كانت في عهدة الحكومة المستقيلة، والتي تشكل محور تدخل سريع، لكنها لم تحظ بأهمية الفاعلين الحكوميين وبقيت حبرا على ورق، مما دفع مجلة جون أفريك إلى منح نقطة 4/10 لتلك الحكومة، التي تعتبر أضعف حكومة عرفتها منظومة الحكم سياسيا في تاريخ المغرب المعاصر. فكل التقارير الأممية ترشح الفشل في معالجة ملفات محاربة الهشاشة والفقر والأمية وفك العزلة عن العالم القروي وتقريب الصحة والتعليم من المواطنين وتحسين الدخل الفردي، ومحاربة الرشوة والفساد المالي والإداري، والسهر على تنفيذ القوانين وضمان الحريات الفردية والجماعية والحقوق المدنية المنصوص عليها في الدستور، وحماية حرية التعبير وحرية الصحافة بالخصوص. هذا هوميراث حكومة ما قبل «الدستور الجديد»، وعلى أساسه، ستشتغل «الحكومة الجديدة»، لتحقق إنجازات تاريخية مهمة، وتضع أمام الرأي العام الوطني والدولي حصيلة منجزات ملموسة تتحدث عن نفسها، لا علاقة لها بإحصائيات المندوبية السامية للتخطيط، ولا بالتصاريح الإعلامية التي يضعها أصحابها ويصدقونها وحدهم، على طريقة «أشعب»، الذي يحث الأطفال على الذهاب إلى وليمة وهمية في أحد بيوت الحي، ثم يقرر أنها وليمة حقيقية فيتبعهم. أرقام وإحصائيات تبني مستقبل علاقة انتخابية قادمة بين أحزاب في الحكومة وجماهير ستكون الحاجة إليها أمس، في بضع سنين. تلك هي صعوبات برنامج حكومة بنكيران. فالمنتظر من حكومة «المستقبل الديمقراطي» تجاوز مثل هذه الترهات والاشتغال كجهاز سياسي وإداري متجانس، يتسلم لأول مرة مشعل التنوير والتقدم والتطوير والارتقاء بالمجتمع إلى ما هوأفضل، وتحقيق أحلام المغاربة، الذين ذهبوا إلى صناديق الاستفتاء بكثافة، وصوتوا على التغيير بنسبة لا تنبغي إلا لدستور ينتظر منه الجميع أن يكون له أثر إيجابي في حياتهم، مراهنين على نتائج العمل الجاد الذي سيظهر في ساحة العمل ويلمسه المواطنون، بعيدا عن الدفع الشكلي بالأرقام المخجلة التي لا تتطابق مع الواقع المعاش. إذن، لتكن حكومة سنة 2012 حكومة الأمل في المستقبل، حكومة مميزة، حكومة تنوير وتغيير واقتداء، حكومة دستور فصل السلط وتحمل المسؤوليات والمحاسبة. فنحن على أبواب مرحلة حاسمة للتغيير، تجب ما قبلها، لننسى الماضي ونتجه صوب العمل البناء دون خوف من المصاعب، فالماضي بحسناته وسيئاته، مرحلة قد خلت، لها ما كسبت.. ولكم ما ستكسبون. ميلود العضراوي