تواصل «المساء» نقل صور وريبورتاجات عن أحياء بمدن إيطالية تحولت، بفضل الجالية المغربية المقيمة بإيطاليا، إلى قصبات وإلى غيتوهات يتجنبها الإيطاليون، ويقصدها إما باحث عن اللذة أو عن أجواء مغربية أو لاقتناء وبيع أغراض مسروقة ومحرمة. بمدينة ميلانو وجدنا أن حي ليما وشارع «بوينوس أيرس» المجاور له تحولا إلى فضاء مغربي عربي مائة في المائة، فمن جهة هناك انتشار لبنات الهوى المغربيات بجميع أرجائه، ومن جهة أخرى هناك تواجد للصوص مغاربة وجزائريين مختصين في سرقة ألبسة وأغراض آخر صيحة «ماد إن إطالي». وبين هذا وذاك، هناك انتشار واسع لمحلات ولمقاهي وحانات غالبية زبائنها عرب من مصر وسوريا والسعودية ودول عربية أخرى، منهمكون إما في شرب الجعة أو الويسكي أو في البحث عن مومسات مغاربيات لقضاء ليلة ميلانية حمراء صحبة إحداهن. ليما ودعارة المغربيات إذا سألت مغربيا يقيم بمدينة ميلانو عن حي ليما، فإن أول شيء يتبادر إلى ذهنه هي تلك الصورة البائسة التي تصنعها مومسات مغربيات ينتشرن في كل شبر منه، ليحولن المكان إلى وكر للدعارة بأبخس الأثمان. ويتردد الكثير عن هذا الحي وعن تاريخه العريق بمدينة ميلانو، وعن تحوله من فضاء يفتخر به إيطاليو ميلانو إلى منطقة منسية أصبح ينفر منها حتى بعض المهاجرين، هذا الحي لم تكن تغمره الأضواء مثل الأحياء الأخرى المجاورة له ومثل شارع «بوينوس أيرس» القريب جدا منه، من بعيد يتراءى خيال امرأة واقفة على الرصيف بالقرب من إشارات الضوء الأحمر، كانت لا تتحرك ولا تخجل لا من المارة ولا من أصحاب السيارات الواقفة في انتظار الضوء الأخضر للانطلاق في ليل ميلانو الساحر. مغربية في الثلاثينات من عمرها ترتدي جينز يظهر شكل جسدها وقميصا أبيضا فوقه جاكيت من الجلد وحذاء بكعب عال ربما اقتنته من شارع بوينوس أيرس المعروف بمحلات الموضة التي تعرض سلعها بأثمان مناسبة وفي متناول ذوي الدخل المحدود. كانت علامات الحزن بادية على وجهها عندما قدمت إليها التحية، لترد علي بمثلها، قبل أن تقول لي: «نمشيو؟»، أجبتها بسؤال «فين؟»، فقالت: «إلى بيت قريب جدا من هذا الزقاق.. غير ب50 يورو». قبل أن تكمل حديثها اقتربت منها صديقتها أو زميلتها التي لم أعرف من أين خرجت علينا لتهمس لها في أذنها بكلمات لم أسمعها، قبل أن تلتفت المومس إلى الجهة الأخرى للشارع وتقول لي: «هذاك المصور معاك؟». لم أجد إلا كلمة «نعم» للرد على سؤالها بعد أن انكشف أمري، وأقول لها إنني أنجز ربورتاجا عن حياة الجالية بمدينة ميلانو وعن حي ليما بشكل خاص، لترد علي صديقتها: «أو مالقيتو ماديرو غير تصورو الناس... وسير فحالك دابا ولا غادي...». أكدت لهما أنني لن ألتقط لهما صورا وأنني سأكتفي فقط بدردشة بسيطة معهما لمعرفة تفاصيل عمل المومسات المغربيات بحي ليما، وكيف يتعاملن مع القانون الجديد الذي طبقته الحكومة الإيطالية لمحاربة الدعارة بالشوارع الإيطالية. كانت الأولى التي تسمى بنعيمة لا تمانع في الأخذ والرد وفي التحاور، في حين أن الثانية كانت ترفض ذلك، لتهيج علي أنا وصديقي المصور مطالبة إيانا بالرحيل قائلة: «أنا مجنونة، فإن لم تغادرا المكان فكونا على يقين أن مكروها سيصيبكما»، أثناء ذلك اقترب شاب مغربي من المومس الهائجة وقال لها: «من هذا الشخص؟ وماذا يريد منك؟»، فكان ردها: «يقول إنه صحفي وينجز ريبورتاجا عنا»، فما كان من المغربي، الذي يبدو أنه يقوم بحراسة المومسات المغربيات، إلا أن طلب منا بطاقات الهوية وبطاقة الصحافة وكأنه الملحق الإعلامي عن مومسات حي ليما ويعمل بشكل رسمي وقانوني في مجال الدعارة. بعد أن كشفت للمومسين ولحارسهما ما كانا يبحثان عنه، انصرف بشكل مفاجئ وانصرفت معه المومس المشاغبة، لتبقى نعيمة التي استمرت في الحديث كاشفة عن تفاصيل عملها وعن معاناتها في عالم الدعارة والغربة، وقالت: «قدمت إلى إيطاليا مند أكثر من ثماني سنوات هاربة من فقر مدقع بالمغرب، وعملت في كل شيء يمكنني من الحصول على أموال لتحقيق عيش كريم بإيطاليا، لكن غلاء المعيشة من جهة وغياب عمل قار من جهة أخرى، جعلاني أدخل عالم الدعارة لأرتمي مع زميلاتي بهذا المكان البائس». كنت في الوقت الذي أستمع فيه إلى نعيمة أعاين مومسات مغربيات أخريات يغادرن المكان خوفا من أن تلتقطهن عدسات كاميرا تصوير صديقي، في حين أن أخريات كن أكثر شجاعة وتقدمن مني أنا ونعيمة لمعرفة تفاصيل أكثر وللاستماع إلى نعيمة التي أكملت حديثها قائلة: «حتى هذه المهنة القذرة أصبحنا غير قادرات على مزاولتها بعد أن أصبحت شرطة ميلانو تغرم كل مومس تعمل بالشارع ومعها حتى الزبون مبلغ 500 يورو مع سجن يتراوح ما بين 5 أيام إلى 15 يوما»، كانت نعيمة تحكي تفاصيل القانون الجديد وهي واقفة على ناصية الشارع غير آبهة بمرور دوريات لشرطة البلدية التي يمكن أن تتوقف لإلقاء القبض عليها، وقالت: «إيطاليا مثل المغرب، فلا تعتقد أن السلطات الإيطالية ستطبق هذا القانون، ولو طبقته فإنني لن أمنحهم لا 500 يورو ولا هم يحزنون، وأنا مستعدة للحبس حتى شهرا كاملا. عرب بوينوس أيرس يعتبر شارع بوينوس أيرس من الشوارع المشهورة بميلانو ليس فقط لتاريخه العريق وتموقعه بوسط المدينة، بل كذلك لوجود محلات الموضة فيه التي تضم أجود الألبسة والأحذية. فنهارا يحج إليه إيطاليون ممن يرغبون في اقتناء أحذية غوتشي أو ألبسة فيرساتشي وروبيرتو كافاللي أو حقائب لويس فويتون الفرنسية، وليلا تقصده نسبة كبيرة من العرب الشرقيين، وعلى رأسهم مصريون وسوريون وسعوديون وإماراتيون، بحثا عن مومسات بأحد مقاهي ومطاعم ومحلات الشارع. كان يظهر أن هدف هؤلاء العرب ليس سياحيا لمعرفة تاريخ عاصمة لومبارديا وتفاصيل الحضارة الأوربية فيها أو لاقتناء ألبسة آخر صيحة الموضة الإيطالية، بل كان همهم الوحيد هو البحث عن بنات الهوى اللواتي قبل التوجه مع الزبون يجب أن يحصلن منه على ثمن العشاء بأحد المطاعم هناك وعلى مبلغ يبدأ ب250 يورو لقضاء ليلة معه. كنت لا أجد صعوبة في التفريق بين رجل عربي يصطحب زوجته في نزهة، ورجل يتوجه إلى مكان مجهول صحبة مومس، فقد كان الأول يعامل المرأة التي يصطحبها معه وتلبس لباسا محتشما بكل جدية ويتحاشى الجلوس معها لشرب قهوة أو تناول وجبة بأحد المطاعم هناك، في حين أن الثاني يكون دائما جالسا بأحد مقاهي ومطاعم الشارع التي تضع مقاعدها وموائدها خارجا وبجانبه امرأة في وضع وشكل مشبوهين وهما يتناولان طعامهما ويشربان إما الجعة أو الويسكي أو مشروبا كحوليا آخر. كنت وأنا أتجول بالشارع وأمر عبر مقاهيه ومطاعمه المكشوفة، أسمع من حين إلى آخر ضحكات وقهقهات مصحوبة بلهجات مصرية وسورية وسعودية صادرة حتى عن المومسات اللواتي أصبحن يتحدثن كل اللهجات لضمان رضا الزبون وسخائه عليهن. لصوص مغاربيون وأوربيون بداخل هذه المقاهي اعتاد عدد من المهاجرين المغاربة والجزائريين وآخرون قادمون من أوروبا الشرقية على الالتقاء بزبائنهم ليعرضوا عليهم بضائعهم المسروقة مثل أحذية ونظارات وبذل وألبسة موقعة من كبريات دور الموضة بميلانو، إضافة إلى عرض بطاقات بنكية مستنسخة للبيع تمكن مقتنيها من شراء أغراضه وسلعه من كبريات المحلات بميلانو، وما يلزمه إلا الحذر حتى لا يقع في قبضة رجال الشرطة الإيطاليين. كنت في كل مرة أجلس فيها بأحد هذه المقاهي إلا وأصادف أحد هؤلاء وهو منهمك في عرض ألبسته على الزبائن الباحثين عن سلعة موقعة وغالية الثمن بأثمان رخيصة جدا، كان أحدهم يدعى جمال ولا يتوفر على أوراق الإقامة، ويعرف بالتالي أن ما يقوم به قد يعرضه للمحاكمة والسجن قبل الترحيل إلى المغرب بلده الأصلي، لكنه رغم كل ذلك فهو يفضل خوض المغامرة لأنه لا يعرف في هذا العالم إلا مهنة استخراج وسرقة ألبسة آخر صيحة من المتاجر الإيطالية. «لا أعرف إلا هذه المهنة، فحتى إن حصلت على رخص الإقامة سأظل أزاولها لأنها توفر لي مبالغ مهمة لا يمكن أن أحصل عليها من عمل قار بمدينة ميلانو، فأنا لن أقع في غلطة وقع فيها عدد كبير من مغاربة إيطاليا الذين ضيعوا شبابهم في الغربة فقط من أجل العمل في المصانع الإيطالية وتأدية الضرائب للإيطاليين، لهذا فأنا مضطر لركوب هذه المغامرة حتى أعود إلى المغرب في حالة القبض علي بمبلغ مهم يمكنني من بناء تجارة أو مقاولة هناك»، يحكي جمال الذي كان مصحوبا بصديقه الروماني الأصل الذي يتحدث معه بلغته الرومانية بطلاقة غريبة، جعلتني أشك في المغربي جمال وأعتقد أنه غجري قادم من بوخاريست الرومانية. وأضاف: «لست أنا الوحيد الذي يعمل في هذا المجال، فهناك أوربيون شرقيون مثل صديقي الروماني الذي يتاجر في المجوهرات المسروقة وفي استنساخ البطاقات البنكية، وهناك جزائريون ومغاربة آخرون غالبيتهم من مدينة الدارالبيضاء والرباط ومراكش يتخصصون في سرقة ألبسة وأحذية وأغراض الموضة الإيطالية، ففي هذا العالم الكل يسرق وينصب ويعمل جاهدا للحصول على الأموال بكل الوسائل، وأعتقد أنه من حقنا نحن أيضا أن نسرق ونحصل على أموالنا على حساب أغنياء ميلانو من أصحاب محلات الموضة».