يلاقي عدد من أفراد الجالية المغربية المقيمين بإيطاليا في موسم العودة صعوبات تجعلهم غير قادرين على مغادرة إيطاليا. غالبية هؤلاء، إضافة إلى مشاكل مادية يعانون منها بسبب غلاء المعيشة الناتجة عن الأزمة الاقتصادية، يتخبطون كذلك في مشاكل أخرى مثل تجديد رخص الإقامة، وإيجاد عمل ومسكن مناسبين، مما يجعل بعضهم مضطرا إلى تأجيل زيارة المغرب إلى حين استقرار أوضاعهم، أو ركوب رحلة المغامرة نحو مسقط الرأس بحثا عن أجواء ووجوه افتقدوها طيلة أعوام من الغربة, متجاهلين العواقب التي يمكن أن يصادفوها عند نهاية العطلة والعودة إلى ديار الغربة. أثناء موسم العودة إلى أرض الوطن يكثف غالبية أبناء الجالية المغربية المقيمين بإيطاليا زياراتهم للمحلات التجارية، لاقتناء كل شيء يمكنه أن يتحول إلى هدايا تقدم إلى أفراد العائلة والأقارب بالمغرب أو سلع يمكن إعادة بيعها لمغاربة الداخل، فرغم غلاء المعيشة بهذا البلد الأوربي الذي ضربته هو الآخر موجة الأزمة الاقتصادية العالمية، إلا أن مغاربة إيطاليا تأقلموا مع الأوضاع الجديدة، ليبحثوا لهم عن محلات تبيع سلعا بأثمان منخفضة حتى لا يعودوا إلى أهلهم وذويهم بحقائب وسيارات شبه فارغة تجعلهم في موقف حرج ومحط استهزاء أبناء الحي القديم الذين قد يتهموهم بالإخفاق والفشل بديار الهجرة. كنت ألامس عند غالبية أبناء الجالية هذا الهاجس الكبير، إلى حد أن بعضهم كان يلتجئ للاقتراض من الأصدقاء أو المؤسسات المالية لتغطية تكاليف السفر ومبالغ الهدايا التي تنحصر مجملها في الملابس والأحذية والعطور وسلع أخرى، يمكنها أن تدخل السرور على قلوب الأطفال وأن تبعد في الوقت نفسه انتقادات بعض أبناء العائلة والأقارب عند العودة إلى أرض الوطن. اقتناء الأغراض لدى أبناء الجالية العائدين إلى المغرب يبدأ منذ شهور عديدة وقد يمتد إلى سنة كاملة، فبعضهم يجد في السلع الصينية الرخيصة وأخرى قادمة من مدينة نابولي ضالتهم في حين أن آخرين يلتجئون إلى محلات إيطالية معروفة بسلع الدرجة الثانية التي تكون عادة أثمانها رخيصة جدا، أما البعض الآخر فيدخل مجال المغامرة من خلال اقتنائه لسلع «ماد إن إتالي» المسروقة التي يبيعها مهاجرون مغاربة وجزائريون يمتهنون حرفة السطو على محلات الموضة بمدينة ميلانو. قصدت في الأسبوع الماضي أحد المتاجر الإيطالية التي يقصدها أبناء الجالية لاقتناء أغراض وحاجيات قبل الانطلاق إلى أرض الوطن، وذلك للتعرف على الأجواء التي يخلقونها بهذه المتاجر وعلى السلع التي يقتنونها قبيل الرحلة. كنت أعرف مثل هذه المحلات من خلال أنواع السيارات المركونة خارجا أمامها والتي تكون غالبيتها من الحجم الكبير ومن نوع «ميرسيدس» و«فولكسفاكن» الألمانيتين أو «بوجو» و«رونو» الفرنسيتين التي توضع فوق أسقفها إطارات حديدية لحمل أغراض وسلع (بورت باكاج). ما إن دخلت إلى المتجر الكبير الذي يتواجد بنواحي مدينة بيرغامو (شمال إيطاليا) حتى خيل لي أنني بأحد المتاجر بالمغرب، فقد صادفت نساء ورجال من أبناء الجالية وهم منهمكون في البحث عن سلعة مناسبة إما لمنحها للأقارب كهدايا أو لبيعها في الأسواق المغربية، فكانت تظهر جليا نية كل واحد منهم من خلال نوع وكمية السلع المقتناة، فهناك من اقتنى أكثر من 20 بذلة رجالية وآخر كان يحمل في سلته المتحركة أعدادا كبيرة من القمصان وربطات العنق، في حين أن آخرين خصوصا النساء منهم كانوا منهمكين في ملء السلة بعطور الدرجة الثالثة التي ما إن تضعها على جسدك حتى تختفي رائحتها في ثوان وكأنك وضعت الماء وليس العطر. وأنا أتجول بالمحل وصل إلى مسامعي حوار دار بين امرأتين مغربيتين كانتا تتحدثان عن بعض السلع, فقالت الأولى: «خذي من هذه القمصان فإنها رخيصة جدا، وكوني على يقين أنك ستجنين منها أرباحا مهمة»، فردت عليها الثانية: «أخشى أن ألا يبقى في سيارة زوجي مكان لوضع أية سلعة أخرى، فلدينا عدد من الزرابي وبعض الأغطية إضافة إلى أحذية». قطع صوت رجل إيطالي حديث المغربيتين بأن سألهما قائلا: «هل هؤلاء الأطفال أبناؤكم؟ «مشيرا إلى ثلاثة أطفال كانوا يحاولون تسلق بعض رفوف المتجر. فقالت الأولى موجهة كلامها لأحد الأطفال الثلاثة دون أن تجيب عن سؤال الرجل الإيطالي أو حتى تلتفت إليه: «انزل يا هداك ولد لحرام. ..أجي اهنا» في حين قالت الثانية موجهة هي الأخرى خطابها للطفلين الآخرين: «واخا حتى للدار... شوهتوني دبا أنقولها لباكم». واستمرت المغربيتان في حديثهما عن السلع وعن أثمانها وكأن شيئا لم يحدث تاركتين الأطفال يكررون محاولة تسلق رفوف المتجر على طريقة الرجل العنكبوت. مغاربة آخرون يستعدون للعودة إلى المغرب بشكل آخر من خلال البحث عن سيارة مناسبة واقتناء ملابس «ماد إن إيطالي» التي يشترونها عادة من لصوص مغاربة وجزائريين بأثمان رخيصة جدا. فغياب العمل وأوراق الإقامة جعل عددا من شباب شمال إفريقيا يمتهن حرفة سرقة الملابس والأحذية وكل شيء له علاقة بالموضة الإيطالية، من أشهر المحلات بمدينة ميلانو خصوصا بفيا «مونتي نابوليوني» الشهير (شارع معروف بمحلات الموضة بميلانو). كان هؤلاء يستخرجون السلع المسروقة إما بإخفائها بإحكام مع إزالة كل أجهزة الإنذار المتواجدة بها أو عن طريق بطاقات بنكية مستنسخة قادمة من شرق أوروبا وبطبيعة الحال فالإقبال يكون عليهم وبشكل مكثف في مواسم العودة إلى أرض الوطن، حيث يمنحون زبائنهم ملابس عالية الجودة وذات شهرة عالمية، تلقى عادة إقبالا من طرف مغاربة الداخل الذين يشترونها دون تردد. حواجز تؤجل السفر يعاني عدد مهم من مغاربة إيطاليا في هذه السنة من أزمات تحول دون عودتهم إلى أرض الوطن، تبقى أهمها تلك المتعلقة بميزانية السفر ومشاكل تجديد رخصة الإقامة. فالأزمة الاقتصادية التي مازالت تفرغ جيوب الإيطاليين وتؤثر بشكل كبير على ازدياد نسبة التضخم بالبلاد، كان لها الأثر السلبي على مدخرات مغاربة إيطاليا الذين يجدون أنفسهم غير قادرين على إتمام الشهر وعلى توفير بعض المبالغ للعودة إلى أرض الوطن. مصطفى. م من ضمن هؤلاء الذين تحولت أحلامهم بالهجرة إلى إيطاليا لتحسين ظروف عيشهم إلى كابوس حقيقي، بعد أن أوصدت عدد من الأبواب في وجوههم وتغيرت نظرة الإيطاليين للأجانب. فقد حكى لي مصطفى أنه دخل إلى إيطاليا قبل أكثر من 15 سنة وكان يعتقد أن الدنيا ابتسمت في وجهه بعد أن ودع حياة العوز والفقر وقلة الحيلة، لكن في السنوات الأخيرة انقلبت الأمور رأسا على عقب ليجد نفسه مضطرا إلى البحث عن عمل آخر بعد أن أقفلت الشركة التي عمل فيها أكثر من 13 سنة أبوابها. وقال: «بعد هجرة دامت أكثر من 15 سنة قضيتها في العمل والكد أصبحت اليوم مثلي مثل أي مهاجر جديد وصل للتو إلى إيطاليا، فمن جهة أصبحت غير قادر على إيجاد عمل قار ومناسب ومن جهة أخرى فالأجر الشهري الذي أتقاضاه لا يكفي لاستكمال الشهر، هذا إضافة إلى أنني أصادف مشاكل عدة في إطار تجديد رخصة إقامتي بسبب عقد العمل... كل هذه المشاكل تجعلني غير قادر على السفر أنا وزوجتي وأبنائي إلى المغرب لزيارة الأقارب، لأننا لا نتوفر على مبالغ مالية كافية للقيام بذلك ومازالت رخص إقامتنا في طور التجديد». ذكرني ما قاله مصطفى بسيدة مغربية التقيتها قبل أيام بمركزية شرطة مدينة نوفارا كانت الدموع تغمر وجهها الحزين البائس وهي خارجة من مكتب الهجرة، فاستوقفتها مسؤولة أمنية رق قلبها لحالها لتعرف سبب بكائها وانهمار دموعها فقالت السيدة المغربية وبإيطالية ممزوجة بتعابير مغربية: «لقد رفضوا منحي رخصة الإقامة رغم أن الوقت على تقديمي طلبا بالحصول عليها تعدى الستة أشهر... فأمي مريضة بالمغرب وأريد أن أراها حتى يطمئن قلبي...». أجابتها المسؤولة الأمنية وقالت: «يمكنك الذهاب والعودة إلى إيطاليا فقط بوصل التجديد، لكن شرط أن تخرجي وتدخلي من نفس نقطة الدخول والخروج». فردت عليها وقالت: «يجب أن تعرفي أن الوصل الذي أتوفر عليه يتعلق بالحصول على رخصة الإقامة لأول مرة، ولذلك فليس لدي الحق في مغادرة إيطاليا والدخول إليها عن طريق الوصل». لم تجد المسؤولة إلا أن تطلب منها وصل التجديد لتغيب عنها لبضع دقائق بالداخل قبل أن تخرج إليها مجددا وتقول لها: «أنا آسفة فرخصة إقامتك لن تكون جاهزة إلا بعد شهر ونصف من الآن» وغادرت المكان تاركة وراءها المغربية غارقة في حزنها. نفس المعاناة عبر عنها حميد 33 سنة الذي قرر مغادرة إيطاليا في اتجاه المغرب لزيارة والديه وأقاربه هناك بعد غربة دامت ثلاث سنوات وبعد معاناة مستمرة مع العمل ومع رخصة الإقامة. وقال: «بعد حصولي على رخصة الإقامة أصبحت أجد عراقيل وحواجز في كل سنة أفكر فيها في العودة إلى المغرب، ففي السنة الفارطة كنت متخوفا من فقدان العمل الذي تمكنت من الحصول عليه، وفي هذه السنة ونظرا لتغييري للعمل والبدء في آخر فإنني سأكون مضطرا للبقاء في إيطاليا حتى لا أفقد فرصة العمل الجديد الذي بواسطته سأجدد رخصة إقامتي في نهاية شهر أكتوبر المقبل لكن اشتياقي إلى والدي وبلدي سيجبرني على العودة إلى المغرب في نهاية هذا الشهر... أولي ليها ليها».