الاحتفالات بأعياد المسيح ورأس السنة الجديدة بإيطاليا لها طعم خاص وتقاليد تختلف عن تلك الممارسة بالدول الأوربية الأخرى خصوصا الشمالية منها. وإذا كان الفرنسيون والإنجليز والألمان يطلقون العنان للاحتفال بهذه الأعياد بداية من 24 من شهر دجنبر، مع اعتبارها مناسبة للاستهلاك ولأخذ قسط من الراحة، فإن الإيطاليين يشرعون في الاحتفال بهذه المناسبة قبل أسابيع من موعدها مع ممارستهم لطقوس اجتماعية ودينية تؤكد، خلافا للأوربيين الآخرين، تعلقهم بالمبادئ التضامنية الأسرية والعائلية وحتى الدينية، فما هي تفاصيل هذه الممارسات؟ وكيف احتفل الإيطاليون ومعهم الجالية المغربية برأس السنة الميلادية الجديدة؟ الآعياد في ايطاليا أجواء جميلة وفرحة عارمة وطقوس رائعة هي السمات التي تؤثث فضاء المجتمع الإيطالي قبل شهر عن حلول أعياد المسيح التي تبدأ في 25 من شهر دجنبر. فكل المدن الإيطالية بدون استثناء تبدأ في تزيين شوارعها استعدادا للاحتفال قبل أسابيع من الموعد، ليتم وضع تشكيلات مختلفة من الأضواء تزيدها رونقا وجمالا، وتجعل المتجول فيها رغم إحساسه ببرد دجنبر القارس يحس بدفء مجتمع إيطالي يصبح أكثر سخاء وكرما في هذه الفترة من السنة الميلادية. المحلات والمتاجر الإيطالية تلبس هي الأخرى حللا جميلة مع تزيين واجهاتها بأضواء ورسوم بديعة جعلت زبناءها يقصدونها بدون تردد، ليقتنوا منها كل الأغراض التي يمكن أن تتحول إلى هدايا تقدم للأقارب والأصدقاء ليلة العيد. كان يصعب أن تجد بين زبائن محلات وسط المدن الإيطالية أسرا بكامل أفرادها بل الغالبية كانوا أفرادا أو زوجا، قدموا بشكل فردي لاقتناء هداياهم حتى لا يعلم الآخرون بتفاصيلها لتبقى مفاجأة سارة لصاحبها صباح يوم العيد. حول سرية الهدايا تذكرت ما قالته لي ذات مرة ماريا أنجيلا وهي صديقة إيطالية، حيث أكدت لي أنها تبدأ قبل شهر في اقتناء الهدايا لزوجها وأعضاء أسرتها الآخرين بسرية بالغة حتى لا يعلم بها أبناؤها وزوجها إلا يوم العيد. وقالت: «الهدية التي تقدم لأعضاء الأسرة والعائلة وحتى للأصدقاء بمناسبة أعياد الميلاد يجب أن تبقى سرا حتى لا تفقد قيمتها، هناك بعض الهدايا أقتنيها بتوافق مع زوجي وتتعلق بأبنائنا وبعض أقاربنا، وهناك هدايا أخرى تبقى سرا لا يجب الكشف عنها...». لاحظت أن أهم شيء في الهدية ليس محتواها بل طريقة تغليفها ولفها والتي يرى الإيطاليون أنها يجب أن تكون متقنة مع استعمال ورق بألوان مناسبة، خصوصا إذا كانت ستقدم للأطفال، فالاعتقاد السائد لدى الأطفال الإيطاليين هو أن أي هدية ملففة بشكل فريد وورقها يحمل ألوانا جميلة، ووضعت تحت شجرة العيد المزخرفة فإنها مهداة من طرف «البابا نويل» أو «البابّو نتالي»، أما تلك التي يجدونها صباح العيد بجانب تماثيل «PRESEPE» (تماثيل تجسد مولد عيسى بن مريم) فإنها مهداة من طرف«GESU BAMBINO» عيسى بن مريم الطفل. هذه الأجواء الاحتفالية التي تبدأ وتدوم أكثر من شهر، تتخللها مواقف ومبادرات الإحسان التي يعتبرها الإيطاليون أمرا ضروريا لتعميم الفرحة وإدخال السعادة إلى بيوت الفقراء والمحتاجين، فأمام كل محل تجاري كبير تجد مجموعة من الجمعيات الإحسانية ورجال الدين الذين يحثون الإيطاليين ممن دخلوا لاقتناء أغراض وهدايا لهم ولأقاربهم، على تخصيص نسبة قليلة من أثمان هذه الأغراض والهدايا، لصالح المحتاجين، إما بالتبرع بالمال أو باقتناء بعض الحاجيات والمواد الغذائية التي قد تساعد أشخاصا وأسرا بكاملها على تكاليف الحياة القاسية بإيطاليا وعلى قضاء أيام العيد بعيدا، ولو لبعض الوقت، عن المشاكل اليومية التي اعتادوا عليها. كان الإيطاليون (شماليون وجنوبيون) رغم الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها البلاد، يتبرعون بسخاء كبير ويملؤون العلب الكرتونية الكبيرة التي تخصصها الجمعيات لجمع التبرع، بكميات كبيرة من المواد الغذائية المعلبة التي لا تفقد مدة صلاحيتها بسرعة (سكر، زيت، قهوة، حلوى، شكولاتة، صابون، وحتى العطور)، كنت أشاهد هذا الأمر وأتمنى أن ينضم إخواني المسلمون والمغاربة في الداخل والخارج أنفسهم ليصبحوا على هذا الشكل ويتبرع الغني للفقير، ليس ب«جوج دريال» أو ببقايا طعامه «الخبز كارم» بل عن طريق مبادرات جماعية يهدف من ورائها إلى تحقيق تكافل اجتماعي حقيقي. فقبل عقود كنا نحن المغاربة والمسلمين، نسخر من الأنظمة الاجتماعية الغربية ونعتبرها فاشلة ولا تخلق التضامن بين أفراد المجتمع الواحد ليترك للدولة ومؤسساتها هناك القيام بهذا الدور، لكننا اليوم يلزمنا أن نوجه ثلاثة انتقادات إلى مجتمعاتنا، الأول لافتقادنا إلى هذه الثقافة الجميلة والتي أصبحت محصورة في أحياء عدد من المدن المغربية والعربية العتيقة، والثانية لأن من غيبوا هذه الثقافة كانوا يعرفون جيدا أن الدولة ومؤسساتها في المغرب وفي العالم العربي لن تكون البديل مثل نظيراتها الأوربية والغربية، ثالثا لأن هذه الممارسة الاجتماعية الإسلامية النبيلة استفاد منها الغربيون إلى حد أنهم أصبحوا يمارسونها بشكل يومي لتتحول إلى سلوك اجتماعي، فالإيطاليون لا يخرجون من جيوبهم درهما واحدا في اليوم كصدقة للمساكين والمتسولين، ليتبجحوا به أمام الخلق على أنهم يقومون بأعمال الخير، بل هؤلاء المواطنون الأوربيون، إضافة إلى الضرائب التي تفرضها الحكومة الإيطالية على مداخيلهم لتحقيق تكافل وتعاون بين الإيطاليين، يقوم عدد كبير منهم بمنح كل الأغراض التي لا يستعملونها ولا حاجة لهم بها إلى الجمعيات الخيرية ومؤسسات التكافل بين المواطنين، الذين يقومن هم الآخرين بمنحها للمحتاجين والمساكين، خلافا لإخواني المغاربة سواء بالداخل أو بالخارج الذين اعتادوا على جمع أغراض لا يحتاجون إليها، ليبيعوها بأثمان متفاوتة إما مقابل دراهم معدودات (هذا بالنسبة لمغاربة الداخل) أو ملايين السنتيمات (يتعلق الأمر بمغاربة الخارج)، فظهر «مول اللواني ومول قراعي للبيع، والجوطية، ومحلات تتخصص في بيع إما النفايات الأوربية أو الأغراض التي قدمتها الكنائس والجمعيات بالمهجر لبعض مغاربة الخارج الذين يتظاهر عدد منهم بالفقر والعوز ليحمل إلى بيته ثلاث مرات في الأسبوع أكياسا مملوءة بالحسنة الكنائسية قبل تجميعها وشحنها إلى المغرب»... في الحقيقة كلامي كان عن الأجواء التي تحيط بأيام أعياد المسيح بإيطاليا، لكن لا بأس من التذكير بأنه في ليلة عيد «النتالي» (المولد) الموافق ل24 شتنبر يكون جميع الإيطاليين كباقي الأوربيين والغربيين الآخرين، قد أتموا تجهيز شجرة العيد وتزيينها بكرات صغيرة ملونة وبأغراض أخرى، بحيث أن العائلة أو الأسرة تجتمع في تلك الليلة للبدء في احتفال فعلي بتناول أطباق شهية أو للتوجه إلى الصلاة في الكنائس الإيطالية التي تظل أبوابها مفتوحة إلى ساعات متأخرة من الليل. في تلك الليلة يتبادل الإيطاليون تهاني العيد والهدايا التي توضع تحت الشجرة المزينة على أن تفتح صبيحة العيد لمعرفة محتوياتها مع أفرادالأسرة أو العائلة. الاحتفال بليلة رأس السنة يستمر الاحتفال بأعياد المسيح، فبعد يوم العيد الموافق ل25 من دجنبر الذي يعتبر يوما خاصا بالنسبة للإيطاليين، الذين يتبادلون الزيارات فيه، ويأكلون أشهى وألذ المأكولات الإيطالية، تأتي أيام التحضير للاحتفال بليلة رأس السنة الجديدة في أجواء لا تقل عن سابقاتها، فإذا كان البعض يفضل استغلال عطل رأس السنة لقضاء أوقات ممتعة خارج المكان أو المدينة التي يقيم فيها، فإن الغالبية ولأسباب متفاوتة يفضلون البقاء في مدنهم على أن يبدؤوا في التحضير للاحتفال بليلة رأس السنة الجديدة إما داخل البيت أو خارجه. أتذكر قبل سنوات حين وجه لي صديق إيطالي الدعوة للاحتفال معه وأصدقائه وأفراد أسرته بليلة رأس السنة الجديدة، حيث أنني رافقته قبل يومين من الاحتفال، إلى بعض المتاجر لاقتناء بعض الأغراض تخص هذا الحدث الذي تعتبره غالبية الغربيين حدثا يستحق أن تصرف فيه أموال طائلة لطي صفحة سنة كاملة بالبهجة والسرور. كان صديقي ماركو الذي ينحدر من مدينة نابولي قد حصل من زوجته على لائحة طويلة تتعلق بمتطلبات الحفل: (حلويات، مشروبات، سمك، ولحوم ومواد غذائية أخرى، إضافة إلى الكثير من الألعاب النارية التي اقتناها بمبلغ فاق المائة وخمسين يورو). سألته عن قيمة الألعاب النارية في رأس السنة بمدينة نابولي، فقال: «في الحقيقة كان علي وأفراد أسرتي أن نكون في ليلة رأس السنة الجديدة بمدينة نابولي، لأن الاحتفال هناك بهذه المناسبة له طعم خاص، لكنني سأعوض هذا الأمر من خلال هذه الألعاب النارية التي ستشفي غليلي وتجعلني أعتقد ولو لبعض الوقت أنني بأحد أحياء مدينتي الرائعة، فالكل هناك وقبل منتصف الليل يطلق العنان لتفجير كمية كبيرة من الألعاب النارية التي يشترونها بأثمان بخسة وبأحجام كبيرة خلافا للشمال الإيطالي الذي يضع رقابة على هذا الأمر...». كان ماركو وزوجته كباقي الإيطاليين الذين سيحتفلون بليلة رأس السنة قد وضعا كل الترتيبات اللازمة للحفل وهيآ منزلهما لاستقبال الضيوف واستقبال العام الجديد، «في الحقيقة لو كانت لدينا سيولة وكانت معنا مبالغ مالية إضافية لقضيت ليلة رأس السنة الميلادية صحبة زوجي بباريس أو أي منطقة أخرى بالعالم، بعيدا عن شمال إيطاليا وروتينيته... فما عساي أن أفعل إلا الرضا بالأمر الواقع والتأقلم معه حسب الظروف» تحكي مانويلا وهي زوجة ماركو، التي رفضت، خلافا لعدد كبير من الإيطاليين، أن تقضي ليلة رأس السنة بأحد مطاعم مدينة ميلانو، وقالت: «عدد من صديقاتي طلبن مني مرارا وتكرارا أن أتوجه معهن صحبة زوجي وأزواجهن طبعا إلى مطعم ما بالمدينة أو حتى خارجها للاحتفال بليلة رأس السنة، لكنني كنت أرفض دائما، لأنني أولا أجد أن في ذلك إسرافا وتبذيرا كبيرا، فلا يعقل أن أحتفل أنا وزوجي بليلة مقابل 400 يورو، ثانيا، أجد راحتي في البيت مع أفراد أسرتي وعائلتي، حيث إنني أصرخ وأغني وأتحرك بحرية دون الإحساس بأن الآخرين يراقبونك..» خارج بيت ماركو وزوجته مانويلا، كان الجو باردا نوعا ما لكن هذا الأمر لم يمنع عددا كبيرا من الإيطاليين والأجانب من الخروج إلى ساحات مدينة ميلانو خصوصا ساحة «دوومو الشهيرة» للاحتفال بشكل جماعي في آخر ساعات السنة الماضية وأولى ساعات السنة الجديدة، كانت الألعاب النارية وأصواتها وألوانها تحيط بالساحة من كل جانب ويملأ ضجيجها فضاءها (الساحة) الفسيح خصوصا بعد الإعلان عن دخول سنة 2008. رأس السنة في إيطاليا ببصمة مغربية مغاربة إيطاليا هم الآخرون يشاركون في الأفراح التي يعيشها المجتمع الإيطالي بشغف كبير، إلى حد أن بعضهم أصبح يبرمج احتفاله بليلة رأس السنة بشكل مسبق من خلال حجزه في أحد المطاعم الإيطالية، أو بإحدى الطائرات المغربية المتوجهة إلى مدن المملكة للاحتفال هناك بدخول السنة الجديدة، في حين أن البعض الآخر، الذين يمثلون الأغلبية فيبقون إما في البيت أو يخرج بشكل عشوائي للبحث عن محلات ومراقص مغربية أصبحت منتشرة بمدينتي تورينو وميلانو وتضاعف أثمان الدخول إليها بهذه المناسبة. هذه المراقص أو المحلات التي لم أجد حتى الآن اسما مناسبا لها يمكن أن يعكس الخدمات التي تقدمها، تمتلئ عن آخرها في ليلة رأس السنة، ليقصدها مغاربة يعشقون الشعبي والراي وكل الأغاني التي عادة ما نسمعها في محلات بيع الكاسيت بالأسواق الشعبية «لقريعة والقيسارية» أو بصالونات الحلاقة الشعبية بالمغرب. كنت أعرف جيدا أجواء هذه المراقص المغربية بليلة رأس السنة وأعرف حتى المسؤولين عنها وكذا نوعية زبائنها، فقد قمت بزيارات عديدة لها بتورينو وميلانو وبريشيا التي تعتبر فضاء مهما يضم عددا كبيرا من أبناء الجالية المغربية. أتذكر أنني تواجدت في إحداها قبل سنوات في ليلة رأس السنة، لأكتشف عالما غريبا ووجوها أغرب تجتمع فيها ملامح اليأس والقهر الممزوجة بخوف من مستقبل مجهول. قبل دخولي إلى أحد هذه المحلات بتورينو، طلبت من صديقي أن نبقى لبعض الوقت خارجا لمعرفة نوعية زبائنه وتفاصيلهم. كان نادرا ألا تخرج من أي سيارات فخمة من السيارات التي تتوقف أمام بوابة المحل، فتاة أو فتاتان أو ثلاث بلباس أنيق ليبقين صحبة رجال آخرين أو أمام باب المحل في انتظار أن يتمكن صاحب السيارة التي أقلتهن من إيجاد مكان مناسب لركنها، كانت الصورة تتكرر، فقررت أنا وصديقي ولوج باب المرقص المغربي للحصول على تفاصيل أكثر ولجلب بعض الدفء إلى أجسادنا. وما إن وطئت أقدامنا الصالون الرئيسي للمرقص حتى أصبنا بصدمة كبيرة، فالمكان كان شبيها بحمام الصونا، لتصاعد أدخنة «الشيشة» والسجائر في كل مكان، حتى خيل لي أنني أن ابتعدت عن صديقي فإنني سأجد صعوبة في إيجاده. كان الكل رغم الضباب المحيط يغني ويرقص على أنغام الموسيقى الشعبية المغربية، مع فتح متواصل لزجاجات الشمبانيا الغالية والبيرة الرخيصة في سخاء كبير، على شرف المومسات اللواتي كن ينتشرن في كل مكان «بحال الحريكة». كان زبائن المحل، ربما لشربهم الكثير، يرون فيهن (المومسات) جمالا كبيرا إلى حد أن أحدهم بعد تعرفه على واحدة منهن وحصوله على رقم هاتفها المحمول أصبح يرسل إليها وباستمرار رسائل «SMS» تعبر عن عشقه وغرامه، رغم جلوسه بالقرب منها، ليبقى على هذا الوضع إلى أن أعلن عن دخول السنة الجديدة لينقض على المومس بالقبل في مشهد هوليودي جعل زبائن المحل الآخرين «مايكونوش من العاكزين» ويفعلوا مع صديقاتهم نفس الشيء احتفالا بقدوم السنة الميلادية الجديدة.