رغم أن هجرة المغاربة إلى إيطاليا لم تتعد عقدها الثالث، فإن هذه المدة القصيرة لم تمنع من تواجد نسبة مهمة من الشيوخ المغاربة بإيطاليا تعدوا الستين من أعمارهم، تعاني الأمرين من قسوة الغربة وظروف اجتماعية سيئة. فكيف تعيش هذه الفئة داخل هذا المجتمع الأوربي؟ وما هي دوافع هجرتها إلى إيطاليا؟ وهل لها أهداف من هذه الهجرة؟ «المساء»، وللإجابة عن هذه الأسئلة، التقت بعدد من الشيوخ المغاربة ممن رمت بهم الأقدار في الغربة، وذلك لرصد واقعهم المزري والاستماع إلى حكايات بعضهم ممن كانوا من بين المغاربة الأوائل الذين وضعوا أقدامهم بشبه الجزيرة الإيطالية. قليلة هي المصادر التي يمكن من خلالها الحصول على أرقام حول عدد الشيوخ المغاربة بإيطاليا وحول المناطق التي يختارون الإقامة والعيش فيها، فلا القنصليات المغربية بإيطاليا ولا الجمعيات التي يؤسسها مغاربة إيطاليا ولا المؤسسات العمومية الإيطالية قادرة على تحديد عدد هذه الفئة من المجتمع الإيطالي، لكن أرقاما حصلت عليها «المساء» من مسؤولين صحيين بجهتي البييمونتي ولومبارديا (وهما جهتان بالشمال الإيطالي تعرفان وجود نسبة مهمة من أبناء الجالية المغربية) أكدت أن نسبة المغاربة الذين يتعدون الستين سنة ويلتجئون إلى مصحات ومستشفيات الشمال الإيطالي في تزايد مستمر لتصل إلى أكثر من 5 % من العدد الإجمالي للمغاربة الذين يلتجئون إلى الاستشفاء والتطبيب بشمال إيطاليا. نفس النسبة أو أكثر منها سجلت لدى مكاتب الهجرة التابعة لوزارة الداخلية التي أوضحت غالبيتها أن نسبة الآباء المهاجرين الملتحقين بأبنائهم من المقيمين بإيطاليا في إطار ما يعرف بالتجمع العائلي في تصاعد مستمر. وإجمالا، يمكن وبكل سهولة ملاحظة التزايد في نسبة هذه الفئة من خلال القيام بجولة عادية بمدن الشمال الإيطالي، خصوصا الكبرى منها، وبأحيائها التي تعرف تواجدا مهما للأجانب، لتجد نساء طاعنات في السن صحبة أحفادهن منزويات في مقعد بإحدى الحدائق العمومية أو شيوخا بجلباب مغربي يقومون بجولات لوحدهم بشوارع باردة رغم كثرة الحركة فيها. كنت كل مرة أزور فيها حي بورتا بلاتسو بتورينو أو أحياء أخرى بميلانو وبيرغامو وبلونيا من تلك التي سيطر عليها مغاربة إيطاليا، أصادف أسرا مغربية أثناء تسوقها بأحد الأسواق الشعبية هناك، وبينها أحد أفرادها الطاعنين في السن الذي يكون في الغالب إما أبا أو أما، ربا أو ربة بيت. تزايد أعداد الشيوخ المغاربة بإيطاليا يمكن رصده حتى داخل المساجد التي أصبحت تمتلئ بهم وفي جميع الصلوات، فغالبيتهم تتوجه إلى المسجد ليس فقط لتأدية الصلاة وقراءة القرآن، بل أيضا من أجل تكسير حاجز الغربة والوحدة اللتين قدرتا عليهم. أوضاع مأساوية غالبية من استجوبتهم «المساء» من الشيوخ المغاربة بإيطاليا ورصدت حالاتهم، يعيشون أوضاعا قاسية فرضتها عليهم ظروف قاهرة بإيطاليا وبالمغرب، فنسبة كبيرة منهم دخلت إيطاليا عن طريق «الالتحاق العائلي»، في حين وصلت النسبة المتبقية إلى إيطاليا قبل أكثر من عشرين سنة لتكرس اسم «ماروكينو» الذي صنعه المحاربون المغاربة الذين حرروا منطقة كمبانا الإيطالية من يد النازيين. فكلتا النسبتين رغم وصولهما إلى إيطاليا لأهداف مختلفة إلا أنهما تتقاسمان نفس الهم ونفس ظروف العيش القاسية. اعتاد الحاج محمد.ر (67 سنة ) كل يوم، قبل قيامه بجولة كبيرة بالحي الذي يقطن فيه، على تأدية صلاة الفجر بالمسجد القريب من بيت ابنه بميلانو وعلى اصطحاب حفيده إلى المدرسة ذهابا وإيابا. كان في الأيام الأولى لوصوله إلى إيطاليا عن طريق الالتحاق العائلي جد سعيد بتأدية هذا الدور لكن مع مرور الشهور أصبحت المهمة مملة وروتينية وأصبح معها الحزن والكآبة يسكنانه ويؤثران على تصرفاته. «بعد وفاة زوجتي بقيت وحيدا في البيت رغم أن لي ثلاث بنات متزوجات بمدينة الدارالبيضاء التي أقطن فيها، فقررت الهجرة إلى إيطاليا للإقامة مع ابني بمدينة ميلانو بعد إلحاح منه ومن زوجته... كنت متحفز للانخراط في حياة جديدة وتجربة جديدة، لكن مع مرور الأيام أصبحت أشعر بأن الحياة هنا لا تطاق، الوحدة القاسية، اللغة الغريبة عني، الابتعاد عن الأجواء المغربية، وغياب الأصدقاء.. كلها أمور تخنقني وستعجل برحيلي إلى المغرب الذي أصبح جنة في نظري»، يحكي الحاج محمد بحزن واشتياق إلى أجواء المغرب. نفس الهم عبر عنه الشيخ علال (71 سنة ) الذي يقيم منذ سنتين مع ابنه بنواحي مدينة ميلانو، فما إن سألته عن أوضاعه وعن مدى اشتياقه إلى أجواء المغرب حتى انفجر بالكلام قائلا: “لو كنت بصحة جيدة وكان لي ما يكفي من المال لتأدية مصاريف تصفية الكلى لما جلست بهذا البلد ولو لدقيقة واحدة، فأنا عانيت بالمغرب كثيرا وعانى معي حتى أبنائي بسبب القصور الكلوي الذي أصابني، لهذا قرر ابني أن يأخذني للإقامة معه وللاستفادة من الخدمات الصحية المجانية بإيطاليا... كنت أتمنى أن يوفر لنا بلدنا خدمات صحية مجانية مثل هذا البلد الغربي لكن وللأسف الأوضاع المزرية بالمغرب هي التي جعلتنا محرومين من هواء وشمس وأجواء وطننا الجميل... الله يرحمنا». أما المغربية حليمة (61 سنة) فالأمر لا يختلف معها لأنها قادمة من إحدى القرى القريبة من مدينة خريبكة التي لم تكن توفر لها أبسط ظروف العيش ولم تكن تصلها الخدمات الطبية، فقرر أبناؤها أن يجلبوها إلى إيطاليا بعد وفاة الزوج من أجل التطبيب ومن أجل أن تكون قريبة منهم للاعتناء بها، «كل شيء متوفر لي وأنا بالقرب من أبنائي الثلاثة بإيطاليا، لكن هذا الأمر لا يمنعني من الاشتياق إلى قريتي وإلى أهلها، فالحياة هنا باردة ومملة، لهذا فأنا ألازم البيت في غالب الأحيان». الطمع الزائد إذا كان عدد من الشيوخ المغاربة بإيطاليا غير قادرين على تغيير واقعهم وظروف عيشهم بالعودة إلى أرض الوطن، فإن قدرة آخرين ممن دخلوا هذا البلد الأوربي قبل أكثر من عشرين سنة، كمهاجرين باحثين عن العمل، على العودة كبيرة جدا، لكن رغم ذلك يفضلون البقاء بديار الغربة لجمع مزيد من المال أو للاستفادة من الخدمات المجانية التي يوفرها المجتمع الإيطالي لهم ولغيرهم. يمكن بسهولة كبيرة رصد هذا النوع من الشيوخ بين أبناء الجالية المغربية، وحيث إن نسبة منهم مازالت تعيش على التجارة وغير قادرة على التخلي عن مهنة بيع السجاد وأغراض أخرى بالتجول في الشوارع مستعملين تقنية طرق الأبواب وكسب عطف النساء الإيطاليات، فعندما تسألهم عن أسباب استمرارهم في العمل بهذا الشكل المهين يؤكدون لك أن لديهم أسرا في المغرب يعيش أفرادها في فقر مدقع وأنهم مضطرون إلى الاستمرار في العمل لإرسال مبالغ مالية إليها. حول هذا الموضوع، أكد لي عدد من أبناء الجالية، المتحدرين من مدن خريبكة والفقيه بن صالح والقرى المجاورة لها، أن مثل هذا النوع من الشيوخ الذين احترفوا التجوال في الشوارع لبيع أغراض وسجاد للإيطاليين يتوفرون على أموال وعلى أراض ومنازل بالمغرب، ومنهم من أسس تجارة واقتنى محلات تجارية بمدن مسقط الرأس ترك فيها أبناءه للإشراف عليها. أما آخرون فأصبحوا مرضى بحمل كل ما يجدونه في الشوارع الإيطالية وبالمؤسسات الخيرية وقابل للبيع لينقلوه إلى المغرب بشتى الطرق. وحتى النساء المغربيات اللواتي تعدين سن الستين وجدن طرقا متعددة للحصول على المال، فعدد منهن أصبحن مربيات يعتنين بالأطفال المغاربة الذين خرج آباؤهم وأمهاتهم للعمل، وأخريات أصبحن يمتهن الطبخ في المطاعم المغربية بالمدن الكبرى، في حين تحولت نسبة أخرى خصوصا بمدينة تورينو إلى بائعات للخبز و«المسمن» وجميع أنواع المعجنات المغربية التي يتم إعدادها بالبيت. الأقدام الأولى للأسف، التاريخ والإعلام الإيطاليان يتجاهلان الحديث عن المغاربة الذين صنعوا أمجادا بشبه الجزيرة الإيطالية والجزر المجاورة لها ويطمسان بالتالي معلومات عن الأوائل منهم الذين وضعوا أقدامهم بإيطاليا ليؤسسوا بها علوما مازال العالم يتحدث عنها ويعترف بفضلها، مثل هؤلاء اسم الشريف الإدريسي الذي عاش في جزيرة صقلية في القرن الثاني عشر الميلادي لتأسيس علم جديد اسمه «الجغرافية والرسم الطوبوغرافي»، مستغلا حب ملك الجزيرة روجر الثاني للعلوم. مراحل أخرى تاريخية تدل على أن الأقدام المغربية الأولى التي وطئت الأراضي الإيطالية لم تكن في السبعينيات كما يدعي الإيطاليون بل كانت قبل ذلك وبجهة كامبانا بالجنوب الإيطالي إبان الحرب العالمية الثانية حين هزمت قوات مغربية النازيين والفاشيين شر هزيمة لتصل حتى جهة توسكانا لتثير الفزع في قلوب مناصري وأتباع »إلدوتشي» (موسوليني) و«الرايخ» (هيتلر). وعموما، تبقى مرحلة السبعينيات والثمانينيات هي المرحلة الثالثة أو المرحلة التي قصد فيها المغاربة إيطاليا من أجل الهجرة والعمل وليس من أجل تأسيس علوم فيها أو تحريرها من الدكتاتورية. ففي هذه المرحلة، كان جميع المهاجرين المغاربة ذكورا وكانت أعمارهم تفوق الثلاثين سنة، حيث إن نسبة كبيرة منهم استقرت عند وصولها إلى إيطاليا بالجهات الشمالية التي كانوا يدخلونها عن طريق الحدود الفرنسية. في بداية الثمانينيات، انحصر استقرارها بجهتي البييموني وليغوريا المتاخمتين للحدود الفرنسية لينتشر عدد منهم بعد ذلك، في أواخر الثمانينيات، بجهات لومبارديا والفينيتو وإيمليا رومانيا التي تعرف مدنها حركة صناعية وتجارية كبيرة. وبحكم عامل اللغة وقلة التجربة، لم يجد هؤلاء المغاربة، الذين أصبح عدد منهم اليوم شيوخا، إلا الاتجار في الشوارع كباعة متجولين قبل أن تقرر نسبة منهم العمل في المصانع وأوراش البناء التي كانت أجورها آنذاك الشهرية جد مغرية. حكايات ومغامرات هؤلاء مع الهجرة تختلف من منطقة إيطالية إلى أخرى، لكنها تشترك كلها في التأكيد على أن إيطاليا السبعينيات والثمانينيات كانت أجمل وكانت أفضل من اليوم. دخل المغربي عبد الرحمان إيطاليا في سنة 79 وهو في ال 31 من العمر قادما إليها من جزيرة كورسيكا الفرنسية، بعد وصوله إلى مدينة جنوا قرر مواصلة السير إلى تورينو بحثا عن صديق له من أبناء حيه كان قد سبقه إلى إيطاليا قبل خمسة أشهر. «في أواخر السبعينيات، كان من الصعب أن تجد مغربيا بإيطاليا، فقد كان المغربي يتمتع بسمعة جيدة وكان مرحبا به في العمل إلى حد أنه كان يضع شروطا لقبول عامل ما... كان المشكل الوحيد الذي صادفته، كما صادفه عدد من إخواني المغاربة، هو تعلم اللغة الإيطالية والبحث عن من يوجهني، لأظل تائها لبعض الوقت إلى أن صادفت صديقي بتورينو وتعرفت إلى إيطالية ساعدتني كثيرا لأصبح تاجرا صغيرا وأتعلم كثيرا من الأشياء، اعتقدت أن الدنيا ابتسمت لي أخيرا لكن مرور الوقت وسرقته لأجمل فترات شبابي ودخول دفعات جديدة من المهاجرين المغاربة في أوائل التسعينيات ضيق الخناق على المغاربة الأوائل مثلي وجعلهم غير قادرين على مسايرة الأوضاع الجديدة لندخل دائرة النسيان والمعاناة»، يحكي عبد الرحمان الذي أصبح غير قادر على العودة إلى المغرب ولا على البقاء في إيطاليا كمهاجر من الجيل الأول. تضييق الخناق يبدو أن اليمين الإيطالي الحاكم لم يحاول فقط تضييق الخناق على المهاجرين الشباب الذين أصبح عدد منهم بدون شغل بسبب الأزمة ليتم منح الأولوية في الحصول على مناصب الشغل للإيطاليين، بل تعداه لممارسة نفس الشيء حتى مع الشيوخ الأجانب والمغاربة بشكل خاص الذين يتعدون سن ال65 ويحصلون من مؤسسة «INPS» (المؤسسة الوطنية للضمان الاجتماعية) على معاش شهري يفوق 400 يورو. فقد تم وضع شروط جديدة للحصول على هذا المعاش، مثل ضرورة استقرار الراغبين في الاستفادة منه بإيطاليا وبشكل قانوني لأكثر من 10 سنوات، وقضاء نسبة كبيرة من أشهر السنة بإيطاليا. فقد كثفت والسلطات الإيطالية بالمؤسسة الاجتماعية المذكورة، في الآونة الأخيرة، من مراقبتها وتفتيشها عن المهاجرين المستفيدين من هذا المعاش والذين لا يستجيبون لهذه الشروط الجديدة ليتم منعهم من الحصول عليه بدعوى أنهم لا يقيمون في إيطاليا وأنهم يستفيدون من المبلغ ويصرفونه ببلدانهم الأصلية، فالمسؤولون عن مؤسسة «INPS» أصبحوا يركزون على تفتيش ومراقبة جوازات سفر المستفيدين الأجانب لمعرفة المدة الزمنية التي قضوها خارج إيطاليا، فإن كانت تتعدى المدة التي تشترطها القوانين في هذا الإطار فإن المعاش يوقف، وتأتي عمليات المراقبة هذه لحرمان الأجانب الشيوخ من المعاش في وقت يعيش فيه عدد من الشيوخ الإيطاليين خارج إيطاليا وبشكل دائم، مستفيدين من معاش شهري أكبر بكثير من ذلك الذي يحصل عليه الأجانب المقيمون بإيطاليا.