عند الحديث عن المهن الحرة التي يزاولها مغاربة إيطاليا، لا بد أن نتطرق إلى مهنة الجزارة الإسلامية التي أصبحت تنتشر بشكل كبير وملحوظ بالمدن الإيطالية التي تعرف تواجدا مهما للجالية الإسلامية والجالية المغربية بشكل خاص. وبطبيعة الحال فهذا الانتشار المبالغ فيه للمجازر الإسلامية بالمدن الإيطالية، إضافة إلى امتهان مهاجرين مصريين وتونسيين وباكستانيين لهذه التجارة، خلق نوعا من المنافسة القوية أثرت بشكل ملحوظ على أثمان اللحوم وعلى جودتها ومصداقيتها الإسلامية، إلى حد أن عددا كبيرا من أبناء الجالية المغربية أصبح يشك في أصولها وفي احترام المجازر المذكورة للشروط الإسلامية في الذبح. «المساء» تجولت بعدد من المدن الإيطالية للبحث في هذا الموضوع ولتنوير القارئ ولبيان كيف أن صورة الإسلام أصبحت تستغل من طرف بعض أبناء الجالية الإسلامية لتحقيق أرباح مالية رخيصة. بالقرب من غالبية المراكز الإسلامية أو المساجد بإيطاليا لابد أن تجد مجزرة إسلامية، تعرفها من خلال عبارات مكتوبة على واجهاتها باللغة العربية مثل «لحوم إسلامية»، «لحم حلال»، «مواد غذائية عربية». يمكن التعرف بسهولة كبيرة على كثافة الجالية الإسلامية بالمنطقة وكذا أقدمية مسجد أو مركز إسلامي، من خلال عدد المجازر الإسلامية التي تحيط به، فإذا تواجدت مجزرة واحدة أو اثنتان فهذا يعني أن المسجد حديث التأسيس أو البناء وإن كان العدد أكثر من ذلك فهذا يعني أنه (المسجد) يتواجد منذ سنوات عديدة وأن المنطقة التي بني فيها آهلة بالمسلمين. غالبية أصحاب هذه المجازر الإسلامية لا يعرفون من مهنة الجزارة وتفاصيلها إلا شد السكين وتحريكه فوق شرائح اللحم، فغالبيتهم لم تكن له دراسة ولا تجربة سابقة في هذا المجال ليتطفلوا عليه مستغلين جملة «لحوم إسلامية حلال» لجلب زبائن مسلمين إلى محلاتهم. بحي بورتا بلاتسو بتورينو أو فيا بادوفا بميلانو، أو سنتا أغابيو بنوفارا أو أحياء أخرى تقطنها الجالية الإسلامية بإيطاليا، تسترعي انتباهك محلات الجزارة الإسلامية التي تملأ فضاء هذه الأحياء بشكل يجعلك تعتقد أن لكل مهاجر مقيم بالحي مجزرته الخاصة، كنت عند توجهي إلى هذه الأحياء لاقتناء مواد غذائية أو لحوم، ألامس منافسة حادة بين أصحاب هذه المجازر الإسلامية، تظهر بشكل واضح في طرق الدعاية المختلفة التي يعتمدونها لجلب مزيد من الزبائن إلى محلاتهم، فهناك من يعتمد على الخطاب الديني لتمرير رسالته فيؤثث محله بجمل وعبارات دينية مقتبسة عن القرآن الكريم ومن الأحاديث النبوية وهناك من يستعمل جانبا من ثقافة الكرم المغربية بتقديمه كوبا من الشاي المغربي مع كلمات لبقة وموزونة لإرضاء الزبائن وهناك من يدخل المنافسة بتخفيض الأثمان، وهناك كذلك من يركز على الخدمات الجيدة وهيكلة المحل ونظافته لكسب ثقة المغاربة وحتى الإيطاليين الذي يقتنون مواده الغذائية. يمكنك التعرف على صاحب المحل أو المسؤول عنه بسهولة كبيرة، فهو من يحاسب الزبائن ويتسلم منهم ثمن البضاعة ويجيب عن أسئلتهم عوضا عن العاملين الآخرين ليظهر لهم أنه هو المسؤول الأول. وجوه العاملين المغاربة بمحلات الجزارة الإسلامية تعبر بشكل أو بآخر عن معاناة دفينة وعن استغلال بعض مشغليهم للظروف القاسية التي يمرون بها بإيطاليا وتجبرهم على قبول أي شيء للحصول على لقمة العيش، فغالبية هؤلاء ممن استجوبتهم «المساء» كانوا بدون رخص إقامة وكانوا مضطرين للعمل بالمجازر الإسلامية وبأجور زهيدة لعدم قدرتهم على إيجاد عمل غيره بسوق الشغل الإيطالية ولعدم معرفتهم بتفاصيل اللغة الإيطالية، سألت أحدهم ويدعى مصطفى. ص عن ظروف العمل وعن تعامل مشغليهم المغاربة معهم، فقال: «مهما يكن فأصحاب المجازر الإسلامية المغاربة بتقديمهم فرص العمل للمهاجرين غير الشرعيين إنما يقدمون خيرا كبيرا، لكن هذا لا يمنع من القول بأن بعضهم يستفيدون ويستغلون حاجة هؤلاء المهاجرين بمنحهم أجورا زهيدة جدا، فقد اشتغلت قبل ثلاثة أشهر بمجزرة إسلامية بمدينة غالياتي (50 كلم شرق ميلانو) رفض صاحبها منحي راتبي الشهري لمدة ستة أشهر من العمل، محتجا بمنحي سكنا ومأكلا بالمجان مقابل عملي.... وأعتقد أن تقديم أصحاب المجازر الإسلامية أجورا زهيدة لعمالهم يدخل في إطار التقليل من تكاليف ونفقات محلاتهم لتحقيق المنافسة مع المجازر الأخرى التي أصبحت تنتشر بشكل مكثف...». إلى جانب دخول المجازر المغربية في منافسة في ما بينها انضافت مجازر أخرى إسلامية أصحابها مصريون وتونسيون وباكستانيون، يبيعون لحوما (لا يعلم مصدرها إلا الله) تكون في العادة أقل ثمنا من تلك التي تباع ببعض المجازر المغربية مؤكدين على أنها إسلامية مائة في المائة وعلى أن تخفيضهم للأثمان يدخل في إطار حنكتهم ومعرفتهم بخبايا هذه المهنة. هل هي فعلا حلال؟ للإجابة عن هذا السؤال، سألت عددا من أصحاب محلات الجزارة بإيطاليا، فكانت البداية من مدينة ميلانو وبالضبط بالقرب من محطة القطار الشهيرة هناك «ميلانو تشينترالي» التي يتواجد بالقرب منها «محل للجزارة الإسلامية» وبيع المواد الغذائية العربية، صاحبها ناشط جمعوي مغربي يدعى بوجمعة العامري. سألته عن اللحوم التي يجلبها إلى محله هل هي إسلامية أم لا، فكان رده : «بالنسبة لي فأنا أشرف على عملية الذبح والسلخ من بدايتها إلى نهايتها، حيث يقوم بها جزاران مغربيان يعملان بإحدى المذابح بشمال إيطاليا، وضعت فيهما ثقتي منذ سنوات، لهذا فالأثمان التي أبيع بها هذه اللحوم تكون مرتفعة نوعا ما عن أثمان المجازر الأخرى التي تدعي أنها تبيع لحوما حلالا مذبوحة بطريقة شرعية...». توقف بوجمعة عن الكلام ليرد السلام على أحد زبائنه ممن دخلوا إلى المحل قبل أن يلتفت إليه وتظهر على وجهه ابتسامة عريضة ليطلب منه الاقتراب من جمعنا قائلا لي: «لقد جاء شاهد من أهلها وهو الآخر يمتلك محلا للجزارة بالقرب مني بفيا بادوفا ونشتري لحومنا من نفس المذبح، فهو الآخر يشك في اللحوم التي يبيعها المصريون والباكستانيون ويدعون أنها لحوم حلال...». توقف بوجمعة عن الكلام ليتدخل في الموضوع صديقه الجزار المغربي المسمى عبد الهادي حمداوي قائلا: «أنا على يقين بأن تلك اللحوم التي تباع بأثمان منخفضة بمحلات جزارة يمتلكها مصريون وباكستانيون، هي لحوم لا تفرق في شيء عن تلك المتواجدة بالمحلات التجارية الإيطالية، فكيف يعقل أن يبيع هؤلاء جميع اللحوم الحمراء بحوالي 50 يورو للكيلو، في حين أن الكيلو واحد يكلفنا 74.3 يورو ناهيك عن تكاليف النقل وأمور أخرى، فالمصريون أو الباكستانيون وحتى بعض المغاربة بمدن إيطالية أخرى يقتنون لحوما بأبخس الأثمان من مذابح إيطالية لا تحترم شروط الذبح الإسلامي، حتى ينافسوا المجازر الإسلامية التي تراعي الله وعباده في هذا الأمر، بالنسبة إلي فزبائني يثقون بي ويعرفون بشكل جيد أن اللحوم التي أجلبها إلى مجزرتي هي حلال... أربح قليلا أو كثيرا لا يهم بل الأهم هو أنني صادق مع الله عز وجل ومع نفسي وضميري مرتاح جدا». ما ذكره عبد الهادي ومعه بوجمعة جعلني أقوم بزيارة إلى إحدى المجازر الإسلامية الباكستانية بميلانو لمقارنة الأثمان ولمعرفة بعض التفاصيل الأخرى المتعلقة بهذه التجارة. دخلت مجزرة المواطن الباكستاني التي كتب على واجهاتها كلمة «حلال» وبالحائط الداخلي علقت صور للكعبة المشرفة التي وضعت بالقرب منها رفوف تحوي قنينات الجعة الإيطالية (بيرا موريتي) والكحول والخمور بجميع أنواعها. فتساءلت مع نفسي: «هل الباكستانيون يجهلون أو يتجاهلون أن الإسلام حرم الخمر؟ أم أن البعض منهم يؤول آية تحريم الخمر بأن الأخير مشروب حلال مسموح به بعد الصلاة؟ أو يعتقدون بأن وضع كلمة «حلال» على واجهات المحل يمنح شرعية إسلامية لكل بضائعه؟» تركت تساؤلاتي جانبا واقتربت من الثلاجة ذات الوجهات الزجاجية التي يعرض فيها اللحم للتعرف على الأثمان، فوجدتها، مقارنة بالأثمان التي تعرضها بعض المجازر الإسلامية المغربية، أقل بكثير مما أثار شكوكي وجعلني أسأل المسؤول عن المحل عن جودتها وعن كونها مذبوحة على الطريقة الإسلامية، فقال دون أن يبذل مجهودا للإجابة عن سؤالي: «نعم حلال» سألته مرة أخرى: «وكيف تتأكد من كونها حلالا أم لا... فقد لاحظت أن أثمانها رخيصة جدا ويصعب أن يجد المرء لحوما حلالا بهذه الأثمان لأن تكاليف إعدادها تفوق تكاليف إعداد اللحوم الأخرى المتواجدة في الأسواق الإيطالية». فقال: «في الحقيقة أنا لست صاحب المحل فأنا مسؤول مؤقت عنه ولا دخل لي بمثل هذه المواضيع». تركت المجزرة الباكستانية التي تضع نفسها في خانة المجازر الإسلامية بميلانو وأنا متأكد من أن صاحبها أصبح أمره مكشوفا لدى أفراد الجالية الإسلامية، فقد كان المسؤول عنها في راحة تامة لا بيع ولا شراء «ينش الدبان»، رغم أن مجزرته توجد في حي يعج بسكان عرب ومسلمين. لكن هذه الحقيقة لا تمنع من القول بأن حتى مجازر إسلامية بشمال إيطاليا يمتلكها مغاربة تقوم بنفس العمل، فقد صادفت إحداها تبيع لحوما تقتنيها من إيطاليين دون التيقن من أصلها وشرعيتها لتعرضها على الزبائن من أبناء الجالية الإسلامية على أنها حلال واضعة عليها أثمانا عادية حتى لا تثار الشكوك حولها. مراكز إسلامية تتاجر في لحوم المسلمين هناك عدد من المراكز الإسلامية بإيطاليا التي يستغل المسؤولون عنها اسم المركز أو الإسلام بصفة عامة لتحقيق أرباح مالية مهمة، هذا الاستغلال باسم الدين، تتعدد أوجهه وأشكاله، ليدخل حتى في عالم تجارة اللحوم، فقد حكى لي عدد من أبناء الجالية الإسلامية بإيطاليا عن قيام رؤساء بعض المراكز الإسلامية بالشمال الإيطالي، بالتواطؤ مع مجازر ومذابح لمنح لحومها شرعية إسلامية. في هذا الإطار قال لي جزار مغربي يحترف مهنة الجزارة منذ سنوات بمدينة ميلانو، إن صديقا له من أصحاب المذابح الإيطاليين، أسمعه حوارا هاتفيا دار بينه وبين مسؤول عن مركز إسلامي بمدينة ميلانو تمحور حول الثمن الذي سيقدمه صاحب المذبح الإيطالي للمسؤول عن المركز الإسلامي مقابل منح هذا الأخير ختما باسم المركز الإسلامي لوضعه على أجزاء اللحم المتوجهة إلى المجازر الإسلامية. وأضاف الجزار المغربي: «عند سماعي لهذا الحوار لم أصدق الأمر وظننته مزحة إلى أن أكد لي الإيطالي صاحب المذبح، أن المكالمة كانت حقيقية وأن صاحبها الذي اتصل به كان قد عرض عليه فكرة منح ختم المركز للمذبح مقابل مبلغ شهري، لكن الإيطالي رفض ذلك وأسمعني المكالمة ليؤكد لي صدقه وأن توظيفه لجزارين مغاربة للقيام بعملية الذبح على الطريقة الإسلامية لم تكن عفوية بل لتمكين مجزرته من التعامل مع المجازر الإسلامية ومنحها لحوما حلالا بعيدا عن الطرق الملتوية التي يتبعها البعض». ما حكاه لي الجزار المغربي ذكرني بمواجهة مفتوحة دارت بين مسؤولين عن مسجد بإحدى مدن الشمال الإيطالي (لا أريد ذكر اسمه حتى لا أحرج المسؤولين عنه)، تمحورت حول بعض الفضائح والتجاوزات قام بها بعض المسؤولين عن المسجد نفسه مستغلين اسمه لتحقيق أغراض خاصة. إحدى هذه الفضائح تعلقت بمنح رئيس المركز الإسلامي مجزرة إسلامية بالمدينة ختم المركز ليضعه على اللحوم التي يجلبها من المذابح الإيطالية لتأخذ صبغة إسلامية، فقد سمعت مسؤولا عن المركز نفسه يتهم الرئيس بهذا الأمر ويؤكد له أن الختم كان يحتكم عليه صاحب المجزرة الفلانية مقابل دفعه مبلغا معلوما. كان رئيس المركز ينفي وبشدة الاتهامات الموجهة إليه، لكن تصبب العرق من على جبينه وتوتره كانا يثيران نوعا من الشكوك حول صحة الرواية التي حكاها لمسلمي المدينة المجتمعين لحضور المواجهة والتي لم تكن ردا مقنعا على إخوانه الأعداء من مسيري المسجد.