المعزوفة الجديدة التي بدأ يرددها خصوم الإسلاميين (نستخدم مصطلح خصوم من باب التخفيف، لأن هناك عداء مستحكما عند البعض)، هي أنهم ينجحون في المعارضة لكنهم يفشلون في الحكم، وأن التجربة ستكشف عن بؤس إمكاناتهم على الصعيد الأخير. ولعل السؤال الأولي الذي يتبادر إلى الذهن عندما نسمع هذه المعزوفة، هو ذلك المتعلق بالأوضاع القائمة التي سيرثها الإسلاميون، وسيقارَنون بها تبعا لذلك؛ وقد قيل في الأمثال «إن فلانا أتعب مَن بعده»، في تعبير عن نجاح للأول وصعوبة المنافسة من لدن الثاني. بالله عليكم أي تجارب عظيمة قدمتها الأنظمة القومية والعلمانية واليسارية، وسائر أشكال الأنظمة العربية القائمة في الحكم، بحيث سيصعب على الإسلاميين مجاراتها والوصول إلى مستواها؟! والحال أننا إزاء أنظمة لم تقدم الكثير إلى مواطنيها، اللهم بعض الأنظمة الغنية التي قدمت إليهم أقل بكثير مما يستحق لو وقع توزيع عادل للثروة في البلاد واستثمار لها في ما ينفع الناس ويمكث في الأرض، مع أن الأخيرة لم تقدم في مقابل العطاء المادي المحدود (غير العادل بالطبع) سوى القليل من الحرية والمشاركة السياسية (على تفاوت بينها) والتي لم تعد ترفا في عالمنا المعاصر، بدليل أنها مطلب مهم في دول الرفاه الغربية، ولا يتخيل أحد هناك أن تجري مقايضة بين الحرية والتعددية وبين الرفاه. وفي الصين اليوم، رغم معدلات التنمية العالية، فإن الناس ترغب في التعددية، ولولا الدولة الأمنية لرأينا حراكا جماهيريا واسعا، بل إن القيادة الصينية اليوم تبدو الأكثر خشية من تأثيرات الربيع العربي عليها. الأنظمة الأخرى، التي تتفاوت في إمكاناتها المادية، عاشت خلال العقود الأخيرة زواجا غير ميمون بين السلطة والثروة وأجهزة الأمن، الأمر الذي لم يسفر عن قمع ومطاردة للحريات وحسب، بل أسفر عن إفقار للغالبية من الناس أيضا، مقابل صعود رهيب لطبقة من الأثرياء. وقد نتج جزء من ذلك عن الانحياز إلى البرامج الاقتصادية الخاضعة لشروط البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وبالتالي منطق العولمة المتوحشة، الأمر الذي ينبغي أن يتنبه إليه الإسلاميون، لأن مصالح الغالبية من الناس أهم بكثير من مصالح ثلة من المستثمرين («كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم»، كما جاء في القرآن الكريم). هذه هي التجارب العظيمة التي سيدخل الإسلاميون في منافسة معها؛ ولو جئنا إلى تجربة محدودة في قطاع غزة تعيش الحصار بكل أشكاله، وضمن مجتمع محافظ جدا، لقلنا إن الحريات فيها محدودة من زاوية نظر التنظيمات «المعادية»، وبالطبع لاعتبارات أمنية في الغالب، لكن التدخل في خصوصيات الناس كان محدودا أيضا، فيما كانت التجربة الاقتصادية معقولة إلى حد كبير، ويكفي أن تحاكم الحركة (حماس) عددا محدودا من رموزها تورطوا في الفساد وتسجنهم حتى ندرك أن التسامح في هذا الأمر ليس واردا، مع أن المال يطغي كما يعرف الجميع، وكذلك السلطة بالطبع. ليس هذا هو النموذج بالتأكيد، فالقطاع ليس دولة مستقلة بالكامل، لكن التجارب الجديدة التي سيخوضها الإسلاميون ستكون بالغة الصعوبة أيضا، وستوضع العصي في دواليبها بكل الوسائل الممكنة، لأن قضية السلطة لا تتعلق بالحكومة وإنما أساسا بالمؤسسة العسكرية والأمنية، وهذه في معظم الدول العربية تورطت في قضايا الفساد أيضا، وهي لن تسلم للوضع الجديد بسهولة، وسيكون هذا التحدي هو الأبرز الذي تواجهه التجارب الإسلامية الجديدة، إلى جانب حشد من التحديات في المؤسسات الأخرى التي لن يوفر القائمون عليها جهدا في تعطيل الجهد المبذول لتقديم تجربة جيدة يقبلها الناس ويرضون عنها. الجماهير تدرك ذلك كله، تماما كما أدركت الجماهير التركية أن أردوغان لم يكن يتحرك بحرية في إدارة الشأن الداخلي بسبب هيمنة العسكر على الحياة السياسية، وكان عليه أن يناور ويداور وصولا إلى تفكيك ذلك التحالف الرهيب بين العسكر والطبقة العلمانية المتطرفة، مع أنني شخصيا لا أحسب هذه التجربة على الحالة الإسلامية بسبب خصوصيتها، مع اقتراب الحالة التونسية منها بهذا القدر أو ذاك، نظرا إلى عقود العلمنة القسرية في الحالتين. وما ينبغي أن يشار إليه هنا أيضا هو أن الحركات الإسلامية تزدحم بخير الخبرات في سائر المجالات، كما أنها لن تتردد في الاستفادة من أي خبرات موجودة بين أبناء الشعب، ولعل منها الكثير من الخبرات التي لم تستثمر من قبل الأنظمة الفاسدة التي كانت طريقة عملها تعتمد الفساد والمحسوبية أكثر من القدرة والكفاءة «إن خير من استأجرت القوي الأمين». هي تحديات كبيرة من دون شك، والإسلاميون بشر يصيبون ويخطئون، بل ويفسدون أيضا؛ لكن ما نعول عليه في هذا الربيع العربي يتجاوز مسألة الإيديولوجيا إلى مسألة حق الشعب في اختيار ومحاسبة من يحكمونه أيا تكن هويتهم، وإذا كانت التجارب الجديدة محطة في هذا الاتجاه فليكن ما يكون، وها نحن نشهد في المغرب تنافسا بين تجربتين إسلاميتين إحداهما في الحكم المقيد والمحدود الذي توفره المؤسسة الملكية التي تسيطر عمليا على مفاصل السلطة، فيما تصر الثانية على ديمقراطية حقيقية تمنح الشعب حقوقه الدستورية كاملة غير منقوصة. وفي مصر ثمة تنافس بين قوى إسلامية تقدمت ببرامج تنطوي على قدر من التباين، إلى جانب قوى أخرى غير إسلامية، بل ومناهضة للبرنامج الإسلامي أيضا. ليكن الشعب هو الحكم، وحين يكون هو المرجع سيختار ما يناسبه، ولن يسمح -بعد أن اكتشف ذاته وقدرته على التغيير- أن يستعبده أحد من جديد تحت أي شعار كان، وهو واقع يدركه الإسلاميون تمام الإدراك. من هنا يظهر ذلك الابتذال الذي تنطوي عليه مقولة أن الإسلاميين سيستلمون السلطة ويشطبون الديمقراطية، وهم الذين لم يأتوا بانقلاب عسكري، كما حصل لزملائهم في السودان، مثلا، ممن كانت تجربتهم بائسة، ويتوقع أن يصيبهم ما أصاب سواهم من أنظمة الحكم إذا لم يبادروا إلى إصلاح الوضع على نحو جذري. بقي القول إن هناك من سيواصل كرهه للإسلاميين ولو قدموا نموذج عمر بن عبد العزيز، ولو حرروا فلسطين، الأمر الذي لا ينبغي أن يقلق الإسلاميين، لأن عليهم أن يلتفتوا إلى الغالبية من الجماهير التي تبحث عما ينفعها، وليس عن الزبد الذي يتشبث به متطرفو العلمانية ممن يصورون الأمة مشغولة ببقاء الخمارات وعري النساء، وليس برغيف خبزها وكرامتها وقضاياها الكبرى في مواجهة أعدائها المتربصين بها من كل حدب وصوب.