لم يكن التراجع الانتخابي للإسلاميين في الكويت سوى الحلقة الأخيرة من سلسلة تراجعات متتالية (المغرب، الجزائر، الأردن، مصر، اليمن)، الأمر الذي يستحق التوقف، ولاسيما حين يحتفل به البعض بوصفه مؤشر انحسار للظاهرة الإسلامية برمتها، وأقله لما يسمونه الإسلام السياسي. من الضروري القول، إن النتائج التي خرج بها معظم تلك الجولات الانتخابية ليست صحيحة بالكامل، إذ إن الاعتراف بالتراجع الذي أصاب الإسلاميين لا يعني صحة الأرقام المعلنة. وإذا كان من الصعب الحديث عن تلاعب مباشر في الحالة الكويتية، فإن أشكالا كثيرة من التلاعب قد وقعت في عدد من الدول الأخرى، مع العلم بأن التلاعب قد لا يأخذ شكل التزوير المباشر دائما أيضا، بل يتم من خلال صياغة القانون الانتخابي والدوائر الانتخابية، مع السماح لرجال الأعمال بشراء الأصوات ونقلها من مكان إلى آخر دون رقيب أو حسيب، إلى غير ذلك من الوسائل التي تختلف أهمية كل منها بين بلد وآخر. هناك، بالطبع، بعض الاستثناءات كما هو الحال في فلسطين حيث تقدمت حماس بسبب فعلها الجهادي وانحياز الناس إلى خيار المقاومة، ولا يعرف ماذا سيحدث إن تكررت التجربة بعدما ثبتت عبثية الديمقراطية في ظل الاحتلال، كما أن هناك الحالة اللبنانية والعراقية ذات الخصوصية الطائفية، مع أن القوى الإسلامية في العراق قد سجلت، بدورها، تراجعا واضحا في الانتخابات البلدية الأخيرة. الأكيد أنه لو وقع التصويت في الدول العربية وفق نظام القائمة النسبية التي تترجم على نحو أكثر وضوحا في الدولة العبرية، وحيث يتم التصويت لصالح أحزاب وليس لصالح أشخاص، لو حصل ذلك لحاز الإسلاميون أغلبية مريحة، وأقله نسبة أصوات أعلى بكثير من أي تيار سياسي آخر، أو مما حصلوا عليه، ولعل ذلك هو ما يفسر الرفض العنيف لهذا النظام في الدول العربية رغم أنه الأكثر عدالة، والأكثر تعزيزا لمسار الديمقراطية التي تنتج حرية حقيقة وتداولا على السلطة (سيشير البعض هنا إلى رفض حماس لنظام القائمة النسبية الكاملة، مع أنها تقبل به بنسبة عالية، وينسون أن فتح هي التي صممت النظام الحالي -نصف للقائمة النسبية ونصف للدوائر- وتريد تغييره من دون مرجعية المجلس التشريعي بعدما تبين أنه لا يخدمها، كما ينسون أن ثلثي الشعب الفلسطيني في الخارج وأراضي 48 مغيبون عن الانتخابات رغم أن أكثريتهم وفق نظام القائمة النسبية ستصوت لحماس). ما ينبغي الاعتراف به، ولا ينكره أي منصف هو أن ظاهرة التدين في المجتمعات الإسلامية هي الأكثر اتساعا منذ قرون، مما يعني، وفق المنطق الطبيعي، أن يحظى المتدينون بقدر من الشعبية حين يخوضون أي انتخابات هنا وهناك، لكن حدوث العكس له أسبابه التي ينبغي التوقف عندها. هناك بالتأكيد بُعد له علاقة بثقافة التدين الجديدة التي أشاعها بعض الدوائر السلفية التقليدية، وهي ثقافة تنشر قيم الخلاص الفردي التي لا صلة لها بالعمل الجماعي أو المجتمعي. كما تنشر بين الناس مقولة «من السياسة ترك السياسة»، مع أنها لا تترك سوى السياسة المعارضة، أما المؤيدة فتبقي عليها، بدليل أنها لا تكف عن الحديث عن طاعة ولاة الأمر، لكنها تحرّم المشاركة في الانتخابات خلافا لرأيهم، الأمر الذي تفضله الأنظمة تبعا لمساهمته في تحجيم التيار الإسلامي المسيّس. واللافت هو لقاء هذا التيار مع الآخر الصوفي في ذات الخط السياسي رغم خلافهما الشديد في الفقه والاعتقاد. يذكر أن هذا اللون من التدين لا ينتشر بين الناس بقوة الإقناع، بل لأنه يمنح المنابر والفرص للفعل والتأثير، ولو تعرض للمنع، كما هو حال الآخرين، لانحسر تأثيره إلى حد كبير، مع العلم بأن الحرب عليه ستبدأ حال انتهاء المهمة المبرمجة ممثلة في محاربة الإسلام السياسي، ومن يعتقد أن الأنظمة ستسمح لأي تيار بتغيير منظومتها الفكرية والاجتماعية بسهولة فهو واهم كل الوهم. على أن السبب الأهم الذي يقف خلف التراجع الانتخابي للإسلاميين هو تراجع قناعة الناس بجدوى الديمقراطية المبرمجة التي طبقت في عدد كبير من الدول العربية خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وهي قناعة تتجلى في بعدين: يتمثل الأول في عزوف كامل عن المشاركة، الأمر الذي يتبدى بوضوح في تراجع نسب التصويت بصورة مذهلة، كما وقع في الجزائر والمغرب بشكل خاص، بينما ينعكس، من جهة أخرى، في ظاهرة الانحياز إلى البعد القبلي أو نواب الخدمات الأقدر على الحصول على منافع للناخبين، إلى جانب ظاهرة بيع الأصوات لمن يشتري من رجال الأعمال الراغبين في الحصول على مقعد نيابي. حدث ذلك لأن اللعبة الديمقراطية القائمة في عدد من الدول العربية لم تعد مقنعة للكتلة العريضة من الجماهير، وبالطبع بعد أن ثبت أنها منحت مزيدا من الشرعية للأوضاع القائمة بكل ما فيها من بؤس بدل المساهمة في تغييرها. من الأسباب التي أفقدت الناس حماسهم للمشاركة في الانتخابات تلك المتعلقة بأداء الإسلاميين أنفسهم، وهو أداء شابه الكثير من الإشكاليات التي تبدأ من عملية اختيار المرشحين على نحو يعكس التوازنات الداخلية في الجماعات والأحزاب أكثر مما يعكس مبدأ الكفاءة والقرب من الجماهير والتعبير عن هواجسها، ثم تمتد لتشمل الأداء النيابي بعد الفوز. وهنا، يمكن القول إن اللعبة قد كشفت عورة بعض الإسلاميين في علاقتهم بالسلطة والمكاسب التي تمنحها للنواب المعارضين من أجل إسكاتهم، ولاسيما المكاسب الشخصية (يجري تبرير بعض هذا السلوك بالقول إن الحكومات لا تمنح مكاسب لدوائر النواب الذين يعارضونها، وهو تبرير سخيف في واقع الحال لأن الأصل أنهم نواب وطن وليسوا نواب دوائر يشترون المكاسب لحفنة من ناخبيهم بالدفع من جيب قضية التغيير التي خرجوا يدافعون عنها)، ولعل الدليل الأبرز على رفض الجماهير لهذه اللعبة هو انحيازهم إلى النواب الأكثر قوة ومبدئية، والذين ما زالوا يفوزون رغم تراجع القناعة باللعبة بشكل عام، الأمر الذي تابعناه مؤخرا في الكويت بفوز من عرفوا بنواب «التأزيم». هناك جانب لا بد من الإشارة إليه يتمثل في أن القوى الإسلامية لم تعد الممثل الوحيد للهوية الإسلامية في بلاد يخوض الانتخابات فيها مستقلون بعضهم ينسجم مع المظاهر الإسلامية، مما يعني أن التصويت لم يعد يعبر، بالضرورة، عن الهوية بقدر ما يعبر عن القناعات، وهنا يبرز ميل الغالبية نحو العزوف عن اللعبة برمتها تبعا لعدم القناعة بها كما أشير إلى ذلك من قبل. نأتي إلى القراءة المتعسفة لتراجع الإسلاميين في البرلمان، والتي تراه مؤشرا على انحسار الظاهرة الإسلامية برمتها، وأقله الإسلام السياسي. وهنا، يمكن القول إن اتساع نطاق الظاهرة الإسلامية بكل تجلياتها المتمثلة في مظاهر التدين العديدة أمر لا يماري فيه عاقل، وإذا وقع التركيز على الإسلام السياسي، فإن الرد هو أن ذات الحركات التي تتراجع في البرلمانات ما زالت متقدمة في الجامعات والنقابات، في حين أن حركات إسلامية مسيّسة، ترفض لعبة البرلمان بصيغتها الحالية وتصر على ديمقراطية حقيقية، مازالت تتمتع بالكثير من الشعبية، مثل حركة العدل والإحسان في المغرب. في هذا السياق، وإضافة إلى الأسباب التي ذكرتها آنفا بخصوص أسباب التراجع في الانتخابات البرلمانية، يبرز سبب آخر يتعلق بهامشية حضور الحركات الإسلامية المسيّسة خارج الطبقة الوسطى الآخذة، بدورها، في الانحسار بفعل الأزمات المالية وشيوع الفساد والتوزيع غير العادل للسلطة والثروة، بل وهيمنة فئات محدودة على السلطة والثروة في آن. إنها معضلة يجب على القوى الإسلامية الالتفات إليها عبر تبني مطالب الفقراء والعمال وخوض نضال اجتماعي لصالح همومهم وقضاياهم، ولاسيما أنهم باتوا الأكثرية في أكثر الدول العربية. والحق أنه إذا لم يتدارك الإسلاميون هذه المعضلة ويبتكروا وسائل جديدة للعمل السياسي والنضال الجماهيري السلمي القادر على التغيير الحقيقي والشامل لمنظومة الحكم، حتى لو وقع الإبقاء على مشاركة برلمانية رمزية، وبالطبع معطوفة على عمل دعوي واجتماعي فاعل، إذا لم يحدث ذلك وصولا إلى وقف مهزلة استئثار نخب محدودة بالسلطة والثروة، فإن شعبيتهم ستواصل التراجع من دون أن يعني ذلك تراجعا للظاهرة الإسلامية أو صعودا لتيارات أخرى مناهضة لها كما هو حال التيارات العلمانية واليسارية.