في عدد حديث من جريدة «الأسبوع الأدبي»، التي تصدر من دمشق وتنطق باسم اتحاد كتاب النظام السوري، يقرأ المرء افتتاحية بتوقيع محمد إبراهيم حمدان، تقارن بين «الربيع العربي» و«الربع الخالي»، وتخلص إلى التالي: «ومن هنا، ومن خلال النتائج على أرض الواقع، يتبين لنا أن الربيع العربي مسمى أجوف، يهدف إلى وطن أجوف في كل قطر عربي وصولا إلى قتل العروبة بالأعراب وضرب الإسلام بالمسلمين، لتخلو الساحات من إراداتها المقاومة، تتحول إلى ما يشبه «الربع الخالي» من جميع مقومات الحياة المادية والمعنوية، وهذا هو الهدف الحقيقي للصهيونية العالمية وأدواتها من مستعربين وأعراب ليسوا قطعا من أولي الألباب»! وقد يخال المرء أن صاحبنا معترض على التسمية، إذ ثمة بعض الوجاهة في مناقشة النطاق الدلالي للمصطلح، ولاسيما ما يتردد في محتواه من أصداء استشراقية أو استعارة آلية من فصول ربيع أوربية؛ أو أنه، في احتمال آخر، عازف عن استخدام المصطلح لأنه أصلا يذكر بربيع دمشق، مطلع الألفية، وحراك المجتمع المدني السوري في أعقاب توريث بشار الأسد. إلا أن صاحبنا لا يترك هامشا للارتياب في أنه ليس ضد المصطلح، بل ضد الانتفاضات والثورات العربية ذاتها، وفي ذاتها، بالمعنى المطلق، وبصرف النظر عن هذه التسمية أو أية تسمية أخرى، سواء كانت جوفاء كما يقول أو حبلى بمعانٍ شتى. ذلك لأن المنخرطين في هذا «الربيع العربي» هم، حسب اكتشاف صاحبنا، «أدوات تجمدت عقولها وإراداتها حول الكراسي وصناعة المآسي لهذه الأمة المنكوبة بأضاليل التاريخ وزيف الشعارات وسوء الممارسات»، يحرّكها «الغرب المتصهين وأتباعه من أعراب الأزلام والأنصاب»، ممّن بحثوا عن «مسمى بديل وآلية أخرى للإيقاع بالمنطقة العربية»، بعد «اصطدامهم بجدار الرفض العربي المقاوم»! دليله على هذا أن شعار «الشعب يريد إسقاط النظام» هو خير مثال على «مدلولات ملغومة يضيع الكثيرون في متاهاتها»، هدفها الإيحاء بأن «الشعب يرفض النظام والتنظيم فلم يبق أمام الناس سوى الفوضى التي تقود إلى الانهيار والدمار». أيضا، يتابع الجهبذ، «في هذا دليل قاطع على تقاطع جميع الشعارات مهما اختلفت عباراتها وصياغاتها على هدف واحد، هو مصلحة إسرائيل والصهيونية على حساب العرب»! والحال أن هذا الخطاب لم يكن سيدهش إلا السذج لو أنه أبى ضم الانتفاضة السورية إلى «الربيع العربي» الذي طلعت أزاهيره في أكثر من أرض عربية (غير بعيد عن «الربع الخالي» إياه، للمفارقة!)، فاعتبر أنها محض مؤامرة خارجية صهيونية، أمريكية، غربية، عربية، إقليمية،... ضد نظام «الممانعة» و«المقاومة» في سورية. لكنه وضع الجميع، من تونس إلى مصر وليبيا واليمن والبحرين والسعودية، في «شراك الأحابيل الشيطانية، التي يرسمها الغرب المتصهين لكل موقع وموقف ريادي رافض لإرادات الغرب ومؤامراته الأزلية الأبدية ضد الشرق، من الرومان إلى حروب الفرنجة والاستعمار امتدادا إلى صراع الحضارات ونهاية التاريخ»! وأن يصدر هذا الخطاب في مجلة ناطقة باسم منظمة تابعة لأجهزة النظام الأمنية أمر لا يُدهش إلا السذج كذلك، ولكنه لا يحول دون انبثاق دهشة جانبية إذا جاز التعبير، على غرار مبدأ الضرر المجاور ربما: كيف ينجح هذا الخطاب الرث في اجتذاب عدد من «المثقفين» العرب المنضوين في اتحادات وروابط تتمتع على نقيض اتحاد كتاب سورية بهامش من الحريات النقابية، في التنظيم والانتخاب، فضلا عن حريات التعبير في الصحافة الرسمية أو شبه الرسمية أو الخاصة أو الحزبية؟ وكان الأمر سيهون، هنا أيضا، لو أن هؤلاء المنجذبين اكتفوا بالتعبير عن رأي مخالف، فهذا حق مطلق لا يجوز انتهاكه البتة؛ لولا أنهم يسارعون، هرولة وليس خببا في الواقع، إلى النتيجة ذاتها التي يقفز إليها صاحبنا كاتب الافتتاحية: مؤامرة خارجية! سايكس بيكو جديدة! استهداف المقاومة! كسر الممانعة! تقسيم الأمة! تدمير العروبة! المصيبة أن قيادات هذه الاتحادات والروابط هي التي ترفع العقيرة في الترويج لكل ما اندرج تحت علامات التعجب السابقة، وسواها كثير لا عد له ولا حصر، وذلك دون استفتاء القاعدة العريضة لمنتسبي هذه المنظمات، بعد تجيير حقها في إبداء الرأي لصالح تفويض «الرئيس» لنفسه في تمثيلها أينما حل وارتحل. وإذ أفكر، أوّلا، في الحال المحزنة التي تعيشها رابطة كتاب الأردن، المثال الأبرز كما أعتقد، فإن الإنصاف، فضلا عن واجب الإشادة بالموقف الشريف والأخلاقي، يقتضيان التذكير بما فعله، قبل أشهر، الصديق الناقد المصري الدكتور مجدي يوسف: لقد تصدّى لرئيس اتحاد كتاب النظام السوري، حسين جمعة، وأجبره على الانسحاب من ندوة لاتحاد الكتاب العرب في القاهرة، لأنه لا يمثل الأدب السوري بقدر ما يترأس جوقة الساكتين على «جريمة ضد الإنسانية تُرتكب في حق الشعب السوري». وذات يوم تهكم بشار الأسد على تعبير «ربيع دمشق»، وفضل امتداح فصول الخريف والشتاء والصيف. أغلب الظن أنه، بدوره، بعد عقد من الزمن، رأى آذار الشام ودرعا وحمص وبانياس وحماة ودير الزور والقامشلي... مجرّد ربوع خالية لن يُزهر فيها الورد الجوري، مهما تعاقبت عليها فصول الربيع. يا له من طبيب عيون!