في خضم ما يشهده العالم العربي من تحولات جذرية على مستوى الأنظمة التي هبت عليها رياح التغيير تباعا في ما أصبح يصطلح عليه سياسيا بالربيع الديمقراطي، لم تسلم سوريا بدورها من إعصار التغيير الذي عصف بنظامها حيث خرج عشرات الألاف من السوريين ينادون بالحرية و الكرامة احتداءا بنظرائهم في الأقطار العربية الأخرى. غير أن سوريا بحكم موقعها الجغرافي القريب من العدو التاريخي للأمة العربية (إسرائيل) و بحكم عدائها لقوى الاستكبار العالمي المتحالفة مع الصهيونية جعلها تكتسب خصوصيات تميزها عن باقي الأنظمة العربية سواء في منطقة الشرق الأوسط، الخليج أو منطقة المغرب العربي. و لتقريب الصورة أكثر يمكن التمييز بين مرحلتين رئيسيتين في سوريا :
1. مرحلة ما قبل الربيع الديمقراطي
تعتبر سوريا من أهم معاقل القومية العربية و آخرها تشبثا بالفكر القومي العربي المتجسد في حزب البعث الهادف إلى تشكيل وحدة عربية متحالفة استراتيجيا، اقتصاديا و عسكريا . إلا أن الفكر القومي بدأ يعرف تراجعا بسبب انفتاح مصر - ما بعد السادات - على الغرب، ثم انهيار البعث في العراق - ما بعد صدام - و أخيرا المد الخليجي المناهض للفكر القومي في المنطقة. خاضت سوريا عدة حروب مع الكيان الصهيوني آخرها حرب أكتوبر لسنة 1973 و التي سعت من خلالها إلى تحرير هضبة الجولان التي احتلتها القوى الصهيونية سنة 1967. لكن توقيع مصر لمعاهدة السلام و وقفها لإطلاق النار حال دون ذلك، مما أدى بسوريا إلى إلغاء حلف دول الطوق مع مصر فتأزمت العلاقات السياسية بين البلدين و ازدادت عزلة سوريا في المنطقة لتتحول بعدها إلى تشكيل حلف استراتيجي بديل مع جمهورية إيران الإسلامية و حليفها في لبنان حزب الله فيما صار يطلق عليه باسم (دول الممانعة) في الإشارة إلى مقاومة هاته الأخيرة لمشروع إسرائيل الكبرى و لمشروع الشرق الأوسط الجديد. و أما بخصوص القضية الفلسطينية ، فقد لعبت سوريا دورا إيجابيا في الملف الفلسطيني في وقت تخلت فيه معظم الدول العربية إن لم أقل كلها عن دعم فلسطين. لم تتردد سوريا و حليفتها إيران في دعم المقاومة في فلسطين على كافة المستويات : سياسيا، إعلاميا، عسكريا و لوجيستيكيا .. حيث وجدت فصائل المقاومة الفلسطينية في سوريا، الحصن المنيع، المأمن و الملجأ (انتصار حزب الله في حرب 2006)، فصارت إسرائيل و حليفتها الولاياتالمتحدةالأمريكية ترى في سوريا تهديدا لأمنها و لمصالحها في المنطقة مما جعلها تصنف هاته الأخيرة ضمن قوى الشر إلى جانب إيران و حزب الله .. كل هاته العوامل دفعت بالولاياتالمتحدةالأمريكية و حليفتها في المنطقة إسرائيل إلى السعي باستمرار لزعزعة الإستقرار بسوريا و محاولة إسقاط النظام الممانع بها أمام مقاومة شديدة لهذا الأخير، على حساب أمنه و استقراره
2. مرحلة الربيع الديمقراطي
لم تسلم سوريا من عاصفة التغيير نظرا لما تعانيه داخليا من أزمات عميقة على مستوى الديمقراطية، الحريات العامية و حقوق الإنسان، الأزمات الاقتصادية بسبب العزلة. فعلى مستوى الديمقراطية تتميز سوريا بنظام الحزب الواحد (حزب البعث) الذي يحرم على المواطنين السوريين إمكانية تأسيس أحزاب سياسية ذات إديولوجية مخالفة للفكر القومي، في غياب تام للمعارضة السياسية التي تتعرض باستمرار للتضييق و الاعتقال و النفي، الأمر الذي جعل العديد من السوريين يتطلعون إلى إيجاد نظام بديل تكون التعددية الحزبية أهم ميزاته. و أما على مستوى الحقوق و الحريات العامة فتتعرض لتضييق شديد من طرف النظام مقارنة مع الدول العربية، هذا التضييق سجلته العديد من المنظمات و الجمعيات الحقوقية الدولية، التي أشارت إلى انعدام في حرية الرأي و التعبير في سوريا. الحريات السياسية بدورها منعدمة تماما حيث أن القانون الجنائي السوري يجرم الإنتماء لجماعة الإخوان المسلمين بعقوبة الإعدام (قانون 49 لسنة 1980)، و فيما يخص الإعلام السمعي البصري فهو خاضع للرقابة الأمنية المشددة على غرار كل الأنظمة العربية. الاقتصاد السوري يعرف أزمات عميقة بسبب العزلة التي تشهدها سوريا عن العالم و بسبب الحصار، ثم بسبب سيطرة العائلة الحاكمة ( بشار، ماهر، محمد مخلوف خال بشار و ولده رامي مخلوف، ابن عمه رياض شاليش ..) على جل القطاعات الاقتصادية في البلاد مما ممكنها من مراكمة ثروات هائلة على حساب الشعب السوري الذي يعاني من الفقر و الهشاشة و الحرمان، أضف إلى ذلك الفساد الإداري المتفشي في جميع قطاعات الدولة
كل هاته العوامل جعلت الشعب السوري يتطلع إلى نيل الحرية و تحقيق الكرامة و اكتساب المزيد من الحقوق و الحريات، و قد وجد في الربيع الديمقراطي فرصة تاريخية لتحقيق هاته الأهداف. أما النظام السوري فقد رأى في هذا التغيير تهديدا لبقائه و مؤامرة خارجية تستهدف وجوده و مشروعا أمريكيا جديدا لبناء شرق أوسط كبير دون ممانعة، و قد آثر المعالجة الأمنية في مواجهة هبة التغيير، غلب لغة السلاح على لغة الحوار فكانت النتيجة مجازر و مذابح ترتكب بشكل يومي ضد المتظاهرين العزل الأطفال و الشباب و الشيوخ. و لشرعنة هذه الجرائم البشعة ضد الإنسانية قام النظام البعثي بخلق عدة درائع : أولا ، دريعة عمالتهم لإسرائيل و خدمتهم للمشروع الأمريكي. ثانيا، دريعة وجود عصابات إرهابية مسلحة تابعة للإخوان المسلمين تستهدف الإستقرار الداخلي للبلاد. أمام استمرار التقتيل و التنكيل و التعذيب و المجازر في سوريا و في صمت تام للدول العربية مع بعض الإطلالات الإعلامية الخجولة للمنتظم الدولي بسبب كثرة الاضطرابات في العالم العربي (ليبيا، مصر، تونس، و اليمن..) اضطر الشعب السوري إلى الرفع من سقف مطالبه و المطالبة بإسقاط النظام البعثي الحاكم، و لازالت المسيرات تنظم بشكل يومي و في مخنلف المدن السورية التي تنتفض الواحدة تلو الأخرى (درعا، اللاذقية، حماة ..) في عزم و إصرار على إسقاط النظام الفاقد لشرعيته و في تحد واضح للجيش السوري و لقواه الأمنية المدعومة بعناصر الشبيحة / البلطجية
أمام هاته المعطيات تساؤلات كثيرة تنتظر الإجابة : ماذا بعد سقوط النظام البعثي في سوريا ؟ بديل ديمقراطي ممانع ؟ أم بديل ديمقراطي عميل و تابع للولايات المتحدةالأمريكية و حليفتها إسرائيل على غرار كراكيز العراق (نوري المالكي) ؟