انخرط جان-ليك ميلنشون في أطوار السياسة باكرا وامتهنها على مدار مشواره الحافل بالمعارك. ولد بمدينة طنجة وهو سليل عائلة متواضعة من أب عمل في المحاسبة بمصلحة البريد ومن أم مدرسة من أصل إسباني. بعد انتقاله إلى فرنسا عمل بإحدى محطات بيع البنزين، قبل أن يشتغل أستاذا للغة الفرنسية ثم صحافيا بجريدة «لاديبيش دو جيرا». وبعد فوزه في الانتخابات المحلية أصبح ميلنشون نائبا برلمانيا، ثم نائبا أوروبيا عام 2009، ليتولى بعد ذلك منصب وزير التعليم المهني.. إنها رحلة غير عادية لطنجاوي غير عادي «الابن الصاخب للسياسة»، «المهرج»، «بهلواني المحافل الخطابية»، «الكاشف عن أكاذيب السياسيين» الخ...تلك بعض النعوت والألقاب التي ألصقت وترافق جان-ليك ميلنشون، المرشح للانتخابات الرئاسية لعام 2012 باسم جبهة اليسار، وهو التجمع الذي يجمع بين الحزب الشيوعي وحزب اليسار. يبقى أن الفضيلة التي يتحلى بها ميلنشون هي تسميته الأشياء بمسمياتها من خلال لغة بسيطة، مباشرة وساخرة، وهو ما يعتبره خصومه علامة من علامات الشعبوية. وهي نفس الخصلة التي تتحلى بها أيضا الجبهة الوطنية بزعامة مارين لوبان. لكن المواقع الأيديولوجية لكلا الفصيلين تبقى على طرفي نقيض، حتى إن كان الشعب متكأ خطابهما. المهم أن جان ليك ميلنشون نجح في إنقاذ الحزب الشيوعي من الإفلاس السياسي، ويعمل اليوم على استقطاب حساسيات متنوعة تجمع قوى اليسار الراديكالي في جبهة موحدة وازنة في المشهد السياسي الفرنسي، بنفس الوزن الذي تمثله تشكيلة البيئيين والخضر. فما هي حظوظه لإنجاز هذا المشروع؟ انخرط جان-ليك ميلنشون في السياسة باكرا وامتهنها على مدار مشواره الحافل بالمعارك. ولد بمدينة طنجة في التاسع من غشت من سنة 1951، وهو سليل عائلة متواضعة من أب عمل في المحاسبة بمصلحة البريد ومن أم مدرسة من أصل إسباني. بعد طلاق والديه، غادر ميلنشون المغرب سنة 1962 ليستقر بمنطقة لوجيرا. وبعد حصوله على شهادة ليسانس في الفلسفة، تزوج، ثم عمل مصححا بإحدى المطابع بمدينة بوزونسون، دون التخلي عن متابعة دراسته الجامعية. كما عمل بإحدى محطات بيع البنزين. وفي عام 1976 اشتغل أستاذا للغة الفرنسية ثم صحافيا بجريدة «لاديبيش دو جيرا». انتقل ميلنشون إلى الضاحية الباريسية ليصبح مدير ديوان عمدة مدينة ماسي، ثم مديرا للأسبوعية «فوندروديه» الناطقة باسم الحزب الاشتراكي. وبعد فوزه في الانتخابات المحلية أصبح ميلنشون نائبا برلمانيا، ثم نائبا أوروبيا عام 2009. وقد تقلد مسؤوليات وزارية في حكومة التعايش برئاسة ليونيل جوسبان، حيث شغل منصب وزير التعليم المهني ما بين 2000-2002، ومال انتماؤه داخل الحزب الاشتراكي إلى الجناح اليساري، إلى أن غادر الحزب الاشتراكي بعد مؤتمر ريمس في نوفمبر 2008 لتشكيل حزب اليسار، الذي يضم اليوم سبع تشكيلات حزبية وجمعية وافدة من اليسار البديل. في يونيو 2011 عيّن ميلنشون مرشح «جبهة اليسار» للانتخابات الرئاسية لعام 2012. بين التحليل والشهادة لا يكتفي ميلنشون فقط بالتردد على الحلبات والساحات العمومية ومنصات التلفزيون لإلقاء خطابات سياسية أو الإسهام في الجدل السياسي، إذ هو أيضا رجل قلم، وقد كتب إلى الآن سبعة كتب تتراوح مواضيعها بين التحليل والشهادة. وقد صدرت مؤخرا الطبعة الجديدة في سلسلة كتاب الجيب لكتاب «فليرحلوا جميعا! بسرعة، ثورة المواطنة». وقد بيع من الكتاب عند صدور الطبعة الأولى 80 ألف نسخة، وينتظر أن تحقق نسخة الجيب نفس العدد، وربما أكثر. تحتمل عبارة «ليرحلوا جميعا» أيضا قراءة أخرى تعني «ليذهبوا إلى الجحيم». ويقصد ميلنشون السياسيين المفسدين، الأثرياء الجشعين، ولصوص المال العام. ومثل الشعار الذي رفعه ستيفان هيسيل داعيا الشباب إلى التعبير عن سخطهم، يرفع ميلنشون في هذا الكتاب شعار «فليرحلوا جميعا»، مشيرا إلى أن هذا الشعار سيحمله غدا ملايين الأشخاص، ولن يكتفوا بترديده فحسب، بل سيعملون على إحكام الخناق على أصحاب المال والنفوذ، من كثرة الحنق ومن كثرة معاينة التخريب الذي يمارسه هؤلاء على البلد، بسبب تبديد الخبرات وتفقير المواطنين. ويتابع ميلنشون حديثه قائلا: «سينجزون هذا العمل ردا على ممارسات الغطرسة التي يقوم بها الباطرونات وأصحاب المال. يمكن لأولئك الذين يلقون دروس الأخلاق السياسية أن يصرخوا بأن ما أقوله لا يعدو كونه خطابا «شعبويا». أتحمل ذلك». ويستشهد ميلنشون بما قاله جان-فرانسوا كوبيه، رئيس التجمع من أجل أغلبية شعبية، التابع للرئيس ساركوزي، لما أشار إلى وجود أوجه شبه بين الفترة الحالية وبين ما وقع في ليلة الرابع غشت من عام 1789 لما صوت البرلمان على قانون إلغاء امتيازات العهد القديم. «فليرحلوا جميعا» موجهة إلى الباطرونات، سحرة الأموال الذين يجعلون من كل ما هو بشري سلعة. فليرحل أيضا دعاة «الانهيار الفرنسي» وكل الذين يربحون المال عن طريق المضاربات دون أدائهم واجباتهم. إن البلد يزخر بكفاءات يحجبها ستار المال. وفي الأمكنة التي زارها، لاحظ ميلنشون حيوية وفورة هذه الكفاءات في الميدان البنكي، الإعلامي، وفي الإدارة العمومية. نبراس ثورات أمريكا الجنوبية لم يعمل رئيس جبهة اليسار سوى على استعادة شعار تم العمل به في مناسبات وبلدان أخرى، فهذا الشعار كان دائما مستهلا لكل الثورات التي نشطت منذ عشر سنوات أمريكا الجنوبية. فمواطنو هذه البلدان، الذين لا يتمتعون بنفس الامتيازات التي يحظى بها الأوروبيون، نجحوا مع ذلك في قلب طاولة الأقوياء بإطلاقهم طاقة خلاقة في سبيل إعادة بناء بلدانهم التي دمرتها الليبرالية. لذا فإن الأمر ممكن أيضا في فرنسا وأوروبا. هذه البلدان لا تحظى بعطف الإعلام والطبقة السياسية الأوروبية، التي لا تنظر إليها سوى كمجموعة من الشعوب الفلكلورية القاطنة بمناطق إيكزوتيكية. يبقى الثابت هو الغطرسة التي تعبر عنها النخبة الليبرالية السائدة. ويشير ميلنشون إلى أنه تابع بالدراسة هذه الثورات، ووجد أنها توفر عناصر تصلح للتطبيق في فرنسا. ولهذا السبب يسخر منه بعض الفرنسيين بحجة أن «بوليفيا ليس هي فرنسا». ليس هناك بالكاد نموذج، بل تجارب يمكن أن نستلهمها ونماذج يمكن أن نحتذي بها، يقول ميلنشون، الذي يدعو إلى «ثورة مواطنة» في فرنسا أيضا. العبارة هنا وسيلة وغاية في نفس الوقت. يأتي هذا التوضيح لفضح التصور الصبياني عن الثورة، الذي يربط بينها وبين الشغب. «كنت من بين أولئك الذين جربوا استعمالات كلمة ثورة في التجمعات واللقاءات السياسية». هناك «ثورة الصناديق». وهناك «الثورة الديمقراطية»، وهو الاستعمال الرائج في أمريكا اللاتينية. ومن هذه التجارب تم استخلاص مفهوم «الثورة المواطنة». تتحقق هذه الثورة عن طريق الاقتراع. وأولوية صناديق الاقتراع هي ما يميز برامج الثورات بأمريكا الجنوبية، فاندماج أو انخراط المواطنين شامل، تعددي، ومستمر. ويقبل المواطنون على صناديق الاقتراع بعد حملات انتخابية قوية وصعبة، لذا فإن الشعار القائل بأن ثورات اليسار لا تتوافق مع الديمقراطية هو شعار مبتذل. وعلى العكس من ذلك نلاحظ كيف أن الليبراليين ليسوا على علاقة طيبة مع الديمقراطية. إذ في أوروبا، أظهرت الاستفتاءات في فرنسا، هولندا وإيرلندا، بخصوص معاهدة لشبونة، بأن قرارات المواطنين لا تأخذ بعين الاعتبار لما تناقض المعتقدات الليبرالية. وتنزلق المجموعة الأوروبية كل يوم في هذا المسار اللاديمقراطي. إذ في «الثورة المواطنة» يكون منبع ومصدر السلطة بين يدي الشعب، وإرادته هي المعيار الوحيد. ثورة المواطنة ليست عملية تجميل للعالم القديم، إنها قلب لموازين السلطة. كما أنها تقرر وتحسم في دلالة الثروات عبر رد الاعتبار إلى أحقية العامل الإنساني والبشري. وبهذا المعنى، فإن «الثورة المواطنة» هي مؤسسات وعلاقات اجتماعية وثورة ثقافة سائدة، ثم إنها مواطنة لأنها تسعى إلى خير الجميع، وهي تنبني بهذا المعنى على قيم الجمهورية لأنها ثورة مؤسسات. كما أن ثورة المواطنة تستند على الإيكولوجيا السياسية. وعلى مستوى آخر وفي ميدان النقاش والتبادل السياسي، لا وجود للحزب الواحد الذي ينفرد بالنقاش، لا وجود لحقيقة منزلة، ولا وجود لمعتقدات راسخة. لذا ثورة المواطنة هي بالأساس ثورة علمانية. يسعى هذا الكتاب إلى خلق سبل حماسة مشتركة بغاية طي صفحة عهد الرأسمالية الجديدة التي هي اليوم في طور الغرق. وهذا الكتاب هو دعوة إلى العمل والحلم لإخراج الحضارة الإنسانية من المأزق. وأمام فداحة الخسائر، علينا أن نكون مختلفين. في بداية هذا القرن، نحن مطالبون بابتكار قاعدة جديدة للحياة في المجتمع. بهذا المعنى، فإن ثورة المواطنة هي إعادة بناء البلد. وقد حان الوقت للانطلاق من الصفر. معنى ذلك أيضا تغيير الأسلوب السياسي. يذكر ميلنشون بأسلوبه الخاص، وهو أسلوب يبدو أحيانا صادما وخشنا، لكن الظروف السياسية والتاريخية تتطلب ذلك. فأسلوب الثورة يتطلب ردا حذرا ومتجذرا أكثر فأكثر في الممارسة السياسية المؤسساتية. المطلوب اليوم هو إعادة النظر في النظام الذي يجعل من الرئيس ملكا. ثم هناك إعادة النظر في تراتبية كل المؤسسات: المدرسة، المؤسسة، الحي، الجماعة...يجب أن تتصدر المواطنة جميع الاهتمامات. الإنتاج الثقافي كرهان مستقبلي
ثم لا ننسى الإنتاج الثقافي والفني لأولئك الذين يخوضون معركة الإبداع. إذ أن القصيدة، الأغنية، اللوحة الفنية أو المسرحية أو السكيتش لها قدرة تعبوية أكثر من التجمعات الخطابية. نحن في قلب مجال الحرية الكاملة، حرية متخيل الأفراد والجماعات. لكن المجتمع يتوفر على أدوات تقوم وظيفتها على إعداد الأفراد على تحمل مسؤوليتهم الفردية. ومن بين المرافق التي هي مثار تذمر شديد هناك المدرسة ثم الإعلام. المدرسة أفقا للمواطنة وفيما يتعلق بالمدرسة، فإن معالجة ميلنشون للموضوع تتأتى من تجربته لما كان على رأس وزارة التعليم المهني في حكومة ليونيل جوسبان. ولا زالت قناعته راسخة في الدور الحيوي، الذي تضطلع به المدرسة والتكوين المدرسي، فالمدرسة هي التي تؤهل الطفل والتلميذ إلى حياة المواطنة. كما أنها تؤهل الشباب إلى الانخراط في طور المواطنة. وثقافيا، فإن المواطن هو الشخص الذي له القدرة على التعبير عن الأشياء التي تصلح له وللآخرين. هذا يتطلب أخذ المسافة، بل الابتعاد عن المصالح الشخصية. هذه الأشياء قابلة للتعلم. كل ذلك يتوقف على حساسية كل شخص. لذا على المدرسة الجمهورية أن تكون لائكية، حيث يتوقف دورها على إنارة الفكر وليس على تكبيله. لا يتعلق الأمر بأن يكون الإنسان متعلما، بل أن يتمتع بتربية تسمح له بأن يجيد العديد من اللغات ويكون متمكنا من الموسيقى ومن الرياضيات. نحن هنا في مجال الثقافة والفن، أي كل ما يغذي وجودنا لكي نصبح كائنات مكتملة.
تحرير الإعلام ليتحمل مسؤوليته إن المدرسة على حيويتها وأهميتها لا يمكنها، وحدها، أن تلعب الدور الحاسم، بل على الإعلام أن يتحمل مسؤوليته في هذه المهمة. لما نقف عند الطريقة التي يسرب بها الخبر نصاب بالذهول.إذ أن 90 بالمائة من الأخبار مستقاة من التلفزيون، الذي يستلهم قيمه من مشاهد العنف والقتل، من سلوكات الحذر من الآخر، والقرف من الذات. فالشكل يخدم المضمون، ولا يترك الخبر متسعا من الوقت للمتفرج لكي يفكر ويحلل، فهو يؤكد على العاطفة بدل العقل. هذا يمنع تبلور فكر نير وناضج. كل ما يقدم على القنوات يساهم في تسطيح الفكر. لذا لنا الحق كمواطنين في التدخل في الشأن الإعلامي. ذلك لا يعني تهديدا لحرية الرأي، بل حقا في اختيار نوعية الإعلام الذي نتعامل معه. وإذا تعلق الأمر بالإعلام التافه الذي يساهم في تبليد المتفرج عن طريق برامج تافهة، فإنه من حق المواطن أن يثور على ذلك. يجب الاحتكام إلى المواطنين إذن لتقرير السياسة الإعلامية، لأنهم المعنيون الرئيسيون بذلك. وعليه، يجب أن يكون القرار الجماعي هو الحكم الذي يجب الاحتكام إليه في نهاية المطاف. ومن ثم وجب حل الإمبراطوريات الإعلامية. إذ لا ثورة للمواطنة بدون إعلام متحرر ومستقل.. هذا هو الرهان السياسي الذي يسعى إلى إنجاحه جان-ليك ميلنشون.