لم يعرفوا حرب الجزائر ولم يجربوا ويلاتها، اكتشفوا بالصدفة فاجعتها بقراءتهم كتابا أو مشاهدتهم فيلما أو باطلاعهم على شهادة عسكري. لكن ذلك لم يمنعهم من الانخراط، روائيا، في براثن حلقاتها المثخنة بالنار والرماد والدم. هكذا برزت، منذ العام الماضي، إلى مشهد الكتابة الروائية الفرنسية أقلام شابة ولدت بعد استقلال الجزائر، لكنها تجرأت على نفض النسيان المتعمد على ذاكرة فرنسا وتعرية العنف الذي نشطها. جيل ارتأى القيام بعملية تطهر وتطهير رمزي. ولنا في روايات أليس فيرني، جيروم فيراري وأليكسيس جيني، الحائز على جائزة الغونكور لهذا العام، خير مثال. لسنا بصدد ظاهرة روائية بقدر ما نحن أمام تجارب فردية أدبية تسعى، كل بطريقتها، إلى معالجة وتناول حرب الجزائر كأحد فنون الموت السامية. أليس فيرني من مواليد 1691، أي أنها رأت النور في نفس السنة التي عرفت فيها فرنسا، وما كان يعرف بالمتروبول، مخاضا سياسيا عاصفا، من تنظيم استفتاء تقرير المصير، إلى إقدام بعض الجنرالات على عملية انقلاب، مرورا بقيام جبهة التحرير بسلسلة انفجارات داخل الجزائر العاصمة. كانت معرفة أليس فيرني بحرب الجزائر معرفة أكاديمية، لكن مشاهدتها فيلم باتريك روتمان، «العدو الحميمي»، كانت بمثابة صدمة حقيقية شحذت رغبتها لمعرفة المزيد. قربها الفيلم أكثر من مناخات الحرب ومن أوجهها القاتمة، وكانت روايتها الصادرة عن منشورات دونويل بعنوان «طي النسيان»، تتويجا لهذا الانغمار في البراثن الحالكة لحرب بلا اسم. أقرت أليس فيرني بأن الصدمة كانت قوية لما اكتشفت فاجعة يصعب وصفها وتسميتها. ويخرج القارئ بفكرة أن العدو الداخلي قابع في دواخل كل واحد منا، كما أنه قادر على كل التجاوزات والتعسفات. أما جيروم فيراري، فهو من مواليد 8691، أي أنه أبصر النور بعد سبع سنوات على استقلال الجزائر. ومثله مثل أليس فيرني، كان لفيلم باتريك روتمان أثر صادم على نفسيته. شاهد جيروم الفيلم لأول مرة وهو بالجزائر وكان آنذاك أستاذا للفلسفة بالثانوية الفرنسية. أشد ما جذبه في الفيلم هو شخصية ضابط الجيش، الذي عرف المعسكرات النازية والفيتنامية قبل أن يتحول إلى سفاك. ابتكر لهذه الشخصية نظيرا في روايته «في ذاك المكان الذي فقدت فيه روحي»، الصادرة عن منشورات أكت سود. يلمس القارئ في هذه الرواية وحشية التعذيب الذي جعل منه العسكر الفرنسي نظاما مقننا، كما يلمس مشاعر «الخجل من الذات» وانسداد «الأفق الأخلاقي» التي تجسدها شخصية القبطان اندري دوغورس، رئيس مصلحة الاستعلامات في الجيش الفرنسي بالجزائر. كان ضحية في حروب أوروبا والفيتنام، ثم أصبح جلادا في حرب الجزائر ومتخصصا في فنون التعذيب. تتابع الرواية بشكل ذكي وقوي هذا الانسياق وهذا الانزلاق نحو سلطة وممارسة العنف. العمل الروائي الثالث الذي جعل من الحرب أحد الفنون البشعة هي رواية «فن الحرب الفرنسي»، الحائزة الأسبوع الماضي على جائزة الغونكور. ينهل ألكسيس جيني من نفس المتخيل الحربي، ومن نفس الأجواء القاتمة لتبيان عبقرية الفرنسيين وتفننهم في خوض الحروب. عبقرية تختلف عن عبقرية الألمان أو الأنغلوساكسون أو الروس. وهو في ال84 من عمره، فاجأ أليكسيس جيني العالم الأدبي بنص روائي محكم في حبكته وهندسته السردية والإيقاعية. في هذه الرواية، يغوص الحاكي، بمساعدة فيكتوريان صالانيون، وهو جندي سابق أصبح رساما، في 05 عاما من التاريخ العسكري والحربي لفرنسا. تاريخ يمتد من الحرب الكونية الثانية إلى غاية حرب الخليج الأولى، مرورا بحرب الهند الصينية والجزائر. يغوص لمساءلة التراث الحربي الكولونيالي ولمعرفة الحال الذي توجد عليه فرنسا اليوم. بعد الاحتفاء مؤخرا بأحداث السابع عشر من أكتوبر 1691 التي ذهب ضحيتها مئات الجزائريين على إثر المظاهرات التي نظموها لمساندة استقلال الجزائر، وفي الوقت الذي تستعد فرنسا أيضا للاحتفال بخمسينية استقلال الجزائر، وفي الوقت الذي لا زالت قضايا العنف، الذاكرة الاستعمارية تشغل حيزا هاما في نقاش المؤرخين والسياسيين، فإن منح الجائزة لهذه الرواية يعتبر التفاتة رمزية قوية من طرف لجنة تحكيم الغونكور. كما أنها اعتراف بجيل من الكتاب يسعى إلى كسر أغلال الذاكرة الكولونيالية، التي لا زالت لم تتخلص بعد من الحنين ومن الوعي الشقي.