انطلق في فرنسا في الثامن عشر من غشت الموسم الأدبي الجديد. ويبقى ما يعرف بالدخول الأدبي أحد الطقوس الراسخة في مشهد الثقافة الفرنسية. طقس لا نظير له في بقية بلدان العالم. طقس تساهم في شعائره الصحافة المكتوبة والمرئية، المتاجر الكبرى، الإنترنت والمواقع الالكترونية والمدونات وكذا شبكة ال«فيسبوك» للدعاية لهذه الرواية أو تلك. وإلى غاية تسليم الجوائز الأدبية ابتداء من شهر نوفمبر يبقى الكتاب في قلب النقاش والتكهنات. لكن لا ننس الغرض المضمر من الضجيج الإعلامي، الذي يرافق الموسم الأدبي، بل الثقافي عموما، ألا وهو دفع هذه النصوص إلى صدارة المبيعات والحصول على جوائز قيمة مثل غونكور، رونودو، ميديسيس، فيمينا أو جائزة الأكاديمية الفرنسية. بمعنى أن الماركيتينغ أصبح المنشط الحيوي للكتاب. إذ أن الكاتب اليوم لا يبدع ولا ينشر فقط حبا في الكتابة، بل للربح والاغتناء والشهرة. فكم من روائي أو مفكر أصبح بفضل رواية أو نص فكري من كبار الأثرياء؟ وقد طلعت علينا هذا الأسبوع مجلة «فوربس» بقائمة الكتاب الأكثر ثراء في العالم. وقد جاء الأمريكي جيمس باتيرسون، وهو كاتب روايات بوليسية، على رأس القائمة حيث حقق هذا العام أرباحا بلغت 84 مليون دولار، أي ما يعادل 58,4 مليون أورو. إذ سرب ثلاثة ملايين نسخة من روايته الأخيرة. يبقى الكتاب في فرنسا بمنأى عن هذه الأرقام، سواء على مستوى الأرباح أو المبيعات. ومع ذلك ثمة كتاب يعيشون بسخاء بأقلامهم. المهم أنه ستصدر ما بين غشت وسبتمبر 654 رواية، منها 435 رواية أجنبية، أغلبها مترجم عن الإنجليزية. وقد عرفت إصدارات هذه السنة انخفاضا بنسبة 6 بالمائة مقارنة بالسنة الماضية، التي بلغ فيها الإصدار 701 رواية. ويعزى هذا التراجع إلى الظرفية الاقتصادية والسياسية لفرنسا، وهي ظرفية تتميز باستفحال الأزمة الاقتصادية وهيمنة الاستحقاق الرئاسي على النقاش وعلى اهتمامات وقراءات الفرنسيين دون الحديث عن القفزة النوعية التي حققها الكتاب الرقمي، إذ يتجه القراء أكثر فأكثر إلى القراءة الرقمية بتحميلهم الكتب على الكومبيوتر أو اللوحات الإلكترونية. وضمن كاتالوغ الناشرين الفرنسيين تطل علينا في كل موسم أدبي جديد بعض الأسماء المغاربية، التي رسخت موقعها في المشهد الروائي الفرنسي. الكاتب الجزائري ياسمينة خضرة يصدر عن منشورات جوليار رواية جديدة تحت عنوان «المعادلة الإفريقية». أما بوعلام صنصال، فتصدر له رواية عن منشورات غاليمار في عنوان «زنقة داروين»، فيما ينشر فؤاد العروي عن منشورات جوليار رواية «عجوزة الرياض». وتصدر لنفس الكاتب في سلسلة الجيب بوكيت رواية «عام في ضيافة الفرنسيين». أما الروائية المغربية كوثر الحرشي فتصدر عن منشورات أكت سود رواية «فداحة التخريب»، وهو نص يتميز بزخم سردي وإحكام في هندسة بناء الوقائع ورهافة في التعامل مع الشخصيات الرئيسية، وخاصة شخصيتي السائق السي العربي والشاب أرزقي، الذي يبحث عن أصوله وعن هويته. ويعتبر دخول كوثر الحرشي إلى دار نشر مثل أكت سيد مكسبا للرواية المغربية وللأدب المغربي المكتوب بالفرنسية، الذي يعاني من ندرة الأصوات، وخاصة الأصوات النسائية. أما في مجال البحث والدراسات، فبرنامج هذا الموسم حافل بالإصدارات الجديدة. على مستوى الكتب المترجمة عن العربية، لا زالت دار سندباد، التابعة لمنشورات أكت سود، تتزعم صدارة النشر في الأدب والتراث العربي. في برنامج هذا الموسم يترجم بيار كوبرلي مختارات من كتاب «علوم إحياء الدين» لأبي حامد الغزالي. وفي موضوع الإسلام، أصدر مالك شبل دراسة تحت عنوان «أقوال وحكم في الإسلام». أما المنشورات الجامعية الفرنسية، فقد برمجت مؤلفا جماعيا بعنوان «البدايات الأولى للعالم الإسلامي». فيما أصدرت كاترين سيمون عن منشورات لاديكوفيرت دراسة بعنوان «الأقدام الحمراء»، وهم الفرنسيون الذين أيدوا استقلال الجزائر وفضلوا البقاء للعيش به. ويحفل كاتالوغ دور النشر بالعديد من الدراسات والشهادات في موضوع ثورات الربيع العربي. إذ تقترح علينا الباحثة جوسلين صعب دراسة بعنوان «تونس في العالم: بلد بلا ضجيج»، وقد صدر البحث عن منشورات أكت سود. أما فانسان جيسير وميخائيل بشير عياري فقد وقعا كتابا مشتركا بعنوان «دلالة الثورات العربية». الكتاب صدر عن منشورات لاتولييه. فيما يقترح علينا طارق عصمان بحثا بعنوان «الثورات المصرية: من ناصر إلى سقوط مبارك. يصدر الكتاب عن منشورات لي بيل ليتر. أما حكيم بن حمودة فينكب على دراسة الاقتصاد السياسي للثورة التونسية، فيما تناول عبد الكافي رباع «العلاقة بين الثورة والديمقراطية في تونس» في كتاب تحت نفس العنوان، صدر عن منشورات إيليزاد. أما جان-بيار فيليو فأصدر كتابا بعنوان «عشرة دروس عن الانتفاضة الديمقراطية» عن منشورات فايار. أما ماري-ليس لوبرانو فصدر لها عن منشورات جاكوب دوفيرني كتاب «في قلب معارك الثوار الليبيين».كما أصدر بيرنار دريانو «تأملات في الثورات العربية» عن منشورات Non-lieu. و«شروط صحوة التاريخ»، هو عنوان الكتاب الذي أصدره آلن باديوه عن منشورات Nouvelles éditions lignes. أما مصري فكي، وربما يكون اسما مستعارا، فأصدر كتابا عن منشورات ستوديراما تحت عنوان «انتفاضات في العالم العربي: الجيوسياسة والرهانات». وتبقى الذكرى العاشرة لهجمات الحادي عشر من سبتمبر الحدث المؤهل لمواكبة شاملة بالأخص على المستوى الإعلامي، وعلى صعيد الإصدارات. عشر سنوات إذن عرف خلالها المشهد الدولي، وعلى كل الأصعدة، تحولات جذرية ترجمها ترسخ التقاطب بين العالم الإسلامي والعالم الغربي. ولا زلنا نعيش اليوم على إيقاعات هذا الشد والجذب. على أي حال، يبقى هذا الحدث بصمة غائرة في مجرى التاريخ الحديث، بحكم القطيعة التي أحدثها بين تاريخ ما قبل وما بعد الهجمات. ويعود الغرب دوما إلى هذه النقطة السوداء، كما لو كان غير قادر على التطهر نهائيا من بقاياها ورواسبها. وقد وفرت الذكرى العاشرة للغرب مناسبة مثلى لإجراء جرد حساب لهذا الحدث، مجرياته، دروسه، آثاره الرمزية، السياسية والثقافية على تصورات المستقبل، وبالأخص بعد تصفية زعيم القاعدة الشيخ بن لادن. في فرنسا كان لهذا الحدث عند وقوعه عام 2001 وقع قوي. إذ ساد الشعور آنذاك بأن البلد مستهدف بدوره، ولم يخبُ منذ ذاك التاريخ الاهتمام بهذا الحدث. وبما أن لفرنسا تقليدا راسخا في سجل الاحتفاء بالموتى، بالحروب والكوارث، كان من الطبيعي أن يجد هذا الحدث مكانه في مفكرة الاحتفالات. وبهذه المناسبة شرعت المحطات الإذاعية في تقديم برامج إذاعية مخصصة لهذه الواقعة مثل «فرانس أنفو»، التي تقدم منذ عشرة أيام سلسلة تحقيقات في الموضوع. كما تزخر المفكرة بالعديد من الأنشطة تشمل الندوات، المحاضرات، برامج تلفزيونية خاصة، مثل السلسلة التي تبثها قناة «أرتي». كما طرحت هذه الأيام في المكتبات عشرات الكتب تستعيد وتتابع هذا الحدث. وهنا إشارة إلى بعض هذه الإصدارات: عن منشورات فايار صدرت دراسة بعنوان «الحادي عشر من سبتمبر: التحقيق المضاد»، وهو بحث من توقيع فابريزيو كالفيه، استغرق ثلاث سنوات من التنقيب، ويعتبر إضاءة جديدة لهذا الحدث الذي يجد أصوله وأسبابه في عقد التسعينيات. أما نيكول باشاران ودومينيك سيموني فقد جمعتا في كتاب بعنوان «الحادي عشر من سبتمبر: يوم الخراب «شهادات لأشخاص عاشوا صدمة هذا الحدث. واتجه اهتمام بعض الباحثين إلى التنقيب عن الأوجه الغامضة، التي أحاطت بهذا الحدث. في هذا الصدد تندرج الدراسة، التي أعدها مهدي با بعنوان «11 سؤالا عن الحادي عشر من سبتمبر». و صدر المؤلف عن منشورات غازوفيتشيش. أما الصحافي ريشارد لابيفيير فيصدر دراسة بعنوان «11 لغزا عن الحادي عشر من سبتمبر». فيما سلط فرانسوا برانجير الضوء في كتاب بعنوان «هؤلاء العملاء الذين كتمت أصواتهم» على عملية الطمس التي طالت شهادات عملاء كانت بحوزتهم معطيات خطيرة مناقضة للأطروحة الرسمية. الكتاب صدر عن منشورات توكان. كما صدرت مؤلفات مصورة عن الحادث، من بينها «نيويورك في 11 سبتمبر» بتوقيع جان-ميشال تيربان وجان-كريستوف ريفان عن منشورات لامارتينيير، فيما أصدر نيكولا فادو كتابا مصورا تحت عنوان «11 سبتمبر: عشر سنوات فيما بعد وفي 150 رسما». وفي نفس الموضوع صدرت أبحاث، ركزت الحديث هذه المرة على ظاهرة الإرهاب بعد أسامة بن لادن مثل الدراسة التي وقعها بارتيليمي كورمان عن منشورات بوران بعنوان «ما بعد بن لادن : عدو بلا وجه». أما غزافييه روفير فأصدر عن منشورات بلون بحثا تحت عنوان «حروب الغد بعد بن لادن». أما مايكل برازان، فقام بجرد تاريخي للإرهاب في بحث بعنوان «تاريخ الإرهاب من 1945 إلى 2011» عن منشورات فلاماريون.
دروس يجب استخلاصها على ضوء هذه الإصدارات ثمة دروس أولية يمكن استخلاصها من هذا الحدث ومن أساليب معالجته. أهم هذه الدروس فشل الخبراء الذين نصبوا أنفسهم أصحاب قول فصل في شؤون التطرف والإرهاب ومنظمة القاعدة، وهم خبراء كيفوا بتدخلاتهم الاختزالية الرأي العام الفرنسي والغربي. ثاني درس هو أن منظمة القاعدة لم تتسبب في وقوع ذاك التسوماني، الذي تنبأ البعض باكتساحه العالم الإسلامي. وقد أبانت الثورات العربية عن أن الإسلام لا يشكل خطرا على الديمقراطية. ثالث الدروس هو أن القاعدة لا تتماهى مع الشيخ بن لادن وأنها فرديات مستقلة. كما أن بعض الأنظمة وبعض مصالح الاستعلامات فبركت تنظيمات نسبتها إلى القاعدة لتبرير سياسة القمع . الدرس الرابع هو أن ذكرى هذا الحدث لم تحظ باهتمام يذكر في العالم الإسلامي. ويبقى أهم درس يمكن أن نستخلصه من هذه الذكرى هو أن الغرب لا يقدر على العيش من دون خوف ومن دون أعداء، حقيقيين كانوا أو وهميين. في هذا الاتجاه تأتي الدراسة التي أنجزها الباحث وعالم السياسة باسكال بونيفاس بعنوان «مثقفون التزييف» لتسلط الضوء على كوكبة من المثقفين يستحوذون على المشهد الإعلامي والثقافي الفرنسي ويجمعهم قاسم مشترك هو نزعتهم الإسلاموفوبية. لهذه النخبة موقعها المميز على قنوات التلفزيون، كما تحظى بحيز وافر على صفحات اليوميات أو الأسبوعيات تطل منه للإفتاء في مواضيع مستهلكة يوميا مثل الهجرة والتطرف، الإسلام والأصولية، الحجاب والمساجد، العنف والضواحي. وقد أصبحت للمتفرج والقارئ ألفة بهذه الوجوه والأسماء. وباستثناء الكتاب الذي أصدره الكاتب والصحافي ومدير شهرية «لوموند ديبلوماتيك»، سيرج حليمي بعنوان «كلاب الحراسة الجدد»، الذي خلف دويا قويا عند صدوره، إذ لم يجرؤ أحد على التصدي للنفوذ الإعلامي والثقافي لهذه النخبة. وإن عبرت بعض الأقلام عن انتقادات لهذا الكاتب أو ذاك الإعلامي أو المحلل السياسي، فإنها لم تتناول الظاهرة في شموليتها كمظهر للتحكم في الخبر وفي توجيه الرأي العام. لذا تعتبر البادرة التي أقدم عليها الباحث والمفكر باسكال بونيفاس، رئيس معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية في باريس، في كتابه «مثقفو التزييف»، مساهمة أولية في مقاربة هذه الظاهرة وتفكيك خيوط التواصل التي تربط حلقاتها. من كان يعتقد أن هذا الكتاب، الذي يحمل عنوانا فرعيا باسم «انتصار خبراء الكذب»، سيحتل يوما المرتبة الثانية في قائمة الكتب الأكثر مبيعا في فرنسا؟ حتى المؤلف نفسه أعرب عن مفاجأته للإقبال الذي خص به القراء الكتاب، خصوصا أن أربع عشرة من دور النشر الفرنسية رفضت نشره لأسباب ومبررات تتعلق بموضوعه السجالي وبالوزن النافذ إعلاميا وثقافيا للأشخاص الذين انصب عليهم البحث. وفي بعض الردود التي وصلته، يشير بونيفاس إلى أن الناشرين أثنوا على الكتاب، لكنهم رفضوا نشره كي لا يتعرضوا لمقاطعة أو انتقام هؤلاء المثقفين. ويقوم هذا العمل على مشروع جريء وبسيط هدفه فضح ومناهضة الاستحواذ والهيمنة التي فرضتها وتفرضها بعض الأقلام في مجال الصحافة، الفكر، والتعليق السياسي. وتضم القائمة التي استند عليها بحث بونيفاس ثمانية أسماء تتقن فن التمويه والتزييف، وهي، في نظر بونيفاس، من كبار مزيفي القرن الواحد والعشرين. والمزيفون هم: ألكسندر أدلير، كارولين فوريست، محمد السيفاوي، تيريز ديلبيش، فرديريك أنسيل، فرانسوا هايزبوغ، فيليب فال، وبيرنارد هنري ليفي، الذي لقبه بونيفاس ب«سيد المزيفين». ويرى هذا الأخير أن القاسم المشترك الذي يجمع بينهم هو معاداتهم للإسلام في فرنسا ودفاعهم عن إسرائيل. الأطروحة القوية الثانية التي يستند عليها هذا البحث هو طرحه من جديد مسألة المثقف ومساءلته للعلاقة المحرفة، المنحرفة والمغلوطة بين رجل الإعلام والمثقف. هل يمكن اعتبار صحافي مثل محمد السيفاوي مثقفا؟ هل يجب أن يثق القارئ بفذلكاته السريعة في قضايا خطيرة تتطلب تحليلا رصينا وجديا، فيما لا يعدو هذا الشخص كونه المتهجم النافع للغرب؟ لما يبحث الإعلامي عن المزيد من الأخبار، يشتغل المثقف بتأن على فهم الطريقة التي يصنع بها الخبر والرسالة أو الرسائل التي يحملها هذا الخبر. هنا أوجه التعارض بين الصحافي والمثقف. لذا تحترف هذه الكوكبة التزييف والتلفيق، حسب باسكال بونيفاس. إذ هي بارعة في ابتكار مفاهيم تسري كالنار في الحطب على صفحات الجرائد وعلى الأثير مثل مفهوم le fascislamisme، الفاشية الأصولية كما لو كانت بقية الديانات بمعزل عن مد العنف والتطرف. تتزاوج وتتلاقح أطروحات هؤلاء المثقفين المزيفين مع أطروحات المحافظين الأمريكيين الجدد، الذين بنوا سمعتهم على فكرة التصادم الحضاري بين الشرق والغرب. وقد تسببت هذه الأيديولوجية كما هو معروف في حروب العراق، وما تلاها من كوارث ومآس. لما صدر كتاب باسكال بونيفاس استقبلته الصحافة بنوع من اللامبالاة، باستثناء صحيفة «لوموند»، التي خصته بمقال مقتضب، وبعض الصحف الأخرى التي أشارت إليه إشارة عابرة. وكما كان الشأن مع كتاب ستيفين هيسيل، جاء رأي وموقف القارئ حاسما وفاصلا، إذ بلغ عدد المبيعات 60 ألف نسخة، وهو مكسب معنوي للمؤلف والناشر جان-كلود غافزوفيتش، الذي كانت له شجاعة إصدار هذا البحث الذي يعتبر بحق إضاءة فكرية مميزة في المشهد الثقافي بفرنسا.